الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة

يحدث التطرف عندما تتأدلج الأفكار بعباءات قدسية أو طهرانية زائفة

محمد وردي♦

عندما تُصاب قوى الإنسان الحيوية بالعطب أو التشويه؛ جراء التنشئة الأسرية أو المدرسية أو المجتمعية، لا يمكن للمرء القيام بعمل إبداعي خلاق، يشكل إضافة معرفية أو جمالية أو قيمية جديدة للوجود، حينذاك يتركز جهده على اجترار الماضي، والاستعانة بالموروث الديني أو الثقافي عموماً؛ من خلال الحفظ والتلقين الببغائي، ثم الحرص على التشبه بالنماذج التاريخية، دون القدرة على محاكاة الواقع بمعطياته الراهنة. وهو ما يجعل المتطرف يتمايز؛ بذاكرة تصويرية وقدرات تحويرية، تجعله ينحرف بالأفكار التي هي في الأصل نتاج عقلاني مبدع، يرتقي بالإنسان عموماً، ويجعل حياته أكثر بهجة ومسرة، فيجعلها المتطرف أفكاراً خاصة، تخدم جماعة أو اتجاهاً فكرياً واحداً، يجري توظيفه براغماتياً؛ بصبغة عقائدية أو أيديولوجية؛ لتنفيذ أجندات ومشروعات نفعية في الغالب، ولكنها تتدثر بعباءة من القدسية أو الطهرانية الدينية أو السياسية، التي تسيغ القتل أو شطب المخالف بيسر وسهولة.

اقرأ أيضاً: التطرف تفكير شيطاني يبعث الثقافة البدائية ويعيد سيرة التوحش الإنساني في التاريخ

تشكيل بنية التطرف

  إذن؛ يبدأ التطرف في المرحلة الثانية من تشكيل البنية الذهنية للمتطرف، عندما تنقلب المعادلة في طبيعة الأشياء؛ بمعنى أن الأفكار عموماً (ومن ضمنها الأفكار الدينية)، هي في الأصل والجوهر بخدمة الإنسان؛ أي أنها تفتح أفقاً جديداً للإنسان على طريق رفاهيته وسعادته المشروعة، بكل الأعراف والنواميس الأخلاقية والدينية. ولكن هذه المعادلة التي تنتمي إلى سوية العقل، الذي هو جوهر الإنسان، تنقلب إلى عكسها، عندما تُستثمر الأفكار لخدمة النفوس الشريرة من ذوي القوى الحيوية المعطوبة، فتجري أدلجتها وتحويلها إلى عقائد مقدسة، ويصبح معها أصحاب الأفكار؛ حتى لو كانوا مفكرين أو فلاسفة أو قادة سياسيين.. يصبحون لديه بمقام الأنبياء، الذين لا ينطقون عن الهوى، وكأنهم يحملون رسالات إلهية؛ حينذاك يصبح الإنسان في خدمة الأفكار، أي أنه بالإمكان التضحية به؛ لتأكيد شرعية أو صدقية الأفكار وترجمتها إلى مشروعات سياسية/ أيديولوجية. وهكذا تبدأ عملية الإقصاء أو الشطب والإلغاء؛ للمختلف ثقافياً.

تظاهرة مسلحة للهندوس في الهند – المصدر: رويترز

   يتفق العديد من المفكرين على حقيقة أن الوعي الأيديولوجي بسِمة عامة مفسد للرؤية؛ لأنه ينطلق من عدد من الأوهام، والوهم لا يقدم وعياً متطابقاً مع سيرورة الواقع، وإنما يقدم وعياً زائفاً أو كاذباً؛ عن واقع مخادع، ليس موجوداً؛ إلا في النفوس المريضة/المعطوبة.

وإذا كان الفرد يستطيع أن يتصور الممكن، فالمؤكد أنه لا يستطيع خلقه، إنما الواقع هو من يخلق الممكن. لذلك يصبح اكتشاف الممكن إبداعاً، واكتشاف إرادة تحوله إلى واقع آخر إبداعاً. وهو ما يستحيل القيام به على أصحاب القوى الحيوية المعطوبة. أما الإرادة فهي غير الممكن، وهي إرادة مدمرة وقاتلة في أغلب الأحيان. وهكذا تنتهي الأيديولوجيا بالمجتمعات إلى الخراب. فلم تدخل الأيديولوجيا مدخلاً إلا وأفسدته أو أغلقته بالتزمت والانحياز الدوغمائي؛ حتى الآداب والفنون، التي يفترض أن وظيفتها المساعدة على اكتشاف الذات، والارتقاء بإنسانيتها في مختلف مجالات الحياة، تصبح مع الأيديولوجيا مفرغة من سطوتها الجمالية وغوايتها المعرفية.

اقرأ أيضًا:  تنامي التطرف الهندوسي

إن الأيديولوجيا “مسؤولة عن الجريمة الاجتماعية، وهي التي أدت إلى ظهور الدولة القومية”، حسب تعبير ماكس سكيدمور. ونعلم ما جرته الدولة القومية من كوارث على البشرية. ولعل أقرب نماذجها التاريخية الدموية، هتلر والحرب الكونية الثانية، وصدام حسين في العراق، وحافظ الأسد في سوريا.

   طبعاً هذا على مستوى تأسيس بنية التطرف، أو تشكيل نواة التطرف؛ أي القيادات المتطرفة التي تؤدلج الأفكار وتسخرها لخدمة أجندات نفعية خاصة. وهؤلاء يتميزون في الغالب بكاريزما شخصية وروح جدالية؛ بمعنى أنهم يتميزون بقوة بلاغية تؤهلهم لاصطياد التابعين والمطيعين لهم، من دون نقاش.

   أما على مستوى المتطرفين الفاعلين ميدانياً، فتتشكل البنية الذهنية لدى هؤلاء من عوامل وظروف شتى؛ منها اجتماعية واقتصادية وسياسية، ومنها تربوية ونفسية وجينية ونمطية، ولكنها في الغالب عوامل سطحية/ دغمائية؛ بمعنى أنها تشكل مبررات واهية أو خادعة، وتعبر عن واقع مخادع؛ لأن التجربة البشرية تؤكد ذلك، فمثلاً نجد أفقر شعوب الأرض وأكثرهم بؤساً (نيبال نموذجاً) يتعايشون بوئام وسلام على الرغم من التعددية الإثنية الهائلة، وعلى الرغم من البؤس السياسي والشقاء الإنساني. لذلك لم تشكل مرتعاً خصباً لكل أشكال التطرف؛ على الرغم من فوضى الحرب الأهلية التي اندلعت واستمرت نحو عشر سنين، وانتهت بإسقاط الملكية؛ ما يعني أن المتطرف من هؤلاء، يعاني العطب في قواه الحيوية، ثم تأتي الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لتقدم له المبرر الكاذب للعنف؛ لأنه لا يستطيع استخدام نعمة العقل، برؤية نقدية جريئة، تعترض أو تواجه تابوهات الواقع الاجتماعي أو الثقافي عموماً.

مظاهرة لليمين المتطرف في فلوريدا- الولايات المتحدة- “رويترز”

  والفرق الوحيد بين التطرف بالأفكار الدينية والأفكار الوضعية، أن عملية أدلجة الأفكار في الحالة الدينية، وتسخيرها للمشروعات السياسية/ الأيديولوجية، تكون في العادة أسهل بكثير من أدلجة الأفكار الوضعية؛ لأن الأدلجة الدينية تستهدف الأغلبية العظمى من البسطاء والأميين وذوي التعليم المحدود، وبخاصة منهم أولئك المعطوبين في قواهم الحيوية، أو من المقهورين اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً، فتسهل غوايتهم بوعود الخلاص؛ إما بتحقيق العدل ورفع الظلم عنهم وإما بالشهادة والفوز العظيم بالجنة والحور العين، كما في الوعد الإسلامي!

   وفي الغالب نجد معظم المؤدلجين، خصوصاً الدينيين، هم على جهوزية تامة واستعداد دائم لاستباحة دماء أقرب المقربين منهم؛ لأنهم يعتقدون وبإخلاص شديد أنهم يقومون بأعمالهم الوحشية لمصلحة “الضحية الجاهلة”؛ بغرض تخليصها من بؤسها أو من عذاب الجحيم، فهو مخلصه “باسم الإله”، أو بموجب تفويض رباني، فلا يتردد الأخ المتطرف في استباحة دم أخته وأخيه أو حرمة أمه وأبيه، فضلاً عن دماء وحرمات الآخرين القريبين أو البعيدين.

اقرأ أيضاً: كيف يؤثر التدين على التعصب القبلي والعرقي؟

   ويعتقد معظم علماء النفس والاجتماع أن شخصية المتطرف التنفيذي، في الغالب الأعم، تكون انطوائية، وتلوذ بالماضي؛ حيث تتترس وراء بعض الأقوال أو المواقف، فتنغلق ثقافة المتطرف على مجموعة محدودة من الأفكار، يتعصب لها؛ لأنه لا يعرف سواها، وبالتالي يرفض مناقشتها أو نقدها بأية صيغة، ثم يوجه مشاعره وانفعالاته نحو إسقاط هذه الأفكار على الحاضر، وتحقيق مضامينها، أو ترجمتها إلى أفعال بأي ثمن؛ فهي متنفسه الذاتي بالدرجة الأولى، أو يجد بها تعبيراً عن شخصيته ضيقة الأفق، أو شخصيته التي تشعر بالاختناق؛ لأنها لا تعرف كيف تتفاعل مع محيطها بندية كفؤة، فتتراكم لديه الأحاسيس السلبية والشعور بالإحباط والخيبة في كل ما يتوقعه أو يتمناه؛ لأنه لا يعرف ما هو بدقة، ولا يستعين بملكة العقل النقدي لتحقيق ما يريده. فهو على الدوام بحالٍ من التوتر الشديد، الذي يُسهل خروجه على القوانين؛ متى ما أتيحت له الفرصة. وذلك نتيجة شعوره بأنه مظلوم ومضطهد، وَفق تصوراته، التي يعتبرها حقيقة مطلقة لا يجوز نقضها بأية حال من الأحوال؛ لأن نقضها اعتداء على قدس أقداسه، أو على أقل تقدير هو بمثابة امتهان لكرامته الإنسانية وانتهاك لحرماته المقدسة!

برينتون تارانت المتهم بقتل 51 شخصاً في مسجدين بمدينة كرايستشيرش في نيوزيلندا يقف في المحكمة- AFP

   كما يلازم المتطرف، الشعور بالنقص والعجز، وتهيمن عليه الصفة الدونية أو الوضاعة في السلّم الاجتماعي، نتيجة عجزه عن الإبداع الإنساني. ولذلك عندما تحين الفرصة، نجده يميل إلى تقليد الظالم أو القاهر؛ سواء تمثل في المربي أو الأخ الأكبر أو المدير أو المسؤول أو الحاكم. فالمتطرفون التنفيذيون الذين عطبت قواهم الحيوية، أو تعرضوا إلى القهر والإذلال والظلم، يحملون في نفوسهم مشاعر مختلطة متناقضة تجاه الذين قهروهم، ففي حين أنهم يكرهونهم؛ إلا أنهم معجبون بأساليبهم في الاضطهاد والتعذيب والجرأة على الفتك بالآخرين دون رفة رمش. ولذلك يمارسون هذه الأساليب براحة ضمير على مخالفيهم؛ تقليداً لظالميهم ليس إلا. ويتسم هؤلاء بالسرعة والعجلة في إصدار الأحكام على الأشخاص، والشك في الآخرين واتهامهم بالفساد والانحطاط، مقابل التشدد في الولاء للجماعة التي ينتمون إليها ويحتمون بها. فيلازمهم شعور دائم بالحصار من جهات عدة، مناوئين أو مخالفين، تيارات أو جماعات أو حكومات، ويتولد لديهم شعور عارم بالتحدي ومواجهة هؤلاء؛ بكل السبل الممكنة. وهذا يقودهم إلى وهم الاستعلاء وتمجيد الذات؛ لتعويض النقص لديهم، مقابل الاستخفاف بالآخرين واحتقارهم، وهو ما يسهل إطلاق الحكم عليهم بالموت؛ لأن المتطرف بالأساس يحشر الناس ضمن فسطاطَين “معنا وضدنا”، أو “الفرقة الناجية”، و”الفرقة الهالكة”، فمَن هو ضدنا أو مِن الفرقة الهالكة، يجب إزالته من الوجود!

اقرأ أيضاً: كيف تزداد جماعات اليمين المتطرف شيوعاً وخطورة؟

ويرى علماء النفس أن عوامل تكوين دوافع المتطرف التنفيذي، تتعدد وتتباين، فمثلاً هو يشعر بالإهانة عندما يُعتدى عليه أو على بلده أو على بعض الرموز التي يَعتز بها، وهذا يدفعه للانتقام ممن أهانه، فإن لم يستطع فإنه ينتقم ممن يعتبرهم قريبين منهم أو متحالفين معهم. وكذلك يفقد أعصابه عندما يشعر بالعجز والإخفاق في الوصول إلى أي هدف كبير؛ فيطلب التطهر وقهر الذات.

وغالباً ما يقارن في هذه الحالة بين عامة أهل زماننا، وبين خواص أهل القرون المفضلة لديه، ورجالات السلف عموماً، وهذه المقارنة غير العادلة تجعل المتطرفين يشعرون بالذنب والتقصير تجاه الواجبات الشرعية والأخلاقية؛ ما يدفع بعضهم للتخلص من وخز الضمير، بتقديم أنفسهم للانتحار طوعاً تحت يافطة الشهادة/ الاستشهاد، ضد مَن لا يطبِّق شرع الله، أو ضد مَن يتحالف مع الكفار والمجرمين!

♦كاتب عربي

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة