الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون دولية

وجهة نظر: في الدفاع عن الكولونيالية

كيوبوست

على مدى الأعوام المئة الماضية، تمتع الاستعمار الغربي بسمعةٍ سيئة. وعلى الرغم من اختفاء الاستعمار فعلياً من العلاقات الدولية؛ إذ لا توجد طريقة أسهل لتشويه معارض سياسي من اتهامه بموالاة “الاستعمار”. فعندما غردت السياسية المعارضة في جنوب إفريقيا هيلين زيل، في عام 2017، قائلة إن نجاح سنغافورة يُعزى جزئياً إلى قدرتها على الاستفادة من جوانب قيّمة من تراثها الاستعماري، تعرضت إلى التشهير من قِبل الصحافة، ومن قبل حزبها، كما تم وضعها قيد التحقيق من قِبل هيئة حقوق الإنسان الحقوقية.

ويسعى بروس جيلي، أستاذ العلوم السياسية من جامعة ولاية بورتلاند الأمريكية، من خلال هذه المقالة إلى إعادة تقييم معنى “الكولونيالية”، في ضوء الخسائر البشرية الجسيمة على مدار قرن من الزمان من جانب الأنظمة والسياسات المناهضة للاستعمار. ويهدف الدفاع عن الاستعمار الغربي إلى إعادة التفكير في الماضي الاستعماري، وكذلك تحسين المستقبل، نظراً لأن الاستعمار الغربي أكد عدداً من القيم الإيجابية؛ مثل أولوية الحياة البشرية، والقيم العالمية، والمسؤوليات المشتركة، والتي أدت بدورها إلى تحسين الظروف المعيشية لمعظم شعوب العالم الثالث خلال معظم فترات الاستعمار الغربي.

اقرأ أيضًا: لماذا يتجاهل الأكاديميون تاريخ الاستعمار الإيراني؟

كما تتضمن أيضاً مراجعةُ تأثيرات الاستعمار الغربي تعلُّم كيفية الاستفادة من هذه الفوائد مرة أخرى. ويرى الكاتب ضرورة أن تقوم الدول الغربية وغير الغربية باستعادة أدوات ولغة الاستعمار كجزء من التزامها بالحوكمة الفعالة والنظام الدولي.

ويقترح “جيلي” ثلاث طرق لاستعادة الاستعمار، والتي يمكن إيجازها على النحو التالي:

  • تطبيق أساليب الحكم الاستعماري: أن تقوم الحكومات والشعوب في البلدان النامية بتكرار الحكم الاستعماري لماضيها قدر الإمكان، كما فعلت البلدان الناجحة؛ مثل سنغافورة وبليز وبوتسوانا. وفي هذا الإطار، يجب استبدالها بأجندة “الحكم الرشيد”، التي تقوم على افتراضٍ حول قدرة البلدان الفقيرة على حكم نفسها، أجندةَ “الحكم الاستعماري”.
  • إعادة استعمار بعض المناطق: يجب تشجيع الدول الغربية على الاحتفاظ بالسلطة في الدول النامية في مجالات حكم محددة؛ كالمالية العامة أو العدالة الجنائية، على سبيل المثال، من أجل إجراء إصلاحات دائمة في الدول الهشة. وبدلاً من التحدث بعبارات ملطفة عن “السيادة المشتركة”، أو “الوصاية الجديدة”، يجب تسمية هذه الأعمال باسمها الصحيح، وهي “الاستعمار”؛ لأنها تتضمن الاعتراف بالسجل التاريخي، وفضل الاستعمار، بدلاً من محاولة إنكاره.
  • إقامة مستعمرات جديدة: قد يكون من الممكن في بعض الحالات بناء مستعمرات غربية جديدة من الصفر.

ويرى “جيلي” أن عودة الاستعمار، إما كأسلوب حكم، وإما كامتداد للسلطة الغربية، يجب أن تتم فقط بموافقة الخاضعين للاستعمار.

اقرأ أيضًا: الرقص التاهيتي.. كيف يؤثر الاستعمار على ثقافة المكان؟

انتقاد منتقدي الاستعمار:

تستند الانتقادات الموجهة إلى السجل التاريخي للاستعمار الغربي، والتي تشير عادةً إلى المستعمرات البريطانية والفرنسية والألمانية والبلجيكية والهولندية والبرتغالية، من أوائل القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، إلى حجتين أساسيتين، يمكن تفنيدهما على النحو التالي:

  • الأضرار التي خلفها الاستعمار: تستند هذه الحجة إلى أن نتائج الاستعمار أضرت بالسكان المحليين، بدلاً من أن تكون مفيدة لهم، ويرى “جيلي” أن هذا الأمر يحتاج إلى مراجعة. ففي المجتمعات الأبوية، على سبيل المثال، فإن ضمان العدالة للنساء أكثر أهمية من حماية حقوق الأرض للسكان الأصليين، فقد تحسن وضع النساء في شمال نيجيريا تحت الاستعمار.

ومن جهةٍ ثانية، فإنه من أجل قياس حجم الأضرار أو المنافع التي ترتبت على الاستعمار، يجب مقارنة المجتمعات الخاضعة للاستعمار، بتلك التي لم تخضع للاستعمار الغربي لفترات طويلة؛ مثل الصين وإثيوبيا وليبيريا وليبيا والمملكة العربية السعودية وتايلاند وهايتي وغواتيمالا، فضلاً عن دراسة تاريخ المجتمعات قبل خضوعها للاستعمار، وتكشف مراجعة كلتا الحالتين عن معاناة هذه الدول من مؤسسات ضعيفة نسبياً، ومجتمعات تعاني انقسامات عرقية وإثنية، واقتصادات قائمة على الكفاف، كما في دراسة بيبر لناميبيا في مرحلة ما قبل الاستعمار.

ومن جهةٍ ثالثة، فإنه لا يجب دراسة العنف الاستعماري، وتجاهل عوامل أخرى؛ مثل التداعيات المترتبة على غياب مثل هذا العنف. ففي دراسة دانيالز، وجد أنه لو لم يقم البريطانيون بجهود مكافحة التمرد ضد إثنية الماو في الفترة من عام 1952 حتى 1960، فإن هذا كان سيترتب عليه اندلاع حرب أهلية، وانهيار لكينيا في حالة فوضى ممتدة، فضلاً عن ارتكاب جرائم إبادة جماعية.

ومثلما انضم العديد من الكينيين إلى “حرس كيكيوي الوطني” (Kikuyu Home Guard) وخدمة السجون الخاصة، انضم البعض الآخر إلى حركة التمرد، كما أشادت الحكومة الكينية المستقلة منذ فترة طويلة بالمساهمة التاريخية للبريطانيين في قمع حركة الماو. وأخيراً، لا يجب إغفال الدور التاريخي للاستعمار في إلغاء تجارة العبيد.

لعبت بريطانيا دورًا في إلغاء تجارة العبيد
  • انتفاء الشرعية عن الاستعمار: يتعلق هذا النقد بما إذا كان الأشخاص الخاضعون للاستعمار قد عاملوه من خلال معتقداتهم وأفعالهم باعتباره أمراً شرعياً أم لا. ويشير “جيلي” إلى دراسة هيكتر، والتي أوضحت أن الحكم الأجنبي اتسم بالشرعية في تاريخ العالم؛ لأنه وفر حكماً أفضل من أي بديل محلي كان قائماً في الدول النامية حينها. ويبدو الاستعمار الأوروبي شرعياً للغاية لأسباب وجيهة؛ منها استفادة ملايين الأفراد من الحكم الاستعماري، فقد أرسلوا أطفالهم إلى المدارس والمستشفيات التي أنشأها الاستعمار، وخدموا في مناصب في الحكومات الاستعمارية، وأبلغوا الشرطة الاستعمارية عن الجرائم، وهاجروا من المناطق غير المستعمرة إلى المناطق التي أنشأها الاستعمار، وقاتلوا في الجيوش الاستعمارية.

وفي الواقع، فإن الانتشار السريع للاستعمار الغربي بقوة وانتشاره في أوساط  السكان والمناطق المعنية هو دليل ظاهري على قبوله من قِبل السكان الخاضعين مقارنة بالبدائل الممكنة. ففي معظم المناطق الاستعمارية، واجهت الشعوب النامية، إما تهديدات أمنية خطيرة من الجماعات والعرقيات والقبائل المنافسة، وإما شعروا بفوائد خضوعهم لحكم دولة حديثة وليبرالية.

ثمن معاداة الاستعمار:

يجادل “جيلي” بأن القوى المناهضة للاستعمار دمرت البلدان التي استقلت عن الاستعمار؛ حيث حشدت النخب القومية السكان الأميين لتدمير اقتصادات السوق، والأنظمة السياسية التعددية والدستورية، وطرق اتخاذ القرار العقلانية التي وضعها المستعمرون الأوروبيون.

ويضرب جيلي مثلاً على “غينيا بيساو”، و”بطلها” المناهض للاستعمار “أميلكار كابرال”، والذي شن حرب عصابات ضد الحكم البرتغالي، بدءاً من عام 1963، وقد أصر كابرال على ضرورة تدمير جميع جوانب الدولة الاستعمارية. ونجحت الدولة الاستعمارية، التي أراد تدميرها، في مضاعفة إنتاج الأرز أربع مرات، كما نجحت في زيادة متوسط عمر السكان منذ وضع الإقليم تحت الاستعمار في عام 1936. وقد أسفرت حرب كابرال عن مقتل 15000 مقاتل، من أصل 600000 نسمة، والعديد من المدنيين، كما شردت 150000 آخرين؛ أي ما يقرب من ربع السكان.

اقرأ أيضًا: تركيا الأردوغانية والاستعمار الجديد

ومع حصول الدولة على استقلالها في عام 1974، تدهورت المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية؛ فبحلول عام 1980، انخفض إنتاج الأرز بأكثر من 50% إلى 80000 طن (من ذروة بلغت 182 ألف طن تحت حكم البرتغاليين). وأطلق الأخ غير الشقيق لكابرال، الذي أصبح رئيساً في ما بعد، الشرطة السرية على المعارضة الصغيرة، وتم العثور على 500 جثة في ثلاث مقابر جماعية للمعارضين في عام 1981.

وعلى مدى 60 عاماً، أثار طغاة العالم الثالث شبح إعادة الاستعمار لتشويه سمعة المعارضة الديمقراطية، وتدمير الاقتصادات الوطنية. ومع ذلك، فلا يوجد شيء تقريباً مكتوب عن معظم المآسي التي حدثت في مرحلة ما بعد الاستعمار؛ حيث لا يزال هناك افتراض شائع بأن الحركات المناهضة للاستعمار كانت ضحايا وليست ضحية. ومع ذلك يفضل بعض علماء السياسة إصدار كتب عن الفظائع الاستعمارية أو التأكيد على تسبب “الموروثات الاستعمارية” في المآسي التي لحقت بهذه البلدان من قِبل قادتها المناهضين للاستعمار.

إحياء الحكم الاستعماري

ينادي “جيلي” باستعادة الاستعمار إلى بعض مناطق العالم النامي. ويقترح إعطاء حصة رسمية من السيادة للدول الغربية؛ وذلك كي تستخدمها لتوفر مزيجا من المساءلة والسلطة اللازمتَين لبناء قدرات الدول الضعيفة. ويشير “جيلي” في هذا الإطار إلى تجارب البنك الدولي والولايات المتحدة، على سبيل المثال، مع “ترتيبات التوقيع المشترك” في ليبيريا وتشاد في التسعينيات من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ حيث تطلبت الموافقة على النفقات الحكومية الرئيسية توقيع كل من الوكلاء المحليين ودول أجنبية. وفي بعثة المساعدة الإقليمية التي قادتها أستراليا إلى جزر سليمان، أو لجنة الأمم المتحدة الدولية لمكافحة الإفلات من العقاب في جواتيمالا، تم تسليم الوظائف القانونية والشرطية الرئيسية إلى قوى خارجية بسبب تفشي الفساد وتورط الدولة في أنشطة إجرامية.

ويرى “جيلي” ضرورة وصف هذه الترتيبات باسم “استعمار”، لأنه سيؤكد السجل التاريخي الإيجابي له، بدلاً من التهرب منه، غير أنه يرى أن هناك تحديات هائلة تواجه إعادة إنتاج الاستعمار، والتي تتمثل في: (1) كيفية جعل الاستعمار مقبولاً لدى المستعمَرين (الخاضعين للاستعمار)، (2) كيفية تحفيز الدول الغربية على أن تصبح مستعمرة مرة أخرى. و(3) كيفية جعل الاستعمار يحقق نتائج إيجابية تتسم بالديمومة والاستمرار.

ويجادل “جيلي” بأن التحدي الأول يمكن معالجته من خلال استخلاص العبر من أحد الدروس المستفادة من الشرعية الاستعمارية، وهو أنه على الأقل في المراحل الأولى، لن يتم إثبات الشرعية من خلال إجراء استفتاء، أو من خلال دعم الأحزاب السياسية ذات التمثيل الواسع؛ ولكن ببساطة من خلال قدرة الدولة المتدخلة على كسب الإذعان من الجهات الفاعلة الرئيسية وإنجاز المهمة.

لوحة تصور فظائع الاستعمار

ومن جهةٍ ثانية، فإنه إذا كانت الحكومة المحلية ممكنة، فلن تكون هناك حاجة إلى إدارة انتقالية، كما أن إنشاء سلطة سياسية مسؤولة “قد يكون نهاية الإدارة الانتقالية”، ولكنه بالتعريف ليس هو الوسيلة، ويشير “جيلي” في هذا الإطار إلى الدعم واسع النطاق في سيراليون للتدخل البريطاني هناك لإعادة بناء قوة الشرطة من عام 1999 إلى 2005، معتبراً أن القبول الشعبي يمثل الشرعية اللازمة للحكم الاستعماري.

كما يشير “جيلي” إلى حاجة الاستعمار الجديد إلى شرعية من قِبل زعيم محلي يتمتع بشعبية محلية ويدافع، في نفس الوقت، عن العلاقة مع القوى الاستعمارية. ويدلل “جيلي” على ذلك من خلال دفاع الرئيسة الليبيرية “إلين جونسون سيرليف”، عن برنامج إدارة المساعدة الحكومية والاقتصادية لما بعد 2005، والذي أعطى سلطات واسعة في الإنفاق والميزانية للجهات الفاعلة الخارجية. ونتيجة لذلك، رحب الليبيريون عموماً بهذا البرنامج.

أما التحدي الثاني، فيتعلق بكيفية تحفيز الدول الغربية لاستعادة دورها الاستعماري. ويضيف “جيلي” هنا أنه على الرغم من صيحات “استغلال” المستعمرين؛ فإنه في واقع الأمر خرج الاستعمار خاسراً مالياً من استعماره الدول النامية، وهو ما دفع الخبير الاقتصادي في جامعة ستانفورد، ريتشارد هاموند، إلى صياغة مصطلح “الإمبريالية غير الاقتصادية” لوصف الطرق التي شرعت بها القوى الأوروبية في استعمار مكلف جداً للدول النامية، ودون جدوى اقتصادية لأسباب غير اقتصادية إلى حد كبير.

وعلى سبيل المثال، قدّر معهد لوي الأسترالي للسياسة الدولية أن برنامج بعثة المساعدة الإقليمية التي قادتها أستراليا إلى جزر سليمان كلف دافعي الضرائب الأستراليين نحو مليارَي دولار أمريكي على مدى عشر سنوات، أي تقريباً الميزانية السنوية للصحة والتعليم للعاصمة كانبيرا.

ولحل مشكلة الحوافز هذه، دعا هيشتر إلى “سوق في الحوكمة العابرة للوطنية”، والتي قد نطلق عليها تعبير “الاستعمار المؤجر”، أي سيتم الدفع للدول المستعمرة مقابل خدماتها، وهو حافز مهم لإنجاح جهود إعادة الاستعمار. كما أن الدافع التعاقدي من شأنه أن يدفع إلى إعادة التفاوض الدوري على شروط هذا التعاقد، إذا ما تغيرت الظروف. وإذا تم تصميم هذه التعاقدات بشكل صحيح، فسوف تستفيد الدول النامية، التي ستخضع للاستعمار، بصورة تفوق التكاليف، التي سيتوجب عليها دفعها، وذلك من خلال زيادة فرص الاستثمار الأجنبي، وانخفاض تكاليف الاقتراض الخارجي، وزيادة الثقة في الأعمال التجارية في البلدان النامية، وهي مزايا تفوق تحسين الحوكمة في الحقبة الاستعمارية السابقة.

اقرأ أيضًا: هل سمعت يوما بالاستعمار الألماني لفلسطين؟ إليك قصته

أما التحدي الثالث، المتعلق بما إذا كانت الأشكال الجديدة من الاستعمار ستنجح. ويرى “جيلي” أن أحد الدروس المستفادة من الماضي الاستعماري هو أن نصيب السيادة الاستعمارية يجب أن يكون جوهرياً وشاملاً في معظم الحالات. فإذا تم إجبار الجهات الخارجية على العمل مع المؤسسات المحلية الفاسدة، فإن الإصلاحات ستكون صعبة. وفي حين أنه قد يكون إعادة تشكيل قوة شرطة محلية دون وجود نصيب من السيادة أمراً ممكناً، فإن تطهير نظام العدالة الجنائية الوطني الفاسد تماماً يتطلب رقابة وسيطرة خارجية.

ويختتم “جيلي” مؤكداً أن الأيديولوجيا المناهضة للاستعمار التي ظلَّت طوال الأعوام المئة الماضية تسببت في مآسٍ لحياة مئات الملايين من الناس في العالم الثالث. وأن مئة عام من الكوارث كافية، وأنه حان الوقت للدفاع عن الاستعمار مرة أخرى وإعادة إنتاجه.

الكاتب: بروس جيلي؛ أستاذ العلوم السياسية بجامعة ولاية بورتلاند. وتركز أبحاثه على السياسات المقارنة والعلاقات الدولية، مع اهتمامات محددة في الشرعية السياسية، وبناء الدولة، والديمقراطية، والتحولات الديمقراطية، وسياسة تغير المناخ، والعالم الثالث. وهو متخصص في سياسات آسيا والصين.

اسم المقالة: في الدفاع عن الكولونيالية.

اسم الدورية: دورية العالم الثالث، وهي صادرة ضمن دوريات “روتليدج”.

سنة النشر: 2017

اتبعنا على تويتر من هنا

 

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات