الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية

«10% ديمقراطية أقل».. كتاب عن النخب والجماهير واتخاذ القرار

يعتقد غاريت جونز في كتابه أنه نظراً لأن الناس لا يصوتون دائماً لما فيه مصلحتهم.. فإن البلدان التي وصلت إلى الربع الأعلى من سلم الديمقراطية ينبغي أن تضع حدوداً أكثر إحكاماً

كيوبوست – ترجمات

غاريت جونز♦

علم غاريت جونز، أستاذ الاقتصاد في جامعة جورج ميسون بولاية فرجينيا، أن لديه خبراً جيداً حين تلقى اتصالاً من شرطة الحرم الجامعي؛ حيث كتب أحد الصحفيين الطلاب تقريراً عن محاضرة ألقاها وأشار فيها إلى أن البلدان الغنية ستكون في حال أفضل إذا كانت أقل ديمقراطية، عوضاً عن أن تكون أكثر ديمقراطية. وكان رد الفعل العدائي، الذي امتد إلى خارج الجامعة، يتضمن نداءً مهدداً بما يكفي لإزعاج قوات الأمن الخاصة في الجامعة.

اقرأ أيضاً: عزاء للرئيس أم تشييع لعهده؟ ترامب يمر بأصعب اختبارات القيادة!

وخلص جونز إلى أن لديه فكرة قوية ومثيرة للجدل بما يكفي لتحويلها إلى كتاب جاء تحت عنوان “10% ديمقراطية أقل”. وإذا كنا في وقتٍ خصب لانتقاد الديمقراطية مع استخدام القادة المنتخبين أجهزة الدولة لتقويض المعارضين في الولايات المتحدة، وقتل الناس في الفلبين، وتحويل الأقلية الدينية إلى أقلية بلا دولة في الهند، وتهديد استقلال القضاء في بولندا، وسرقة المال العام في جنوب إفريقيا، فإن النظام الذي كان لفترة طويلة يوفر للعالم الغني مزيجاً مُرضياً من التفوق الأخلاقي والحكومة المستقرة، يبدو الآن مترنحاً بعض الشيء.

ومؤخراً، أفاد تقرير صادر عن مركز “مستقبل الديمقراطية” بجامعة كامبريدج، أن دعم الديمقراطية قد انخفض بشكل حاد في معظم أنحاء العالم منذ التسعينيات؛ بما في ذلك الولايات المتحدة وغرب وجنوب أوروبا. وفي الوقت نفسه، يحقق أضخم نظام استبدادي في العالم الرخاء لسكانه ويوسع نفوذه حول العالم.

اقرأ أيضاً: في الهند.. محاولات لنفي المسلمين من المجتمع

ولكن كما اكتشف جونز، فإن انتقاد الديمقراطية في الغرب لا يزال أشبه إلى حد ما بانتقاد البابا في أوروبا في القرن الخامس عشر، أو معارضة رئيس مستبد في العصر الحديث. وبوسعك أن تصرح بأن كل شيء لن يسير وفق الخطة، أو تلقي باللوم على المستشارين المراوغين أو التدخل الأجنبي؛ لكن لا يمكنك انتقاد مفهوم الديمقراطية ذاته.

أحد المقرات الانتخابية خلال انتخابات الرئاسة الأمريكية السابقة- أرشيف

وقد عزا ديفيد رنسيمان، في كتابه الأخير «كيف تنتهي الديمقراطية؟»، المحنة التي تواجهها الديمقراطية إلى الانحلال الأخلاقي والتفسخ. وزعم أن النظام كان أكثر صحة عندما تسبب التغيير أو الصراع الذي طرأ على توسيع حق الامتياز في النصف الأول من القرن العشرين في الحرب العالمية الثانية. كما أكد بانكاج، مشيراً في كتابه «عصر الغضب» إلى أن المشكلة تكمن في الفجوة المتزايدة بين النظام السياسي الذي يعِد بالمساواة والنظام الاقتصادي الذي يؤدي إلى عدم المساواة.

اقرأ أيضاً: أزمة الوطن العربي.. لماذا أُجّل الحديث عن الديمقراطية لصالح العلمانية؟

وعلى النقيضِ من ذلك، فإن جونز يلقي بالمسؤولية بشكل مباشر على عاتق الناخبين. وباعتباره خبيراً اقتصادياً، فإنه ينظر إلى الديمقراطية كونها نظاماً إنتاجياً يتلخص منتجه في شكل الحكم، ويركز على الكيفية التي يمكن من خلالها تعديله لتحسين هذا المنتج. وبناءً على ذلك الطرح، فإن جوهر كتاب «10% ديمقراطية أقل» يتلخص في البحث حول ما إذا كانت الديمقراطية قد تؤدي إلى نتائج أفضل أو أسوأ بالنسبة إلى الدول والمواطنين.

مبكراً وأقل تواتراً

كما يوحي العنوان، فإن نقد جونز للديمقراطية يدور ضمن نطاق ضيق. وهو يُقرّ بأن المجازر والمجاعات من غير المرجح أن تحدث في الأنظمة الديمقراطية بقدر ما تحدث في الأنظمة الاستبدادية، وأن هناك ارتباطاً واضحاً بين الديمقراطية والازدهار. لكنه أيضاً يشكك في ادعاء دارون أسيموغلو، في ورقة بحثية نُشرت العام الماضي، أن “الديمقراطية تؤدي إلى النمو”؛ حيث أفادت الورقة أنه عندما أصبحت الدول غير الديمقراطية ديمقراطية، فإنها نمت بشكل أسرع، ما أدى إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي للفرد بمعدل 20% على المدى الطويل.

مسيرة لمجموعة من النسويات والاشتراكيين الديمقراطيين للمطالبة بالمساواة في امتيازات الرعاية الصحية.. نيويورك يونيو 2020- وكالات

لكن الديمقراطية، كما يشير جونز، ليست معياراً ثابتاً. فالبلدان يمكن أن تكون أكثر أو أقل ديمقراطية. ولا توجد دولة حديثة، حتى سويسرا، ديمقراطية بالقدر الذي كانت تتمتع به أثينا القديمة؛ حيث صوَّت المواطنون لاستدعاء قادتهم العسكريين من أسبرطة.

فجميع الديمقراطيات تحد من المشاركة الشعبية في صنع القرار الجماعي؛ سواء بتسليم المسؤولية للممثلين المنتخبين لاتخاذ قرارات كبيرة، أو بتعيين قضاة وغيرهم من الموظفين العموميين. ويعتقد جونز أنه نظراً إلى أن الناس لا يصوتون دائماً لما فيه مصلحتهم، فإن البلدان التي وصلت إلى الربع الأعلى من سلم الديمقراطية ينبغي أن تضع حدوداً أكثر إحكاماً.

اقرأ أيضاً: إسرائيل.. الهجرة غير الشرعية تؤجج الصراع بين الديمقراطية والليبرالية

وعلى سبيلِ المثال، فقد أظهرت دراسة أجراها ألبرتو أليسينا ولورنس سامرز عام 1993، أن التضخم كان أقل في البلدان التي لديها مصارف مركزية مستقلة. وكانت الخدعة تتلخص ببساطة في تسليم المسؤولية عن المعروض من النقود إلى مسؤولٍ ليست له مصلحة في استخدامها لتعزيز النمو في الفترة التي تسبق الانتخابات.

رئيسة الوزراء تيريزا ماي تخاطب البرلمان بعد التصويت على صفقة بريكست.. لندن- بريطانيا يناير 2019- “رويترز”

وفي أفضل نكتة عن محافظي البنك المركزي، أو بالأحرى هي النكتة الوحيدة، ذهب أحد الطلاب لزيارة أستاذه السابق الذي أصبح محافظاً للبنك المركزي. وحينما دقّ جرس الهاتف أجاب الأستاذ: “لا.. لا.. لا.. لا.. نعم.. لا.. لا”، ثم أغلق الخط، فسأل الطالب أستاذه: مَن المتصل؟ فقال الأستاذ: وزير المالية، فتساءل الطالب: ما الذي أجبت عليه بنعم؟ فقال الأستاذ: لقد سألني عما إذا كنت أستطيع سماعه.

وعلى نحوٍ مماثل، أصبح هيكل الهيئات التنظيمية أكثر قوة بفضل الاستقلالية. كما تستفيد التجارة الحرة أيضاً عندما تكون بعيدة عن الديمقراطية، فكلما اقترب الساسة من عام الانتخابات تضاءل احتمال تصويتهم لصالح التدابير الرامية إلى تحرير التجارة.

اقرأ أيضاً: الانتخابات البريطانية.. أوهام النخبة وفشل حزب العمال يحسمان معركة البريكست

وفي أمريكا، التي كرست نفسها تاريخياً للديمقراطية، يتم انتخاب جميع أنواع المسؤولين. وتتيح الاختلافات بين ولاية وأخرى مقارنة الأداء بين نوع معين من المسؤولين. وقد تبين أن القضاة المنتخبين يصدرون الأحكام الأكثر سوءاً، كما أن أمناء الخزانة المنتخبين في المدن يكلفون دافعي الضرائب أكثر (وإن لم يكن العديد منهم على القدر نفسه من العجز الذي يتمتع به الرجل الذي استشار وسيطاً روحانياً لمساعدته في إدارة أموال الناخبين، ثم أفلس في نهاية المطاف في مقاطعة أورانج).

ثمن يستحق أن ندفعه

يحشد غاريت جونز الكثير من الأدلة المقنعة التي تشير إلى أن انتخابات أقل ومسافة أكبر بين الناخبين والقرارات تؤدي إلى ممارسة الحكم بشكل أفضل؛ لكنه يوسع حجة تقييد الديمقراطية إلى ما هو أبعد كثيراً من هذا الرصد. كما يميل إلى مبدأ “الباستوقراطية”، أو الحكم من قِبل أشخاص أذكياء، وهو يدعو إلى إعطاء دور رسمي في اتخاذ القرار لحاملي السندات، الذين يعملون بالفعل على تقييد حرية الحكومات من خلال زيادة تكاليف الإقراض للبلدان التي تُدار بشكل سيئ.

غلاف كتاب «10% ديمقراطية أقل» للكاتب غاريت جونز

وتكشف هذه الحجج عن الخلل الذي يكمن في قلب هذا الكتاب الشيق؛ لأن جونز ينظر إلى الديمقراطية كنظام اقتصادي، ولكن بالنسبة إلى معظم الناس، فإن العنصر الأخلاقي للنظام الديمقراطي أساسي أيضاً. وهو تعبير عن الاعتقاد بأن الجميع سواسية أمام الله أو أمام صناديق الاقتراع، وأن شعب أي بلد ينبغي أن تكون له سلطة على حكومته. فتقليص الديمقراطية قد يعني نتائج أكثر عقلانية؛ لكنه يعني أيضاً قدراً أقل من الشرعية. وتوضح الأحداث الأخيرة هذه النقطة؛ حيث تعد هونغ كونغ مثلاً من نواحٍ كثيرة مكاناً محكوماً بشكل رائع ويتمتع بنظام اجتماعي موثوق واقتصاد مزدهر، مع ديمقراطية محدودة للغاية.

اقرأ أيضاً: كيف تشكل الإسلاموية تحدياً خطيراً للمجتمعات الديمقراطية؟

وكانت نتيجة انتخابات العام الماضي، والتي دعم فيها الناخبون المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية، بمثابة رسالة واضحة إلى أباطرة الإقليم الصينيين، مفادها أن الشعب يريد أن يكون له صوت أكبر، حتى ولو كان ذلك على حساب قدر أقل من الاستقرار.

ومن جانب آخر، يُعَد الاتحاد الأوروبي نموذجاً للتعاون واتخاذ القرارات العقلانية. ورغم هذا فقد خسر واحداً من أكبر أعضائه، بريطانيا، ويرجع هذا جزئياً إلى شعور الناخبين البريطانيين بعدم ارتباطهم بهياكل الحكم في بلادهم. وقد يتخذ التكنوقراط قرارات عقلانية؛ لكن الديمقراطية من دون شرعية تصبح سفينة من دون شراع.

أستاذ الاقتصاد في جامعة جورج ميسون بولاية فرجينيا

المصدر: الإكونوميست

عنوان الكتاب: «10% ديمقراطية أقل.. لماذا يجب أن تثق بالنخب أكثر قليلاً وبالجماهير أقل قليلاً؟»

مطبعة: جامعة ستانفورد، 248 صفحة.

 اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة