الواجهة الرئيسيةترجمات

هل من الممكن اختزان تأثير الصدمات النفسية في الجسم؟

كيوبوست

أصبح العلماء يمتلكون الآن أكثر من أي وقت مضى ما يكفي من الدلائل على العلاقة الوطيدة والمتشابكة بين العقل والجسم، ونحن نشعر بذلك في التأثيرات التي تحدث للجهاز الهضمي عند المرور بأية خبرة تؤثر على صحتنا العقلية. كما يمكننا أن نلحظ تلك الحقيقة في عدد من الأعراض الجسمانية الأخرى؛ منها ما ينتج عن تأثير الصدمات النفسية والضغط النفسي على معدل ضربات القلب أو ما يحدث من قبيل حالات الارتجاف أو الشعور بالألم في مناطق متفرقة من أجسادنا. ويحدث ذلك في أغلب الصدمات النفسية؛ خصوصًا تلك الصدمات التي لم تتم معالجتها من قِبَل العقل أو الصدمات التي ينسى الإنسان أنه مر بها.

وتشير الدراسة التي أعدتها الباحثة كيلي تيرنر، إلى أن الصدمات النفسية لا تكتفي بزرع نفسها في اللا وعي والذاكرة فقط، بل تمتد لتخزين نفسها في أجسامنا؛ لذلك ليس من المستغرب أن نجد أحد أكثر طرق العلاج التقليدية كالعلاج السلوكي الذهني تهتم بأمر كهذا، حيث تنص تلك الطريقة على أن المحفزات الفيزيائية للجسم كاللمس على سبيل المثال من الممكن أن تتسبب في إظهار الأعراض المتعلقة بتلك الصدمات.

من أين تأتي الصدمات النفسية؟

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل يمتد إلى بعض الملاحظات الغريبة، منها انخراط بعض الناس في نوبات من البكاء بمجرد تعرضهم إلى اللمس في جلسات التدليك أو الوخز بالإبر، وقبل أن نسعى للاستفاضة في الحديث، علينا أن ندرك أولًا أنه لا يوجد شخص واحد بيننا إلا وتعرَّض إلى نوع ما من أنواع الصدمات النفسية، جميعنا بلا استثناء مررنا بتلك الصدمات بطريقة أو بأخرى، وليس من الصحيح أن الصدمات النفسية ترتبط فقط بالتعرض إلى أمور شديدة الخطورة كالحرب أو الاغتصاب أو العنف أو الإيذاء الجسدي أو المرور بتجربة الاقتراب من الموت، فهنالك أمور قد يتعرض إليها الإنسان وتكون أقل وضوحًا؛ لكنها تظل مؤثرة في نفس الإنسان وقد ينتج عنها إفساد حياته.

اقرأ أيضًا: حركة #مي-تو تفتح حوارًا حول اضطراب ما بعد الصدمة

الباحث جيمس غوردون، مؤسس مركز الطب النفسجسمي ومؤلف كتاب “كيف تصل إلى التعافي الكامل بعد التعرض إلى الصدمات النفسية؟”، يقول: “لا مفر من أن يتعرض أي فرد منا إلى الصدمات النفسية، إن لم يحدث ذلك في الماضي فسيحدث في القريب العاجل أو حتى في المستقبل البعيد. ولا يمكن إنكار أن هناك بعض الأنواع من الصدمات النفسية التي تكون أكثر وضوحًا من الأخرى؛ كالتعرض إلى تجربة الحرب أو الاغتصاب، لكن ذلك لا ينفي أن المرور بخبرات أخرى أقل خطورة قد يتسبب في إحداث صدمات نفسية، وقد يكون تعرضك أو تعرض أحد أفراد أسرتك إلى مرض خطير سببًا في ذلك، أو قد تتسبب في إصابتك بالصدمات النفسية أمور أقل شأنًا مثل فقدان عزيز أو انتهاء علاقة عاطفية مهمة أو حتى فقدان وظيفة أو الاضطرار إلى مغادرة مجتمعك الذي تربطك به صلات وطيدة”.

وليس من الضروري أن تنتج الصدمة النفسية عن التعرض إلى حدث بعينه، وهو ما تؤكده د.إلين فورا، التي تعمل في مجال الطب النفسي العام والحاصلة على درجة الماجستير، قائلةً: “هناك اهتمام متزايد بنوع الصدمات النفسية صغيرة الشأن؛ أي تلك الأحداث متوسطة الحدة أو تكاد تكون جزءًا من الحياة اليومية، لكنها مع التراكم يومًا بعد يوم تتحول إلى ما يشبه في تأثيره الصدمات الكبيرة”.

وتكمن المشكلة في أن التأثيرات النفسية والجسمية السلبية للصدمات لا تختفي من تلقاء نفسها؛ لكنها علاوة على ذلك تظل مختبئة في العمق، حتى إنها تبدو أحيانًا منقطعة الصلة بالأحداث التي تسببت فيها. ولدينا مثال واضح على ذلك، وهو ما نسميه اضطراب ما بعد الصدمة؛ أي المرض النفسي الذي ينتج عن التعرض إلى خبرة مؤذية من بين الخبرات المهددة للحياة التي سبق أن تحدثنا عنها، يحدث الأمر نفسه في حال تعرضنا إلى مشاهدة نفس الأحداث من دون أن نتورط فيها، ومن الممكن أن يستمر تأثير هذه الصدمة على امتداد حياة الإنسان، ذلك في حالة تجاهل العلاج.

ماذا يحدث للجسم خلال وبعد التعرض إلى الصدمات؟

لفهم السبب الذي يكمن خلف استمرار تأثير الصدمات على مدى حياة الإنسان، وكذلك الطريقة التي يتم بها اختزان تأثير الصدمات فيزيائيًّا في الجسم، علينا أن نلقي نظرة سريعة على ما يحدث لنا خلال وعقب التعرض إلى الصدمات. ويشرح لنا جوردون ما يحدث في أثناء المرور بتجربة مؤذية على النحو الذي ينتج الصدمة؛ حيث يتمحور رد فعل الجسم الطبيعي حول اتخاذ أحد القرارين، إما المواجهة وإما الهروب، ويتزايد معدل ضربات القلب وتتضخم العضلات ويتزايد الإمداد الدموي ويقلل الجهاز الهضمي من وتيرة عمله، كل ذلك لجعل الشخص إما جاهزًا للمواجهة والقتال وإما الفرار بنفسه من مصدر الخطر.

 وعلى ما يبدو أن هناك اختيارًا ثالثًا يلجأ إليه الجسم بشكل تلقائي في حال عجزنا عن المقاومة أو الفرار، وهو التوقف عن الفعل أو “التجمد”؛ ما ينتج عنه ما يشبه الغياب المؤقت للوعي، وقد يقوم العقل ساعتها بفصل الشخص عن الموقف، أي بإيهامه وإجباره على الإحساس بأنه يعاين الموقف من بعيد على عكس الحقيقة التي تنص على كون الشخص متورطًا في الحدث بالفعل، ويحدث ذلك عند التعرض إلى تجارب شديدة الخطورة ولا تسمح بالهرب؛ مثل الاغتصاب أو المرور بعلاقة تتسم بقدر كبير من تعمد الإيذاء البدني والنفسي.

اقرأ أيضًا: كيف يمكن لعلم النفس أن يساعدنا على العيش بطريقة أفضل؟

ويعتبر الجهاز العصبي اللا إرادي هو المسؤول عن تلك الاستجابات التلقائية؛ حيث تنشط المناطق المسؤولة عن الخوف والغضب وتحفيز المشاعر، مثل منطقة اللوزة الدماغية الموجودة بالمخ، بينما يقل نشاط المناطق الأخرى المسؤولة عن العمليات الواعية كعمليات اتخاذ القرار والوعي بالذات والتواصل والشفقة، كما يتم تثبيط منطقة القشرة المخية الأمامية المسؤولة عن تلك العمليات.

وليس من الضروري أن تتسبب كل الأحداث المؤذية في اضطراب نفسي وجسمي طويل المدى، ففي حالة أن ينجح الإنسان في الاستجابة على نحو صحيح لمصدر الخطورة؛ فإن الأمور تسير على نحو جيد، حيث يمكن النجاح في قلب الأوضاع وتوجيه الضغط النفسي توجيهًا جيدًا في أثناء الحدث أن ينتصر على التأثيرات خلال شهر واحد؛ إذ تكفي تلك المدة لمحو مشاعر القلق ونسيان الذكريات السيئة المتعلقة بالموقف أو حتى التقليل من حدتها، وهو ما تؤكده أندريا روبرتس الحاصلة على درجة الدكتوراه من مدرسة الصحة العامة بجامعة هارفارد، وهي متخصصة في دراسة أعراض اضطراب ما بعد الصدمة.

وليس كل الناس مجهزون لاجتياز تلك الأحداث بطريقة سليمة؛ إذ يعتمد ذلك على الظرف وعلى الشخص نفسه أيضًا، ومن هنا تحدث الأزمة، وينتج عن الفشل في التعامل الصحيح غياب للتفكير الواعي في أثناء الحدث؛ لذلك يظل الشخص متعلقًا نفسيًّا وجسمانيًّا بعمليات الفرار والمواجهة والتجميد التي لم تحدث بشكل صحيح في الوقت المناسب. كما تؤكد (فورا) أمرًا آخر شديد الأهمية، وهو أن الجهاز العصبي اللا إرادي ربما يدخل في حالة من النشاط واليقظة المبالغ فيهما؛ أي في حالة مبالغ فيها من انعدام الوعي، وهو ما يدفعنا إلى إعادة السؤال الذي بدأنا به: هل يمكن للصدمات التي لم يتم علاجها أن تبقى وتخزن نفسها في الجسم؟

صخور عالقة في مجرى النهر

تقول شايلي جين، التي تعمل كأستاذ مساعد للدراسات السريرية للعلوم النفسية والعصبية بكلية الطب جامعة ستانفورد: “تمثل الصدمات النفسية كل الانتهاكات التي قد يتعرض إليها أي مما نملكه من الأشياء العزيزة والمقدسة، وتلك الأحداث غالبًا ما تكون على قدر من الفظاعة يمنعها من التعبير عن نفسها بحرية، وهي لذلك تتحول إلى حالة من الصمت التام، تبقى بداخلنا؛ لكنها لا تظهر إلى العلن”، مضيفةً: “في حال بقاء تلك الأفكار والذكريات الصادمة صامتة لفترة طويلة؛ فإنها تعيق العمليات الطبيعية التي يتخذها المخ لمعالجة الصدمات، أي أنها تتحول إلى صخور عالقة في مجرى النهر، وبالتالي تحول دون توافق العمليات العقلية التي نحتاج إليها للتعافي من أثر الصدمات”.

اقرأ أيضًا: لماذا ننجح في حل مشكلات الآخرين ونفشل في حل مشكلاتنا؟

وخلاصة القول أنه حينما تجري الأمور على النحو السابق، فإن عمليات المواجهة والفرار والتجميد التي لم تتم معالجتها على النحو الصحيح تظل قائمة بالجسم لمدة طويلة، وهكذا يتأثر جهاز المناعة ويستمر إفراز الهرمونات بالجسم والناقلات الكيميائية بالجهاز العصبي، تلك التي تفرز بشكل طبيعي في حالات (الفرار/ المواجهة/ التجميد)، لكنها تستمر لمدة طويلة حتى بعد زوال الحادث، أضف إلى ذلك تأثر الجهاز المناعي؛ حيث تشارك كل تلك الإفرازات والتحفيزات في إصابة خلايا الجسم وأعضائه وأجهزته بالأمراض، وهي الأمور التي أكدتها جين خلال حديثها عن اضطراب ما بعد الصدمة.

كما أضافت جين: “هنالك بعض الأجزاء التي توجد على أطراف الكروموسومات تسمى بالتيلوميرات، وهي التي تحدد عمر الخلايا، وقد لوحظ في الدراسات العلمية على الكروموسومات الوراثية أن مرضى اضطراب ما بعد الصدمة يمتلكون تيلوميرات أشد قصرًا من الأشخاص الأصحاء؛ أي أن عمر خلاياهم يكون أقصر زمنيًّا، أضف إلى ذلك أن 35% من حالات الألم المزمن يعانون اضطراب ما بعد الصدمة، كما ثبت أن هناك علاقة بين حالات الإصابة بمرض الألم العضلي الليفي واضطراب ما بعد الصدمة”.

وتواصل جين تفسيرها لتلك المعضلة المدهشة؛ حيث تشير إلى إمكانية أن تعبر أعراض ما بعد الصدمة عن نفسها في هيئة مشكلات جسدية لا نفسية، يحدث ذلك حينما لا ينجح المريض في تقبل الأعراض النفسية بسبب تجليها على قدر من الفظاعة لا يمكن تقبلها من الشخص نفسه أو لكونها تكسر أحد مقدسات المجتمع، وهو ما يدفعه إلى إنكارها وكبتها. ومن الممكن أن يصعب على المعالج النفسي فهم طبيعة الأعراض النفسية في موقف كهذا، وهو ما يفسر تعبير الصدمات عن نفسها في ما بعد على هيئة أعراض جسمانية حتى في الأوقات التي لا نفكر فيها بشكلٍ واعٍ في الصدمة الحقيقية التي تعرضنا إليها.

وقد اعتقد المعالجون بالطاقة والأطباء الصينيون الشعبيون في أمر مثير للدهشة، وهو أن مفاتيح ذكرياتنا للصدمات التي تعرضنا إليها تكون مختزنة في أجسادنا، وهو ما يعني أن اكتشافها سيسهم في اكتشاف ومعالجة الخبرات الصادمة التي مررنا بها من قبل. وقد يكون من الصعب إثبات أمر كهذا، لكن ذلك لا ينفي مدى جدارة التفكير فيه، خصوصًا إذا كنا نعرف الآن أن الصدمات التي يصعب تقبلها ذهنيًّا أو معالجتها في العقل تتحول إلى تأثيرات هرمونية وكيميائية دائمة في الجسم؛ أي أنها تتحول إلى طاقة عالقة في أجسادنا تبحث عن متنفس لها ولا تجد، وذلك بالمعنى المجازي والمادي.

تقول جيل بلاكواي، وهي أحد العاملين في مجال الوخز بالإبر والطب الصيني في أمريكا ومؤلفة كتاب “طب الطاقة”: “إن ذكرياتنا عن الصدمات التي نتعرض إليها لا يتم تخزينها على نحو واحد؛ حيث يمكن تخزينها مرةً على نحو تسلسلي بالجسم وأخرى على نحو فعلي بالعقل، وما يحدث هو أننا نختبر الصدمات بأجسادنا، وهناك إحساس جسدي مرتبط بالصدمة يستمر معنا، وربما يعيق هذا الإحساس استدعاء الذكريات الفعلية للحدث على نحو جيد، لذلك أنا أؤمن أن هنالك نظامَين لتخزين الذكريات، أحدهما بالعقل والآخر بالجسم، لكن للأسف نقوم بتجاهل الأخير رغم تأثيره الضخم”.

أهمية الطريقة التي تستخدمها للتحكم في عملية كشف المشاعر

من الممكن أن تتسبب تلك الطرق التي سبق أن ذكرناها في نتائج متعارضة، فاللحظة التي تكشف فيها المشاعر المختزنة عن نفسها وتتحول إلى فيض من البكاء والتنهدات قد تكون مفيدة للبعض باعتبارها حالة من التنفيس النفسي؛ لكنها قد تكون مرعبة للبعض عند تذكر تلك الأحداث الرهيبة مرة أخرى، ويعتمد ذلك على مدى حدة وخطورة الحدث نفسه الذي نتجت عنه الصدمة؛ لذلك فمن المهم للغاية معرفة الطريقة التي سيتم بها توجيه تلك المشاعر على نحو صائب قبل الشروع في الكشف عنها.

اقرأ أيضًا: لماذا نبكي؟ اكتشافات علم النفس بشأن الدموع العاطفية

ولعل اللجوء إلى طرق من قبيل اليوغا أو الوخز بالإبر وجلسات التدليك قد يكون مفيدًا؛ لكنه لا يحقق فائدة إلا في حال استخدام الطريقة المثلى لاحتواء فيض المشاعر الذي سينتج بعد ذلك، وفي كثير من الأحيان يمكنك أن تشعر بالحزن أو الغضب أو الخوف؛ لكنك ستعجز عن وضع يدَيك على السبب الحقيقي الذي يكمن خلف تلك المشاعر، لذلك من المهم أن تكون مستعدًّا على نحو ما باستخدام دفتر ملاحظات يومية يمكنك تدوين ما تشعر به، أو قد يكون من الأفضل أن تتصل بمعالجك النفسي. وربما تتحول تلك اللحظات التي تتمكن فيها من إخراج مشاعرك المكبوتة إلى النور إلى لحظات مُلهمة، لكن عليك قبل ذلك أن تكون مستعدًّا لتوجيهها على النحو الصحيح؛ أي على النحو الذي يدفع إلى تعافيك لا العكس.

المصدر: موقع “مايند آند بودي جرين

اتبعنا على تويتر من هنا

 

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة