الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةرفوف المكتبةمقالات

ولدن

عبدالرحمن النقبي♦

“عندما كتبتُ الصفحات التالية… كنتُ أعيش بمفردي في الغابة على بُعد ميل من أي جار في بيت شيّدته بنفسي على شاطئ بحيرة ولدن في بلدة كونكورد بولاية ماسيتشوسيتس، وأتكفّل بمعاشي من ثمرة يدي وحدي. عشت هناك سنتين وشهرين”.

بهذه الكلمات افتتح الكاتب والشاعر والفيلسوف الأمريكي ديفيد هنري ثورو كتابه، أو بالأحرى يومياته الذي صدر تحت عنوان “ولدن”.

في مستهل ربيع سنة 1845 عقد “ثورو” العزم على بدء رحلة عزلته الشهيرة بجوار بحيرة ولدن، وشمّر عن ساعديه، وبدأ أولى خطواته في مغامرته الجديدة، وهي بناء منزل أو مأوى يُؤويه من تقلبات الطقس ومفاجآته. بدأ البناء بأدواتٍ قام باستعارتها من جيرانه الجدد، أما مواد البناء فكانت مما جادت به الطبيعة من حوله؛ من أخشاب وأوراق أشجارٍ وغيرها من المواد، كما قام بإعادة تدوير بعض ما وجده في الغابة، واستخدامه في البناء.

اقرأ أيضًا:  كتاب “المؤمن الصادق” للكاتب الأمريكي إيريك هوفر

منزله الجديد كان يُؤدي المأمول منه بشكلٍ جيد؛ حيث كان يوفّر له البرودة الكافية في الصيف، والدفء المطلوب في فصل الشتاء، كما أنه يحميه من الأمطار التي تتساقط بين الحين والآخر. أما الأثاث؛ فاقتصر على سرير ومائدة ومكتب وثلاثة مقاعد، ومرآة وغلّاية وسكينتين وشوكتين، وثلاثة أطباق وفنجان وملعقة وإبريق.

أمّا طعامه فكان في غالبيته خضروات؛ مثل الفاصوليا والذرة والبطاطا واليقطين، قام بزراعتها في الأرض التي بجوار بيته، بعد أن قام بتجريفها واستصلاحها، وبين الفينة والأخرى، كان يتناول السمك الذي يصطاده من البحيرة التي يسكن بجوارها.

أما الأطعمة الأخرى مثل الأرز ودقيق الذرة، فكان يكتريها من القرية المجاورة لمنزله، فيما تكفّلت الغابة بتزويده بما يحتاجه من الأخشاب اليابسة لتدفئته في شتاء “ولدن” القارس.

ديفيد هنري ثورو

هذا البناء المتواضع، الذي قضى فيه “ثورو” ليلته الأولى يوم 4 يوليو 1845، يعكس فلسفة “ثورو” ونظرته للحياة، والتي يتمثّل جانباً كبيراً منها في تقدير واحترام الطبيعة، وفي أن السعادة في الحياة تكمن في كيفية عيشها، وأهمّ شروطها هي البساطة والابتعاد عن التكلّف، وفي هذا السياق يقول: “كلما امتلكتَ المزيد من الأشياء، زاد فقرك.. والإنسان لا يصير غنياً إلا بقدر ما يمكنه نبذه من أشياء”.

“ثورو” أفصح، بين جنبات مذكراته، عن سبب اتّخاذ قراره بالانعزال عن العالم وعيشه بين أحضان الطبيعة بقوله: “قصدتُ الغابة لأني رغبتُ في الحياة بتروٍّ وتعمّد. رغبت ألّا أُجابه إلّا حقائق الحياة الجوهرية. رغبت أن أتبيّن إنْ كان باستطاعتي أن أتعلّم ما لديها لتُعلّمه، وألّا أكتشف -حين أشرف على الموت- أنّي لم أعش حياتي. لم أرغب في الأخذ بأسباب حياة ليست بالحياة، فالحياة غالية، لم أرغب في الإذعان ما لم يكن ضرورياً مُلحّاً”.

في هذا الكلام تلميح أقرب إلى تصريح ودعوة من “ثورو” إلى الناس بالابتعاد عن الحياة الضحلة التي تغلب عليها الأعمال الجسدية، في حين تكون الأعمال الفكرية في أضعف حالاتها ومستوياتها. فإذا ما أراد الإنسان أن يحظى بحياةٍ سعيدة وكريمة، فعليه أن يعيش حياة عميقة في كل جوانبها، وأن “يمصّ فيها لبّ الحياة كله” كما يقول.

اقرأ أيضًا:  الحب والتقدير غاية بشرية

هذه الحياة السعيدة العميقة لا تكتمل إلّا حينما تكون موشّاة بالبساطة، وهو خلاف ما يظنّه الناس بأنّ زيادة الممتلكات والكماليات تترتّب عليها سعادة إضافية، في حين أنها لا تعدو أن تكون بمثابة أحمال ثقيلة يُكبّل فيها الناس أنفسهم دون وعي منهم.

في مذكراته، يتساءل “ثورو” ويبحث عن السبب الذي يقف حول رغبة الإنسان وسعيه إلى كسب المزيد من كل شيء، وسعيه إلى معرفة ماهية الثروة الحقيقية للإنسان. فلسفته في الحياة تدور حول البساطة في كل شيء، والحطّ من قيمة الكماليات وأساليب الترف التي انتشرت في تلك الحقبة من الزمن، ويرى تفاهتها وانعدام ضرورتها، بل يرى أنها عائق يحدّ من سمو البشرية وارتقائها. وللتأكيد على صحة زعمه الداعي إلى حياة التقشّف، يستشهد الكاتب بحيوات الحكماء القدماء التي اتّصفت في جميع الأحوال بالبساطة والتقشّف، والفقر المادي الذي قابله غنى روحي لا يُضاهى.

كما يرى الكاتب أنّ الحضارة طوّرت المنازل التي نسكنها، إلّا أنها فشلت فشلا ذريعاً ومنقطع النظير في أن تُطوّر الناس الذين يعيشون فيها بذات القدر.

بحيرة ولدن

هذه الرحلة الانعزالية الفريدة هي بمثابة إعلان تمرّد “ثورو” على النسق الاجتماعي الذي كان يعيش فيه، ودليل على امتلاكه الشجاعة الكافية لخوض هذه التجربة، التي تبدو للكثيرين في غاية الصعوبة، وهي بمثابة تجربة علّمته أن العمل نحو ستة أسابيع في السنة تكفيه لاستيفاء نفقات المعيشة كافة لسنة كاملة.

“ثورو” سبق عصره بأكثر من قرن ونصف القرن من الزمن، وجميع مخاوفه من الأضرار التي قد تلحق بالكوكب الأخضر جراء جور الإنسان وأنانيته وجشعه، وتعامله اللاعقلاني تجاه الطبيعة؛ مثل الاحتباس الحراري وحرائق الغابات وانقراض الكثير من الحيوانات، كانت في محلّها، وأصبحت حقيقة محضة واضحة للعيان، ويتسابق العالم في معالجتها.

“ثورو” الذي عُرف عنه حبّه لقراءة كتب الأدب، وبشكلٍ خاص كلاسيكيات الأدب اليوناني واللاتيني، والديانات الشرقية، أفردَ فصلاً مستقلاً عن “القراءة” في مذكراته تغنّى فيه بالقراءة وأهميتها وأثرها في المجتمعات إذا ما أصبحت عُرفاً فيه، حيث يقول في هذا الخصوص: “إنّ الكتب هي ثروة العالم الثمينة والإرث اللائق للأجيال والأمم”.

اقرأ أيضًا: الديكاميرون.. حكايات من زمن الطاعون

انشغاله ببناء بيته وزراعة الخضروات التي يقتات عليها ليقيم أوده، خصوصاً في الأيام الأولى، حدّ بشكلٍ كبير من ممارسته للقراءة،حيث كان يسرق بعض الوقت لتصفح «إلياذة» هومر التي كان يضعها على طاولة الطعام. وربما يُقلّد بهذا الفعل ما قام به القائد العسكري العظيم الإسكندر المقدوني الذي ذكرت كتب التاريخ أنه كان يضع «الإلياذة» في علبة ثمينة، ويحملها معه في حملاته العسكرية.

إذا ما كان “ثورو” قد حُرم نوعاً ما من قراءة الكتب لفترات طويلة وسماع أصوات كتّابها في أثناء الأربعة وعشرين شهراً التي قضاها على ضفاف بحيرة ولدن، أو في الصيف الأول على أقل تقدير، فإنه يعترف، بشيءٍ من البهجة والغبطة، أنّه كان محظوظاً بما فيه الكفاية لقدرته على الاستماع لصوت أجمل وأكثر عذوبة من أصوات الأدباء والفلاسفة ألا وهو صوت الطبيعة.

الكاتب، الذي عُرف عنه حبّه الشديد للطبيعة والاستماتة في الدفاع عنها، قام بسرد عزلته مع الطبيعة بأسلوبٍ رومانسي جميل وفريد، وبتفاصيل ساحرة، تُجبر القارئ على الانغماس فيها ومعايشتها بكل تفاصيلها، واستفزاز مشاعره للقيام بتجربة مماثلة لها، وتجبر القارئ على أن تكون حواسه الخمس في أوجها من أجل الاستمتاع بروائح وأصوات الطبيعة، ومذاق نباتاتها.

نسخة طبق الأصل من كابينة هنري ديفيد ثورو في محمية والدن بوند الحكومية في كونكورد ، ماساتشوستس

اندماج “ثورو” مع الطبيعة والعزلة معها، جعله منفصلاً عن العالم بشكلٍ تام، جسدياً وفكرياً، حيث كان يجلس في مكان واحد لساعات طويلة دون شعوره بمرور الوقت أو بشيء من الضجر، وأدرك حينها سبب ممارسة الشرقيين عادة التأمل وتقديسها، حيث يقول: “لا أتذكر مرور الوقت إلا عندما تغرب الشمس عن نافذتي الغربية أو ترد إليَّ ضوضاء عربة مسافر في الطريق العام البعيد.. فطنتُ إلى ما يعنيه الشرقيون بالتأمّل ونبذ الأعمال. لم أكترث في الأغلب لكيفية مرور الساعات”.

استمتاعه بكل تفاصيل عزلته الاختيارية جعله يُشبهها بـ”أمسية فاتنة”، وتكون فيها وحدته مع نفسه أكثر فائدة وجدوى من الجلوس مع أصحاب لا يزيدون ذهنه إلا تشتتاً وإرهاقاً، ويرى الرفقة، في أحيانٍ كثيرةٍ، أنها رخيصة، ولا تضيف أي شيء ذي قيمة للإنسان.

اقرأ أيضًا: التغيرات المناخية أسهمت في تدمير أربع حضارات قديمة.. فهل حان دورنا؟

كما يُبدي استغرابه وسخريته من عدم قدرة الناس على الجلوس بمفردهم، ولو للحظاتٍ قليلة، وفي هذا السياق يقول متهكماً: “بمقدور الفلاح أن يشتغل بمفرده في الحقل أو الغابة طيلة النهار، يعزق ويقطع، دون أن تراوده الوحدة لأنه عامل، ولكنه عندما يؤوب إلى بيته، لا يستطيع أن يجلس في غرفة بمفرده، تحت رحمة أفكاره”.

انغماسه في خلوته لم يمنعه من أن يستقبل بعض الضيوف بين الحين والآخر، سواء من عابري السبيل، أو مسافرين، أو حتى عبيد هاربين باتجاه الشمال لا يتوانى عن مساعدتهم وإرشادهم إلى الاتجاه الصحيح لوجهتهم المبتغاة.

خلافاً لعزلته، كان يذهب إلى القرية المجاورة لبيته في بعض الأحيان للاستماع إلى الشائعات والأخبار التي تتناقلها الجرائد. وفي إحدى زياراته الخاطفة للقرية لجلب حذائه من عند الإسكافي، تم القبض عليه وإيداعه السجن؛ لأنه لم يدفع ضريبة الدولة التي لم يكن يعترف بسلطتها في ذلك الوقت، والسبب في ذلك، كما يقول عنها: “دولة تبيع النساء والأطفال كما الماشية عند مجلس الشيوخ”.

“ثورو” سبق عصره بأكثر من قرن ونصف القرن من الزمن، وجميع مخاوفه من الأضرار التي قد تلحق بالكوكب الأخضر جراء جور الإنسان وأنانيته وجشعه – صورة تعبيرية

كم هو مثير للإعجاب والاحترام ابتعاد “ثورو” عن ادّعاء المثالية وتعظيم الذات، فبالرغم من النضج الفكري والعاطفي الكبير الذي يمتلكه، فإن ذلك لم يمنعه من نقد ذاته، والاعتراف بنقاط ضعفه التي لم يستطع صرعها والتغلب عليها. فهو يعترف بأنّ مواقفه تجاه بعض القضايا الإنسانية، مثل صيد الأسماك والحيوانات بشكلٍ عام، يغلب عليها التصنّع، وبأنّ إنسانيته تعلّقت بفلسفته أكثر من أحاسيسه.

وهنا يظهر أيضاً، وبشكلٍ واضح وجلي، حس “ثورو” النباتي وميله إلى تبني نظام الطعام النباتي حين يقول: “أعتقد أن كل رجل حرص على ملكاته الأسمى أو ملكاته الشعرية في أفضل أحوالها يميل ميلاً خاصاً إلى الامتناع عن الطعام الحيواني، والإفراط في أي طعام أياً كان”.

اقرأ أيضًا: ليس هنالك من أزمة وجودية تضاهي أزمة تغيرات المناخ

في نهاية مذكراته يعترف “ثورو” بما تعلّمه من هذه التجربة الروحية الفريدة قائلاً: “لو تقدّم المرء واثقاً في اتجاه أحلامه، وسعى إلى الأخذ بأسباب حياةٍ تخيّلها، سوف يُقابل نجاحاً لا يتوقّعه.. سوف يجتاز حدّاً لا تراه العيون”.

ولدن، بالنسبة لثورو، كانت بمثابة رحلة لاكتشاف الذات، وسبر أغوار النفس البشرية، وتجربة الاعتماد على النفس، وفي ذات الوقت، كانت هروباً من عناوين الصحف المثيرة، والنميمة، ورغبة البشر المتنامية للتملّك وتكديس الأشياء. هذا الهدوء الذي حصل عليه في عزلته الاختيارية، أفسح له المجال وحرّره من كل المعوقات والمشوشات؛ للتحدث باسترسال وتدفّق جميل، عن الطبيعة، والفلسفة، والشعر.

من حسن حظ “ثورو” أنّه رحل عن هذا العالم قبل وصول عصر وسائل التواصل الاجتماعي.

“ثورو” عاش تجربة فريدة، شاركنا تفاصيلها، ثم رحل.

المؤلف: ديفيد هنري ثورو

الناشر: دار العين للنشر

المترجم: هالة صلاح الدين

♦كاتب وباحث مهتم بالشأن الاجتماعي والسياسي، حاصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال

 اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

عبدالرحمن النقبي

كاتب وباحث مهتم بالشأن الاجتماعي والسياسي، حاصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال

مقالات ذات صلة