الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربيةمقالات

العرب والساسانيون.. وجه آخر للصراع

كيوبوست

تيسير خلف♦

يرتبط ظهور الإمبراطورية الساسانية (من عام 226 إلى 651 ميلادي) بحدثَين عالميَّين كبيرَين؛ الأول انهيار مملكة الصين الموحدة وانقسامها إلى ثلاث ممالك متناحرة، هي مملكة “شو هان” في الغرب، ومملكة “واي” في الوسط والشمال، ومملكة “وو” في الجنوب والجنوب الشرقي. والحدث الثاني هو تخريب مدن السلسلة التجارية العربية التي تبدأ من مدينة عمانا (موقع مليحة في الإمارات العربية المتحدة حالياً)، مروراً بـ”ثلوان” في جزيرة البحرين، و”خاراكس” عاصمة مملكة ميسان العربية في جنوبي العراق، وصولاً إلى مدينتَي “الحضر” عاصمة عربيا، شرقي الموصل الحالية، و”دورا أوروبس” ميناء تدمر على نهر الفرات، جنوبي دير الزور.

لقد كان من نتيجة هذه المتغيرات، تدمير طريق الحرير البحري الذي أسهم في انتعاش العرب على مدى خمسمئة عام، وافتتاح طريق الحرير البري العابر لصحارى آسيا الوسطى وصولاً إلى البحر الأسود، ومنه إلى القسطنطينية وباقي مدن أوروبا. وكان هذا التغيير وبالاً على عرب الخليج والعراق والشام ومدنهم، وازدهارهم، وفي الوقت نفسه مصدر ثراء فاحش للأسرة الساسانية ومَن يتبع لها من حكام أواسط آسيا والقوقاز.

اقرأ أيضًا: متلازمة إيران الخليج العربي

من كاهن إلى إمبراطور

سعى أردشير بن بابك بن ساسان، وهو كاهن زرادشتي من مدينة اصطخر التي تقع إلى الشمال الغربي من شيراز الحالية، للسيطرة على حكم إيران الكبرى منذ عام 220 ميلادي؛ أي في العام نفسه الذي سقطت فيه أسرة هان الغربية الصينية، الشريك التجاري لإمبراطورية البارثيين، ولم يبلغ غايته الأخيرة إلا في عام 226 ميلادي؛ أي أنه خاض حرباً طويلة ضد البارثيين وحلفائهم العرب استمرت ست سنوات، استخلص خلالها السلطة بشكل متدرج، ودمر بشكل منهجي مدن العرب التجارية مدينة مدينة، ولكي يمنع إعادة بنائها من جديد اقترنت سياسته التدميرية بالحرق، وهذا ما نجده واضحاً في مواقع مليحة في الإمارات، والحضر في العراق، ودورا في سوريا.

تواريخ منحازة

وفي ظننا أن المشكلة الأساس في فهم التاريخ الساساني؛ ترتبط بالمؤرخين المسلمين من أصل فارسي، والذين كتبوا تواريخهم عاكسين فيها منطق زمنهم؛ إذ نقرأ في شاهنامة الفردوسي قصة عن متمرد فارسي يُدعى هافت واد، تحالف مع العرب ضد أردشير؛ فما كان من الأخير إلا أن عبر البحر بعد أن قضى على هافت واد، وأخضع العرب في البحرين والساحل والمجاور. ويذكر المؤرخ أبو جرير الطبري أن عدداً كبيراً من ملوك العرب ورؤساء الحجاز تركوا بلادهم وسكنوا البحرين ومدن الخليج؛ أمثال الحجر والحسا وسبع أو ثمان غيرها في عهد الملوك البارثيين (الأشكانيين)، وكانت الحجر، حسب قوله، المدينة الأهم في مدن البحرين، فأجلوا أهلها الأنباط واحتلوا مكانهم. والأنباط في عُرف المؤرخين المسلمين تشمل جميع الآراميين. ومن هنا نشأ حلف التنوخ الذي انطلق نحو جنوب العراق، حسب قوله.

غلاف كتاب “تاريخ الطبري”

ويضيف الطبري أن أردشير، الذي هاجم مدن الخليج، بنى في البحرين مدينة أطلق عليها اسم تبن أردشير، بناها على جثث أهلها؛ لأنهم فارقوا طاعته وعصوا أمره، فبنى سافاً من السور لبناً وسافاً آخر من الجثث، ولذلك سماها تبن أردشير. ويزودنا حمزة الأصفهاني، كعادته، بقوائم المدن والموانئ التي أنشأها أردشير في الخليج والتي بلغت، حسب زعمه، إحدى عشرة مدينة وثمانية موانئ؛ ولم تعثر أي من البعثات الآثارية حتى هذه اللحظة على مدينة واحدة من هذه المدن المزعومة.

ظاهرة الشعوبية

ويمكن تفسير هذه المبالغات التي لجأ إليها المؤرخون المسلمون من أصول فارسية، بالصراع العربي الفارسي أثناء الخلافة العباسية، والذي ولَّد ظاهرة الشعوبية لدى الكثير من مثقفي الفرس المسلمين؛ حيث دأب هؤلاء في مؤلفاتهم على الانتقاص من شأن العرب، مقابل إعلاء شأن ملوك بني ساسان، مسقطين مواقفهم اللحظية على التاريخ، ومحاولين إثبات وجهة نظرهم بالتفوق الفارسي، من خلال تأصيله وجعله صراعاً قديماً بين الحضارة الفارسية والبربرية العربية. علماً بأن المصادر التاريخية الرومانية وقبلها الهلنستية، لا تتحدث عن العرب بوصفهم قوماً من السلابين البداة؛ بل عن قوم فاحشي الثراء، ميالين إلى السلام بطبعهم، ودودين في علاقاتهم مع جوارهم البارثي والهيليني ثم الروماني.

اقرأ أيضًا: مصطلح “الحضارة الفارسية” حقيقة أم وهم؟!

طريق الحرير البري

بعد إغلاق طريق الحرير البحري، وتدمير مدن وموانئ الخليج؛ توطدت علاقات الساسانيين مع سلالة “شو هان”، وبعدها سلالة “ألجين”، والتي كان يهمها تأمين انسياب البضائع على طريق الحرير البري، فضمنه الساسانيون وعملوا على تأمينه قدر ما استطاعوا إلى ذلك من قوة.

وقد ورد في الوثائق الصينية القديمة تقرير عن ثلاثة عشر سفيراً تجارياً ساسانياً جاؤوا إلى الصين. وأشارت الوثائق أيضاً إلى أن النشاطات التجارية بين الساسانيين والصين شهدت نشاطاً ملحوظاً منذ عهد أردشير وابنه شابور الأول؛ حيث نشط طريق الحرير عبر المقاطعات الإيرانية الشمالية، كما أرسل الملوك الساسانيون في مناسبات مختلفة أكثر الراقصين والموسيقيين الفرس موهبة إلى الإمبراطورية الصينية في فترة حكم ليويانغ في عصر سلالة “ألجين” (265م- 420م)، وسلالة “وي الشمالية” وسلالة “تشانجان” وسلالة “تانغ”.. وغيرها.

ويبدو أن السلالات الحاكمة في الإمبراطوريات الصينية، وكذلك الإمبراطورية الساسانية، استفادت من التجارة على طول طريق الحرير عبر آسيا الوسطى. وقد جمعتها المصلحة المشتركة في صون وحماية تلك التجارة، فتعاونت في حراسة طريق الحرير البري، وحفرت الآبار في مناطق الحدود الآمنة؛ لإبقاء القوافل بعيدة من قطاع الطرق وقبائل الترك الرُّحل.

طريق الحرير

وبذل الساسانيون والصينيون جهوداً عديدة لعقد التحالفات بينهما ضد العدو المشترك “الهفتاليين”؛ وهم قبائل الهون البيض، وفي الوقت الذي نمت فيه قوة إحدى القبائل التركية (كوكتلر) في آسيا الوسطى؛ تعاون الصينيون والساسانيون في محاربة هذه الإمبراطورية الوليدة التي كانت تعتبر خطراً مشتركاً عليهما.

انسياب الحرير

وكما أثبتت وقائع التاريخ، لم يكن الصينيون يهتمون لمصير طريق هنا أو مدينة هناك، بقدر اهتمامهم بانسياب الحرير إلى مختلف أسواقه في الشرق والغرب، وتأمين العائدات المطلوبة لتمويل إمبراطوريتهم مترامية الأطراف. وبالتالي فإن التوسع الساساني في الخليج العربي والعراق والشام مرتبط بشكل أو بآخر، بالعلاقات التجارية الدولية، وليس صراعاً أزلياً بين الحضارة والبداوة كما أفهمنا الطبري وغيره من مؤرخي الفرس الناطقين بالعربية.

♦كاتب سوري

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

تيسير خلف

كاتب سوري