الواجهة الرئيسيةشؤون دولية
هل يصلح “الاكتفاء الذاتي” لعالم اليوم المترابط؟
يبدو أن جميع الإجراءات التي يتخذها الصينيون والأمريكيون والأوروبيون تهدف -من بين أهداف أخرى- إلى تقليل اعتماد هذه الكُتل الاقتصادية الضخمة على بعضها، لتخفيف آثار أي توتر محتمل مستقبلاً.

كيوبوست- منير بن وبر
تجري العديد من الدول والشركات مؤخراً عملية مراجعة لفكرة طالما أثارت العديد من الزعماء والدول؛ وهي فكرة الاكتفاء الذاتي لأوطانهم، وذلك بعدما تسببت الحروب والأوبئة والأزمات الحديثة، مثل الحرب الروسية الأوكرانية، وجائحة كوفيد، في تعطيل سلاسل التوريد التي أثرت بشكلٍ خاص على الدول الأكثر اعتمادا على الواردات.
تُعد فكرة “الاكتفاء الذاتي” جذابة لبعض القادة والدول لعدة أسباب؛ منها أنه يمكن أن توفر إحساساً بالأمن والاستقرار، في عالمٍ يكتنفه عدم اليقين والتقلّب. لكن، في الجانب الآخر، يمكن أن يؤدي الاكتفاء الذاتي إلى الانعزالية والحمائية، ونقص التنوع في عالم اليوم شديد الترابط والقائم على تبادل المنافع.
لقد شغل الجدلُ بمقارنة الاكتفاء الذاتي مع العولمة بالَ الكثيرين، حيث يسرد كل طرف حججه من الجوانب الاقتصادية إلى الآثار الثقافية، لكن يبدو أن ترابط العالم مهم بقدر أهمية أن يتيح ذلك الترابط مزيداً من المرونة عند حدوث الصدمات العالمية.
إيجابيات وسلبيات
كان الاكتفاء الذاتي هدفاً للعديد من الأفراد والجماعات عبر التاريخ؛ فمن وجهة نظر مؤيدي الفكرة يتيح الاكتفاء الذاتي تقليل الاعتماد على الآخرين لتلبية الاحتياجات الأساسية، وبالتالي يمكن من خلاله تجنب الاضطراب الاقتصادي أو السياسي بسهولة أكبر.
إضافة إلى ذلك، يمكن النظر إلى الاكتفاء الذاتي على أنه وسيلة لتعزيز الفخر الوطني والاستقلال؛ حيث يُنظر إلى الدولة القادرة على تلبية احتياجاتها على أنها دولة قوية. وغالباً ما يرى القادة الذين ينجذبون إلى فكرة الاكتفاء الذاتي أنها وسيلة لجعل بلادهم أكثر مرونة، وأكثر قدرةً على تحمل الانكماش الاقتصادي، وأقل تعرضاً لاحتمال التورط في صراعات مع البلدان الأخرى، وأقدر على مواجهة هيمنة الدول الأقوى.
اقرأ أيضاً: الإمارات على طريق تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز
لكن الاكتفاء الذاتي له مخاطره وعيوبه أيضاً، فقبل كل شيء، ووفقاً لمؤيدي الترابط العالمي، يتطلب الاكتفاء الذاتي استثماراتٍ كبيرة في البنية التحتية والموارد، والتي قد لا تكون دائماً ممكنة أو عملية للعديد من البلدان.
أحد الشواغل الرئيسية أيضاً هو الانعزالية والحمائية، حيث تصبح البلدان أكثر تركيزاً على تلبية احتياجاتها الخاصة، بدلاً من الانخراط مع بقية العالم. تقلِّل الانعزالية التبادل الثقافي والتفاهم والتسامح، وهي أمور مفيدة للتضامن العالمي، كما يمكن أن تعيق الحمائية النمو الاقتصادي، وتخلق التوترات بين الدول بسبب ممارساتها، مثل فرض الرسوم الجمركية العالية أو نظام الحصص على الواردات للوقاية من المنافسة العالمية.
هروب من العالمية أم مهاجمة للمنافسين؟

في يناير الماضي، أكد الرئيس الصيني، شي جين، ضرورة أن تسعى الصين لتحقيق الاكتفاء الذاتي في المجالات العلمية والتكنولوجية، حتى لا يتمكن منافسيها من تقويض صعودها. لقد ألحقت التوترات بين الصين والولايات المتحدة المزيد من أضرار العزلة بالصين. ولمواجهة ذلك، تسعى بكين جاهدة لضمان قدرٍ أكبر من الاعتماد على الذات، في القطاعات العلمية والتكنولوجية، لمواجهة المنافسة الدولية الشرسة.
لكن التوجهات لتبني المزيد من الاستثمارات المحلية العلمية والتكنولوجية ليس استراتيجية صينية حديثة فحسب، بل إن المصاعب الجيوسياسية، خلال السنوات الماضية، دفعت الشركات والحكومات الغربية إلى نهجٍ مماثل أيضاً.
وفقاً لمجلة “إيكونوميست”، انخفضت التدفقات السنوية للاستثمارات الاجنبية المباشرة الأمريكية والأوروبية من 659 مليار دولار في العام 2015 إلى 216 مليار دولار في العام 2021، كما انخفضت حصة الشركات الغربية في إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة من 78 إلى 71 في المائة.
وعلاوةً على الانخفاض في الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تقوم بها الشركات الغربية، وفقاً لـ”الإيكونوميست”، فإن الولايات المتحدة تنوي وقف الاستثمار الخارجي في البلدان المتخاصمة، كما أنها قد حظرت بالفعل بيع المعالجات الدقيقة المتقدمة ومعدات تصنيع الرقائق إلى الصين.
وفي يناير الماضي، زاد الإنفاق الشهري على بناء المصانع في أمريكا بنسبة 55 في المائة، مقارنة بالعام الماضي.
اقرأ أيضاً: مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة والصين: تعاونية أم تصادمية؟
وتماماً مثل الولايات المتحدة؛ من المتوقع أن يكشف الاتحاد الأوروبي قريباً عن خطط لتوجيه الاستثمارات محليا بدلاً عن توجيهها للخارج. ويبدو أن جميع الإجراءات التي يتخذها الصينيون والغربيون تهدف -من بين أهداف أخرى- إلى تقليل اعتماد هذه الكُتل الاقتصادية الضخمة على بعضها لتخفيف آثار أي توتر محتمل مستقبلاً.
لا يتعلق الأمر بالسلع والخدمات فقط
تستحوذ روسيا وأوكرانيا معاً على 25 في المائة من صادرات القمح في العالم، و14 في المائة من شحنات الذرة. لذلك؛ عندما اندلع الصراع، كانت المخاوف من أزمة غذائية تصيب العديد من الدول، حيث تعتمد الكثير من دول العالم على الواردات في غذائها.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، تعتمد جمهورية الكونغو على واردات البحر الأسود في 67 في المائة من القمح الذي تستهلكه، كما يستورد اليمن 40 في المائة من احتياجاته من القمح من كلٍّ من روسيا وأوكرانيا.

وفي حين أن نقص إمدادات الغذاء قد يكون مصدر قلق بالنسبة للدول التي تعتمد على الواردات الغذائية، إلا أن الأمر ليس كذلك بالنسبة للدول الكبرى، أو للشركات متعددة الجنسيات؛ حيث تتركز مخاوف الدول الكبرى فيما يتعلق باستثماراتها الخارجية في التقنيات المتقدمة التي يمكن أن تمنح المنافسين مزايا يمكن أن تجعلهم أكثر تفوقاً تقنياً وعسكرياً.
كما لا تزال الشركات متعددة الجنسيات تبحث عن الدول التي يكون فيها الإنتاجُ أقل تكلفةً، وحكوماتها أكثر تماثلاً في نمط التفكير الغربي الليبرالي، كالهند المعاكسة تماماً للصين في كلا الجانبين: التكلفة والديمقراطية.
من جانبٍ آخر، بدأت الشركات بالفعل تدرك أن الإنتاجية لم تعد مقتصرة على الأصول الملموسة، بل أيضاً، وبشكلٍ متزايد، على البرمجيات وبراءات الاختراع والمعرفة، وهو ما يدفعها إلى الاستثمار بكثافة في المواهب والبحث والتطوير، حيثما وجدت فرصة في أي مكان بالعالم.
في هذا السياق، خلص بحثٌ حديث أجراه معهد ماكينزي العالمي إلى أن التدفقات العالمية للمعرفة والمهارات تتسارع وتنمو الآن أسرع من تدفق السلع، وتشمل الأمثلة على ذلك الملكية الفكرية، وحزم بيانات الإنترنت، وتدفقات الخدمات والطلاب الدوليين.
وفي إجابةٍ لها على مستقبل العولمة والترابط بين الدول مقابل الاكتفاء الذاتي، قالت أوليفيا وايت، مديرة معهد ماكينزي العالمي، إن عالمنا لا يزال يعتمد بشكلٍ كبير على التبادلات، وأنه من الصعب أن تكون المناطق الفردية مستقلة؛ أي أن الاكتفاء الذاتي الكامل -ببساطة- “ليس شيئاً يمكن القيام به”، ومع ذلك، ما نشهده حالياً هو تغير في أسلوب التبادلات ومجالاتها وتوجهاتها ودرجاتها.
ووفقاً لوايت، فإن الاعتماد الكامل على الذات يُعد نقطة ضعف، تماماً مثل الاعتماد على طرف واحد فقط، وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بأن التنويع في العلاقات والترابطات أكثر مرونة من الاكتفاء الكامل. ويبقى تحقيق التوازن الذكي بين الاكتفاء الذاتي والتجارة الدولية سياسة حكيمة، من أجل تعظيم المنافع من كلا الخيارين.