الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة

الشيخ محمود سكر.. القرَّاء المكين

الشيخ محمود سكر هو أقدم معلمي القرآن الكريم بالمملكة العربية السعودية.. وقد أفنى أكثر من ثلاثة أرباع عمره في حفظ كتاب الله الكريم وتجويده وأدائه

كيوبوست

كان العالم اللغوي والمحقق التراثي الراحل؛ المرحوم الدكتور محمود الطناحي، يفرق بين “القارئ” و”المقرئ” في دراساته عن “قرّاء” القرآن الكريم، فكان يقول رحمه الله: لا بد من التفرقة بين «القارئ» و«المقرئ»، ومعروف أن لمصر في الفريقين تاريخاً عريضاً وأياماً زاهية. فالقارئ: هو الذي يقرأ لنفسه، وقد يسمعه غيره. والمقرئ: هو الذي يُقرئ غيره، تعليماً وتوجيهاً، وتقول اللغة: «رجل قارئ، من قوم قرّاء وقَرَأة -بوزن فَعَلَة- وقارئين، وأقرأ غيره يُقرئه إقراءً، ومنه قيل: فلان المقرئ».

وبهذه التفرقة بين الفعل اللازم والفعل المتعدي، يحسن أن نقول عن الذي يقرأ بصوت حسن في المناسبات، وفي الإذاعة، كالشيخ مصطفى إسماعيل، ومن إليه: “قارئاً”، ونقول عن الذي يحفِّظ الصغار في الكتاتيب وجماعات تحفيظ القرآن: “مقرئاً”.

ثم يوضح رحمه الله أن «للمقرئ» في تاريخنا التراثي معنى أوسع وأشمل من مجرد تحفيظ القرآن للصغار، ومن فوقهم؛ فالمقرئ: هو ذلك العالم الذي يعرف القراءات القرآنية: رواية ودراية؛ بحيث يكون قادراً على جَمْع الطرق والروايات، ومعرفة وجوه الخلاف بين القراء، والاحتجاج للقراءات وتوجيهها من لغة العرب، ويكون أيضاً متقناً لطرق الأداء -وهو ما يُعرف بعلم التجويد- ووقوف القرآن: الكافي منها والتام والحسن؛ ثم يتلقى الناس عنه ذلك كله مشافهة وسماعاً.

اقرأ أيضًا: الطبلاوي.. آخر سلالة الحناجر الذهبية

وقد نبغ في كل زمان ومكان مَن قاموا بهذا الأمر على خير وجه، فضلاً من الله وحياطة لكتابه وحفظاً له؛ لكن الأمر كاد يخلص لمصر في القرنين الأخيرين، حسب الدكتور الطناحي، فتربع قرّاؤها على عرش الإقراء والقراءة: رواية ودراية وجمال صوت، وصارت الرحلة إليهم من الشرق ومن الغرب.

إلى هذه المدرسة المباركة رفيعة القدر، ينتمي الشيخ المقرئ الجليل محمود سكر، الذي توفي قبل أيام بالقاهرة عن عمر ناهز التسعين.

الشيخ محمود سكر؛ هو أقدم معلمي القرآن الكريم بالمملكة العربية السعودية، وقد أفنى أكثر من ثلاثة أرباع عمره في حفظ كتاب الله الكريم، وتجويده وأدائه؛ رواية ودراية، تدريساً وتعليماً، إلى أن وافاه الأجل، ومعه ذخيرة من حسن السيرة وطيب السمعة، وإرث كبير من المحبة والاحترام التي حازها عبر مسيرته، وعبر سنوات عمره التي درَّس فيها القرآن الكريم لأجيالٍ وأجيالٍ من المسلمين العرب وغير العرب على السواء.

كما تجلى ذلك الإرث الطيب في العشرات من طلابه، ومَن تلقوا العلم على يديه الذين نعوه بأحرّ وأصدق عبارات التعازي على وسائل التواصل الاجتماعي.

جاء في ديباجة التعريف الوجيز بالشيخ سكر أنه “شيخ مقرئ، كان يصحح التلاوات في برنامج دوحة القرآن بقناة (المجد)، وكذلك في إذاعة القرآن الكريم، أخذ رواية حفص عن عاصم من معهد القراءات، والشهادة العالية في القراءات العشر الصغرى، وهي الشاطبية والدرة، وتخصص قراءات وهي العشر الكبرى، مع علم الفواصل وعلم الرسم وعلوم القرآن الأخرى. ودرس على فضيلة المقرئ: عامر السيد عثمان، والشيخ علي بدوي، والشيخ سيد البنّا”.

كان الشيخ سكر، رحمه الله، ينتمي إلى الجيل السابق للشيخ المرحوم رشاد السيسي الذي كان يشغل بدوره كبير معلمي القرآن الكريم بالحرم المدني الشريف؛ كلاهما تلقَّى العلم الشريف وأصول القراءة والإقراء في الكتاب والمعاهد الأزهرية، وعلى يد أكبر المشايخ في عموم القراء المصريين؛ وقام كلاهما بدرس وتدريس القرآن منذ سنوات صباهما الباكر إلى أن وافاهما الأجل.

اقرأ أيضًا: صراعات و”شللية” تهدِّد وقار القراء في مصر

الشيخ سكر من مواليد قرية أبو غالب؛ من أعمال إمبابة بالقاهرة، ومثله مثل عشرات الآلاف الذين نشأوا في الريف، كان يعمل في الأرض ويساعد والده في حرثها، في الوقت الذي يبحث فيه عن موضع قدم في طريق العلم الذي كان يتمثل في حفظ القرآن وتجويده.

عانى الشيخ في صباه الظروف المعيشية الصعبة، وتأخر حفظه لكتاب الله حتى وصل إلى سن الرابعة عشرة. وآنذاك، تم افتتاح قسم ليلي للتعليم في قريته فالتحق به، وخلال عام واحد فقط أتم حفظ الكتاب الكريم، ليتاح له بعد ذلك الالتحاق بمعهد القراءات بجامع الأزهر الشريف، الذي درس فيه علوم النحو والصرف والبلاغة والتفسير وعلوم القرآن والفواصل والرسم، وحصل على إجازة التجويد برواية “حفص عن عاصم”، ثم الشهادة العالية في القراءات العشر الصغرى، وهي “الشاطبية والدرة”، ومن ثمَّ شهادة في تخصص القراءات؛ وهي في العشر الكبرى.

الشخ محمود سكر

وبعد أن تخرج في المعهد، التحق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر، وحصل على شهادة “الليسانس”، ثم تقدم إلى قسم أصول الفقه بكلية الشريعة في مصر؛ للحصول على درجة الماجستير في أصول الفقه، لكنه لم يكمل تلك الخطوة؛ إذ سافر إلى السعودية للعمل في تدريس القرآن.

ولعل الشيخ في هذا المسار الشاق الذي اختاره، كان من القلائل الذي اجتازوه بدأب وإصرار وكفاءة، وكل مَن اتصل بهذا الجانب من درس كتاب الله الكريم يعلم أن الجانب الصوتي والشفاهي والأداء المحكم في القراءة تلاوةً وتجويداً يحتاج إلى ملكات ومهارات، واستعداد خاص وذائقة طيعة، وأُذن مرهفة ولسان مرن، فضلاً على صفاء القريحة وجودة الذهن وقوة الحافظة.

اقرأ أيضًا: صوت السماء.. الشيخ محمد رفعت مع مصطفى سعيد

ولولا ما توفر للشيخ الكريم من هذه الصفات والأدوات، ما كان وصل إلى هذه المكانة الرفيعة في العلم الشريف؛ وإقراء القرآن الكريم وتجويده وتحفيظه في المعاهد والمدارس المتخصصة في ذلك، في مصر والسعودية على السواء.

وعبر رحلة طويلة، تنقل خلالها الشيخ بين القاهرة ومدن سعودية مختلفة، عمل فيها بنفس الوظيفة وهي تحفيظ القرآن وتجويده بمدارسها ومعاهدها المتخصصة، بقي هناك سنين طويلة، وأُحيل في نهايتها إلى التقاعد، وذلك قبل عشرين عاماً، بعد مسيرة حافلة في العمل بمجال التحفيظ، شهد فيها تطور هذا المجال الذي اقتصر عند قدومه إلى السعودية أول مرة على وجود مدرسة واحدة لتحفيظ القرآن الكريم تابعة لوزارة المعارف.

أحد الذين تتلمذوا على يد الشيخ الجليل قال إنه ليس للراحل مؤلفات مكتوبة بحكم طبيعة تخصصه في تحفيظ القرآن الكريم؛ لكنه أشار إلى أن له تسجيلاً صوتياً اسمه «النضيد في أحكام التجويد»، يمثل خلاصة تجربته في تعليم كتاب الله وقراءات القرآن الكريم.

 اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة