الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةمقالات

هل من حقنا أن نضع توقيعاتنا على أعمالنا الفنية؟

كيوبوست – عبد الله الحمد الزيد

منذ الفترة التي طغى فيها مسرح الغموض في القرون الوسطى، على الملاحم الشعرية الدينية في “حكايات كانتربري” لجيفري تشوسر، وحتى أعمال النحت الساحرة على جدران كاتدرائيات أوروبا الغربية ومنمنمات وفنون العمارة الإسلامية والقوطية الباهرة، ارتبط الفن بالوظيفة والحرفة كمنتج إنساني ومكون اجتماعي يخضع بالبداهة للموضوع الديني والغيبي، والتغنِّي بقصص البلاط للملكيات الشمولية حتى القرن الخامس عشر الميلادي.

في تلك الفترة من السيطرة الكنسية، كان الإنسان يمثل مركز الكون في العقل الكنسي الأوروبي، قبل أن تأتي اللحظة اللامعة في تاريخ أوروبا والفن حين حقَّق مايكل أنجلو (ذاتيته) الفنية بوضع توقيعه الشخصي على الأعمال الفنية، وبدلًا من أن يكون الفن منتجًا جماعيًّا؛ أصبح تمثيلًا روحيًّا مفرطًا في الذاتية لحرفي صار يُسمى (فنانًا).

وأصحب الفنان يشعر بالطبيعة من حوله ويجعلها موضوعًا لفنونه بعيدًا عن مركزية الإنسان كموضوع، وهذا مرتبط -بطبيعة الحال- بحقبة زمنية لا تخص الفنون وحسب سُميت بـ”عصر النهضة”، رؤية طبيعية وضعية علمانية منذ كوبرنيكوس وجاليليو، واكتشافات إسحاق نيوتن التي رسخت في تلك الحقبة فكرة قوانين الطبيعة وانفصالها عن الغيبيات؛ ليس في العلم فقط وإنما أيضًا في الفنون والأدب والعلوم الإنسانية الأخرى.

صورة لمايكل أنجلو

في تلك الفترة تأسَّست العلوم الطبيعية عبر قوانين أنتجتها فلسفة المعرفة، فجاءت إسهامات توماس هوبز في مكافحة وهم الغيبيات وفصلها عن الطبيعيات، ثم قانون الشك المنهجي عند ديكارت، وإسهامات آباء علوم الإنسان والاجتماع كأوجست كونت ودوركايم، وجهودهم المضنية لتحويل العلوم الاجتماعية إلى علوم فيزيقية تنتج القوانين الحتمية، وكان ذلك تزامنًا مع الثورة البيولوجية عند لامارك، في دراسات التطور والانتخاب الطبيعي، والذي توجه داروين في أواخر القرن الثامن عشر.

كل هذا الهوس المعرفي كان له تأثيره الحتمي على فلاسفة الفنون لإنتاج علم يؤطر الجمال؛ كقانون معياري يمكن قياسه واختباره، والذي بدأه في ذلك الوقت بومجارتن، بعلم الاستاطيقا أو علم الجمال.

هذه النزعة الموضوعية من إنتاج العصر الحداثي وعصر العقل جعلت الفن ينتقل من أن يكون وسيلة إلى أن يكون جوهرًا بذاته؛ غايته الجمال والفن لمجرد الفن، تلك النزعة التي جعلت ماثيو أرنولد يرمي برؤية تفاؤلية تطرح الفن بديلًا عن الدين، وتسمح بعد ذلك لبودلير أن يتبنى موقفه الشهير في استقلالية الفن كموضوع علمي لا يحظى بأية مسؤوليات أخلاقية وفلسفية عدا مهمة إنتاج الجمال.

اقرأ أيضًا: المتحف البريطاني.. أكبر مقتنٍ للقطع الأثرية المسروقة في العالم

لاحقًا تحركت عجلة الصناعة منذ منتصف القرن التاسع عشر، بسرعة منفلتة ومجنونة جعلت العقل النقدي والأخلاقي ينتج ثورته الفنية (الطليعية) التي كانت مهمتها تحطيم صنم استقلالية الفنون عن هموم الإنسان، وتنتقد فكرة أن يكون الفن قِطعًا خاوية من الهم الأخلاقي!

هذه الثورة الفنية رغم أنها استطاعت تفكيك استقلالية الفن وسحبه نحو الهم الإنساني؛ فإنها واجهت في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين قوتَين تمثلتا في “المال” + “التطور التكنولوجي”؛ مما مهَّد الطريق لــ”تسليع” الفنون وتحويلها إلى منتج قابل للاستنساخ، فقد سيطر التجار على المزاج الفني الذي فقد معياريته الجمالية بضغوط قيم وأخلاق (ما بعد الحداثة)، والتي حاربت ثبات وعلمية ومعيارية علم الجمال.

شاهد: فيديوغراف: مبدعون مكتئبون

هذا الثالوث المعادي لمعيارية الفن (المال + التكنولوجيا + قيم ما بعد الحداثة) كان سببًا لمفهوم أطلق عليه الناقد فالتير بنجامين، اسم “تحطيم قداسة الفنون”، فأصبح الفن يُنتج ويُعلب كما يُنتج الفوشار والبسكويت! ولم تعد للمعارض الفنية هيبتها وقدسيتها، وهو ذات المثلب الذي رأى فيه شيخ مدرسة فرانكفورت الشهير أدورنو، ما سمَّاه “استنساخ الفنون” وتحطيم أصالتها؛ كسببٍ في نكوصها، إذ أصبحت الشركات ووسائل الإعلام تتحكم في المزاج الفني بعلم للجمال يركب موجة الإبهار التكنولوجي الفارغ من أية قيمة معيارية! وأصبح الفن “سلعة” يمكن ترويجها عبر سوق عالمية من الترفيه والتسلية والإبهار البصري، كما استطاعت وسائل الإعلام إعادة تشكيل الذوق العام؛ لتقنع الجماهير عبر نظريات الغرس الثقافي بأن التسلية هي مهمة الفنون وحسب! وبأن القول بغير ذلك يُعد ضربًا من الخبل والمثالية التي لا تستحق إلا السخرية! وحينها رحلت نظرية بودلير في الفن الخالد الذي أصبح فنًّا سريع الزوال ومتحولًا وغير معياري. وقد قام على هذه المعادلة -مثلًا- فن بقيمة السينما الذي كان ينتظر أن يكون ثريًّا قبل أن يقنعنا أحدهم أن الصورة هي المعيار، الصورة بشكلها المعزول عن أي قيم جمالية أخرى!

ديكارت

أختم هذا السرد التاريخي- الفني منذ القرن الرابع عشر الميلادي بسؤال أطرحه عليكم -أيها القراء الأعزاء- كما أطرحه على نفسي قبل ذلك:

هل من حق الفنان أن يضع على ما ينتجه من فنون في التشكيل والمسرح والسينما والقصيدة والأدب، اسمه أو توقيعه، مع كل هذا التاريخ الحافل من النسخ وإعادة الإنتاج وتحطيم الهويات؟! هل –حقًّا- ما زال الفنان يُقيم على إنتاجه معيارًا واضحًا في المزاج الفني الذاتي؟ هل على الفنان العربي أن يضع اسمه على اللوحة أو الفيلم أو ربما عليه قبل ذلك أن يطرح أسئلة تتعلق بالقيمة الجمالية ومعياريتها ومدى وعيه كفنان بعمق عمله ثقافيًّا؟! هل على الفنان السعودي أن ينتج الفن كما هو سائد ومطروح، ويستمر في استنساخ القوالب كما هو الآن منتشر في الوسط الفني من التزام سطحي وممجوج في المدارس الفنية إرضاءً لمزاج نقدي أو اتباعًا لانبهار شعبي فرضه معيارا السوق والسائد، والسخرية لمَن يسخر من سطحيته وتفاهة إنتاجه وخلو فكره من أي معيار أخلاقي؟!

اتبعنا على تويتر من هنا

 

 

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات