
شايع الوقيان♦
موت الفلسفة مصطلح فلسفي، ومَن يتناول هذا الموضوع عليه أن يمارس التفلسف. هنا نقع في إحراج منطقي (aporia)؛ كيف تعلن موت الفلسفة طالما أنك في إعلانك ذاته تمارس التفلسف؟ وهذا شبيه برد أرسطو على الميزولوجيين (كارهي الفلسفة)، يقول: إنك عندما تدحض الفلسفة لا بد أن تتفلسف.
هذا يذكرنا أيضاً بالإحراجات التي تصدى جاك دريدا لكشفها والتي تؤدي، بدورها، إلى تفكك النص وانهيار تماسكه المزعوم. مثلاً، لو قُلت “لقد قررت عدم الحديث باللغة العربية”؛ فهذه العبارة تفكك نفسها. وهناك نكتة رائجة على لسان أحد الجهلاء “أنا أكره في حياتي شيئين: العنصرية والسود”؛ وهي عبارة تفضح نفسها بنفسها.
اقرأ أيضًا: ما علاقة الفيلسوف كانط بمقتل جورج فلويد العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية؟
فإعلان “الفلسفة ماتت” هو بحد ذاته إعلان فلسفي؛ لماذا؟ لأن الفلسفة هي العلم الوحيد الذي يستطيع أن يجعل ذاته موضوعاً له. فلنفكر الآن في علم آخر يمكن له أن يجعل الفلسفة (كنشاط عقلي وليس كسرد تاريخي للمذاهب الفلسفية) موضوعاً له.
هل الفيزياء قادرة على اتخاذ الفلسفة موضوعاً لها؟ قطعاً لا؛ فما هو معروف هو أن الفيزياء لها موضوعها الخاص، وهو الظواهر المادية من ضوء وإلكترونات وحقول كهرومغناطيسية ونحو ذلك؛ فليس من ضمن قائمة موضوعاتها شيء اسمه: فلسفة.
ماذا عن الكيمياء؟ أيضاً لا؛ فموضوع الكيمياء هو الظواهر المادية من حيث العناصر. وقُلْ مثل ذلك في الأحياء التي تتناول الخلايا.
ماذا عن العلوم الصورية كالرياضيات؟ لا أعرف أبداً أن الفلسفة كانت موضوعاً رياضياً؛ بل العدد والمقادير الكمية والعلاقات والدوال.

أما العلوم الإنسانية؛ فعلم الاجتماع يدرس المجتمع، وعلم النفس يدرس الأفراد، وعلم الأنثروبولوجيا يدرس الثقافات، وعلم اللاهوت يدرس الذات الإلهية، وعلم الفقه يدرس الأحكام الشرعية.. إلخ.
مما يظهر فليس هناك علم يمكنه أن يتناول الفلسفة ذاتها كموضوع سوى الفلسفة. وهكذا فستيفن هوكنج عندما أعلن موت الفلسفة، فإنه مارس التفلسف؛ أي أنه تخلَّى عن دوره كعالم فيزياء واعتنق دور الفيلسوف. ولكن هل هوكنج خبير في الفلسفة؟ ينقل عبدالله الغذَّامي في كتابه «العقل المؤمن/ العقل الملحد» عن صديق لهوكنج قولاً يبين فيه ضعفه في المعرفة الفلسفية. وهذا واضح في لقاء مصور معه؛ يقول من ضمن ما قال:
“في كتابي «التصميم العظيم» حاولت الإجابة عن: ما طبيعة الواقع؟ كيف يوجد الكون ولماذا وجد؟ هل الكون في حاجة إلى خالق؟ لماذا نحن هنا؟ من أين أتينا؟ تقليدياً هذه الأسئلة مناطة بالفلسفة؛ لكن الفلسفة ماتت. والفلاسفة لم يواكبوا التطورات التي طرأت على العلوم الحديثة؛ خصوصاً الفيزياء. لقد تولى العلماء مهمة البحث والمعرفة”.

لاحظ أنه لا يزال يفهم الفلسفة بمعناها القديم بوصفها بحثاً كوزمولوجياً في أصل الكون ومصير البشر. وهذا لا يقوله شخص مطلع على تطور الفكر الفلسفي. ويقول أيضاً إن الفلاسفة لم يواكبوا تطور العلم، وهذا أبعد ما يكون عن الصواب؛ فالفكر الفلسفي، منذ ديكارت إلى اليوم، وهو يتابع العلوم وتطوراتها ويستثمرها في بناء أنساقه الفكرية. ويبدو أن هوكنج لم يطلع على أبحاث راسل وفتغنشتاين وتوماس كون وجون سيرل وفوكو وتشومسكي وبودريار وكربكي وكواين.. وغيرهم الكثير ممن استفادوا من العلوم؛ سواء الطبيعية أو الإنسانية؛ بل إن هناك فلاسفة أثروا على العلماء مثل لايبنتز وآرنست ماخ وكارل بوبر وراسل وتارسكي.. وغيرهم. وأينشتاين نفسه تأثر بماخ وقبله بإسبينوزا.
إذن، عندما أعلن هوكنج موت الفلسفة فهو لا يزال يؤكد وجودها؛ لأنه بهذا الإعلان يمارس التفلسف، حتى ولو كانت ممارسته هشة وناقصة.
اقرأ أيضًا: ستيفن هوكنج: حينما ينشغل الناس بالتكفير، ويتجاهلون التفكير!
مما فات هوكنج هو أن الفلسفة الحديثة لم تعد تطرح تلك الآراء القديمة التي تولَّى أمرها العلم الحديث؛ إنما تغير مسار البحث الفلسفي جذرياً نحو موضوعاتٍ لا يستطيع العلم نفسه تناولها، كالوجود والعدم والحرية وبنى الوعي (وليس تكوينه)، علاوة على البحث في موضوعاتٍ تشاركه فيها العلوم؛ ولكن الفكر الفلسفي يتعاطى معها بطريقته الخاصة؛ مثل: اللغة، النسق الاجتماعي، المشاعر، المُثل السياسية.. وغيرها.
خلاصة القول هي أن تطور العلوم جعل الفلسفة أكثر نشاطاً وحيوية.. وليس كما يزعم أصحاب القول بموت الفلسفة. وأستطيع بجرأة أن أقول إن الفلسفة في عصر العلم هي أفضل حالاً منها في عصر ما قبل العلم: عصر اللاهوت والميثولوجيا.
♦ كاتب سعودي