
كتب – محمد الحسين
من تمطى باسمًا ظهر النمر / حتمًا سيأكله ويبتسم النمر.
صاغ الصادق المهدي هذا البيت في وصفه للانقلابات الثلاثة التي وقعت في تاريخ السودان الحديث، حين جرى تسليم السلطة للجيش، هي على النحو التالي:
أولًا: انقلاب 1958، عندما طلب عبدالله خليل من العسكر، على رأسهم إبراهيم عبود، أن يتسلموا السلطة نكاية برئيس حزب الأمة عبدالله الصديق. وحينما استلم عبود السلطة، أوقف العمل بالدستور، وألغى البرلمان، وقضى على نشاط الأحزاب السياسية، ومنح المجالس المحلية المزيد من السلطة وحرية العمل، وبارك انقلابه القادة الدينيون في ذلك الوقت لأكبر جماعتين دينيتين: عبد الرحمن المهدي زعيم الأنصار، وعلي الميرغني زعيم طائفة الختمية.
اقرأ أيضًا: من يدفع بالبشير لإكمال 35 عامًا في حكم السودان؟
ثانيًا: انقلاب 1964، ثورة شعبية على نظام العسكر، ثم تسليم الحكم لحكومة ائتلافية. في 25 مايو/أيار 1969، انقلب الجيش على حكومة رئيس حزب الأمة الصادق المهدي بقيادة جعفر نميري، وعاد حكم العسكر بعد 5 سنوات من الحرية، استلمها الجيش بقيادة نميري، ولكن انخرطت في معارضته معظم الأحزاب السودانية، وقاد المعارضة المهدي.
واتجه حكم النميري باتجاه التضييق على العمل الحزبي والسياسي، وقد حل الأحزاب وصادر دورها، كما اتخذ سياسة فاقمت من مشكلة جنوب السودان؛ إذ عمل على أسلمة وتعريب الجنوب. أطاحت به ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964 الشعبية، وقد استجاب لضغط الجماهير بتسليم السلطة للحكومة الانتقالية التي كونتها جبهة الهيئات.
ثالثًا: انقلاب 1989، انقلاب مدني تم تنزيله على صورة انقلاب عسكري، قبل أن يختطف الجيش السلطة. ومنذ ذلك العام، لم يستطع أحد أن يقوم بأي حركة تزعزع الحزب الحاكم، وهذا يُعطي دلالة واضحة على أن هذا النظام قد ترسخت أقدامه في السلطة، ويتوجب أن يوضع هذا في الاعتبار عند أي تحرك، وهذا مجرد تحليل للأحداث وتفسير لها، علمًا بأن ما فعله عبود في الانقلاب الأول قد فعلته حكومة الإنقاذ بطرق احترافية تسبغ عليها شرعية دستورية.
عودة قوش

إن رجوع رجل المخابرات صلاح قوش في جميع التحليلات والتصورات والرؤى حيال ما جرى من تغيير في مراكز قوى السلطة يوحي بقوة الرئيس البشير، لأن قوش كان قويًا قبل أن يتم تنحيته؛ بل إنه كان المُحَرك الحقيقي لمسألة وفكرة الحوار الوطني، قبل أن يبدأ، أو يظهر على السطح، أو تأتي به الحكومة في مستشارية الأمن، وذلك باعتراف الصادق المهدي، إذ كان قوش مثل خلية النحل يجتمع بالأحزاب ورؤسائها؛ كي يتم الحوار ويديره بشكل سري.
كما تبنى صلاح قوش الأجندة الوطنية في اليوم الذي تم اعتقاله فيه، فاعتبارات تعيينه لا يمكن الجزم بها إلا من خلال معلومات يقينية، بيد أن ما نملكه من معلومات وشواهد شخصية من كتاب ومفكرين سودانيين وتحليلات من خلال التاريخ السابق للحزب الحاكم تؤكد بأن الرئيس لا يزال قويًا، وهذه الحقيقة يمكن اعتبارها هي الأصل، وما عداها تكون ظنونًا، حتى يتم إسقاط الأصل الذي تم اعتباره، وهو قوة الرئيس.
ومن خلال متابعات كثير من المحللين السياسيين السودانيين خارج السودان، وجدتهم يؤكدون على أن رجوع قوش، وتعيينه مرةً أخرى كان صدمةً وأمرًا غير متوقع.
إن النظام الحاكم له أعمدة قوية لا يمكن اختراقها بتلك السهولة، وإن رجوع هذا الرجل له دلالات قوية على أن الدوائر المؤثرة في اتخاذ القرار هي دوائر ضيقة جدًا وقوية، وهذا له شواهد من خلال مذكرات لكبار الشخصيات التي كانت فاعلة في تثبيت وترسيخ قواعد النظام الحالي، وكذلك من خلال المؤلفات التي تنقل عن مصادر كانت في النظام ثم تخلت عنه، ويمثل هؤلاء الضباط ذوي الرتب غير العالية.
الجهاز الشعبي
وتؤكد هذه المصادر على أن هناك جهازًا أمنيًا يُسمى الجهاز الشعبي (يُسمى أيضًا جهاز المعلومات الخاص)، قد تأسس منذ بدايات تكوين الحركة الإسلامية بعد انقلاب عبود في 1964، فبدأت تكوينات الأجهزة السرية الأمنية للحركة الإسلامية، ثم امتدت وتوسعت في الأجهزة العسكرية بدعم من قيادات الحركة الإسلامية، عبر التشجيع على اقتحام مقرات الجيش والأجهزة الأمنية، ثم ما إن وقع انقلاب 1989، إلا وقد أصبح الجهاز الأمني الشعبي جهازًا كبيرًا ومتحكمًا ومتغلغًا، ولديه القدرة الهائلة على ضبط الأمور الأمنية والاقتصادية والثقافية، ولديه قدرة على إحكام حركة توازن المجتمع.
تؤكد المصادر أن الجهاز الشعبي الأمني هو فوق كل جهاز ومؤسسة ووزارة، بل هو الموجه الحقيقي، ومصدر القرارات الفعلية، وأن كل ما يتم اتخاذه من إجراءات أو فرض قوانين -ولو كانت في المجلس التشريعي- فإنها لا تكون نافذة ولا فاعلة ولا أثر لها إلا بعد موافقة هذا المجلس، وكذلك تم تشكيل مجلس طوارئ انضم إليه آلاف المدربين على السلاح.
وهناك اللجنة السداسية التي تم تشكيلها بدايات انقلاب 1989، المسؤولة عن لجنة الأمن والعمليات العليا، وهي مشكّلة من كبار ضباط الجيش، ويرأسها اللواء الزبير محمد صالح، ثم جرى تكوين جهازين للأمن الداخلي برئاسة بكري حسن صالح وخارجي برئاسة علي نافع، وتم الاهتمام بتدريب كثير من الجامعيين. ونالت تلك الأجهزة تدريبًا خاصًا من المهندسين بما فيهم (قوش).
واختصارًا للسرد التاريخي، مع أنني أراه مهمًا جدًا لفهم حقيقة السودان، فإن انقلاب 1989 قد أسس جهازًا أمنيًا اسمه (مداخل) عام 1995، ثم حله الترابي بعد فشل اغتيال الرئيس المصري، ثم ضُمَّت جميع الأجهزة في جهاز الأمن الشعبي الذي يوازي جهاز الأمن والمخابرات الوطني، بل إن جهاز الأمن الشعبي يعلوه.
وفي تحليلي لما ورد في الكتب والمذكرات، فإن هذا الجهاز الشعبي له وجود حقيقي، وهو الممسك بزمام الأمور، وأن القرار السيادي والمتعلق بأهم مفاصل الدولة لا يتم اتخاذه إلا بموافقة هذا الجهاز، وهذا يعني أنه لا يزال مطمئنًا للرئيس البشير ويفضله على جميع الخيارات، ويتوجب على صناع سياسات المنطقة عدم إغفال هذا الجانب والعمل من خلاله، حفاظًا على أمن واستقرار المنطقة، وجذب القوى التي يمكن أن تكون حليفًا نافذًا ومتمكنًا.