الواجهة الرئيسيةشؤون دوليةمقالات
هل تستطيع أن تحفظ السرَّ؟
مرة أخرى تثير تسريبات البنتاغون أسئلةً صعبة

كيوبوست
دينيس ساموت♦
ليست هذه المرة الأولى التي تواجه فيها الولايات المتحدة مشكلة تسريب وثائق حكومية، سواء كان ذلك من خلال جواسيس يعملون لصالح حكوماتٍ أجنبية بمقابل المال أو بدوافع أيديولوجية، أو من خلال الأفراد الذين -كما يدعون- يرون أنه من مصلحة المجتمع تسريب الوثائق الحكومية للجمهور الأوسع. ربما كان إدوارد سنودن أشهر مثال على هؤلاء، على الرغم من أن دوافعه لا تزال غير واضحة تماماً. وبغض النظر عن الدوافع، فقد استفاد أعداء ومنافسو واشنطن من التسريبات بكل تأكيد. وتبذل الحكومات في الولايات المتحدة، وغيرها من الدول، جهوداً كبيرة في محاولة منع حدوث تسريبات، ولكن هذه الحكومات تدرك مدى استحالة وقفها بشكلٍ نهائي.
لم تكن أخبار التسريبات الأخيرة -هذه المرة وثائق سرية للبنتاغون- مفاجئة، لكنّ هناك أمراً في هذا الخرق الأخير يقودنا إلى الاعتقاد بأن هذه القصة مختلفة نوعاً ما، ولكن الحقيقة لا تزال غامضة. فمنذ البداية وعلى مدى أيامٍ محمومة، بدا خلالها مسؤولو البنتاغون في حالةٍ من الارتباك بسبب عدم معرفتهم بمدى الاختراق ومصدره.
وفي يوم الخميس 13 أبريل، ألقت السلطات القبض على شاب يدعى جاك تيكسيرا، واتهمته بنشر العشرات من الوثائق الحساسة على مجموعة دردشة على الإنترنت، لغرض التباهي أمام أعضاء مجموعة الدردشة الآخرين على ما يبدو. وتيكسيرا البالغ من العمر 21 عاماً يخدم في الجناح الجوي للحرس الوطني بولاية ماساتشوستس.
اقرأ أيضًا: الولايات المتحدة تواجه أسوأ تسريب لوثائق سرية منذ إدوارد سنودن
تنفس مجتمع الاستخبارات الأمريكية الصعداء لأن ما حدث كان حالة منفردة، والضرر الذي حدث كان محدوداً ويمكن احتواؤه، ولأن هذا الاختراق لم يكن مقدمة لما هو أسوأ وأوسع نطاقاً. ومع ذلك، فإن الحادثة، حتى ولو كانت محدودة، وتم احتواؤها كما تشير التقارير، فإنها لا تزال تثير العديد من التساؤلات المقلقة حول أسرار الدولة وكيفية حمايتها.
هل يمكن حفظ الأسرار في عالم اليوم؟
الجواب المختصر هو لا. لا يمكنك حفظ الأسرار إذا كنت ترسل المعلومات عبر الإنترنت. وعلينا أن نفترض أن حتى أكثر قنوات الاتصال أماناً يمكن أن تكون معرضة للاختراق بطريقةٍ أو بأخرى، أو يمكن أن تتعرض لذلك في المستقبل. وهذا أحد أسباب استمرار اللقاءات الشخصية التقليدية على جميع المستويات من مستوى المديرين، وصولاً إلى رؤساء الدول.
لا أحد يمكنه ضمان سلامة المحادثات الهاتفية أو البريد الإلكتروني حتى ولو تم تبادلها عبر القنوات الأكثر تشفيراً. بالطبع يمكنك دائماً القيام بأشياء تجعل الأمر أكثر صعوبة على خصمك أو منافسك أو حليفك الفضولي، ولكن أولئك الذين يؤمنون بوجود اتصالاتٍ آمنة إنما هم يخدعون أنفسهم.

قاعدة إتاحة المعلومات على قدر الحاجة
من الأمور المهمة هنا مسألة من يمكنه الوصول إلى المعلومات السرية. تعمل معظم المؤسسات على أساس الحاجة إلى معرفة المعلومة -فأنت تعرف فقط ما تحتاج إلى معرفته لأداء مهامك بشكلٍ صحيح- لكن هذه المعايير غير دقيقة. ويبدو أن هنالك 1.25 مليون شخص في الولايات المتحدة لديهم تصاريح أمنية. ونظراً لأن جميع البيانات مخزنة على أجهزة الكمبيوتر، يكون هؤلاء قادرون على الوصول إلى معلومات أكثر مما يحتاجونه.
والسؤال المحير بالنسبة لمعظم الناس هو: لماذا يحتاج الحرس الوطني في ولاية ماساتشوستس إلى الوصول إلى إحاطات سرية معدة لهيئة الأركان المشتركة؟
اقرأ أيضًا: “جلوبال تايمز”: تسريب استخباراتي يكشف تورط الولايات المتحدة في التجسس لصالح أوكرانيا
علاقة قائمة على “الثقة”
إن أساس إعطاء التصريح الأمني هو “الثقة”. ومع ذلك فإن عملية منح التصريح الأمني في معظم الأحيان تتم من خلال ملء بعض الاستمارات فقط. من المفترض استبعاد المشاعر والتحيزات الشخصية من العملية لجعلها أكثر فاعلية، ولكن في الحقيقة عندما يتعلق الأمر بالثقة بالعلاقة بين المانح والممنوح، تكون العلاقة أكثر تعقيداً ومن غير المرجح أن يتمكن الذكاء الاصطناعي من تقييمها.
وترتبط بذلك مسألة تحفيز أفراد بعينهم لخيانة بلادهم أو لقطاع عملهم سواء أكان حكومياً أو عسكرياً أو تجارياً. فالبعض يرتكب الخيانة من أجل المال، أو لتحقيق مكاسب شخصية. بينما البعض الآخر يكون مدفوعاً بفكرٍ أو دين أو قضية.
بينما يرى آخرون أن ما يفعلونه هو في خدمة الصالح العام للمجتمع، كثيراً ما تتم الإشادة بهؤلاء، ويطلق عليهم تسمية “المبلغين عن المخالفات”. ولكن السؤال المهم هنا هو: من يقرِّر ما هي المصلحة العليا؟
تعكس العديد من هذه المعضلات مجتمعاتنا المعاصرة المشوشة. حيث أدَّى التقدم التكنولوجي السريع والحركات الجماهيرية والانحدار العام في “القيم”، إلى فقدان الكثير من الناس لبوصلتهم الأخلاقية.

دفن الأسرار بين المعلومات المضللة
حتى قبل عصر الإنترنت، كان نحو 95% من المعلومات السرية متاحاً في مكانٍ ما على مصادر مفتوحة. وكان هناك نوعان من العوائق، الأول هو صعوبة الوصول إلى المعلومات السرية، والثاني هو تقدير أهمية المعلومة عندما تقع بين يديك. ومن البديهي أن نفترض أن هذه النسبة قد ارتفعت في وجود الإنترنت، ولكن بالنظر إلى الكم الهائل من المعلومات المتاحة، فإن مهمة تحديد المعلومة الاستخباراتية المهمة أصبحت في غاية الصعوبة.
يبدو الآن أن عملية دفن المعلومات الحقيقية في مستنقع من المعلومات المضللة قد بدأت تتطور إلى فن خاص بحدِّ ذاته. ولهذا السبب اعتقد البعض -في بداية الأمر- أن تسريبات البنتاغون الأخيرة ربما كانت جزءاً من عملية متعمدة لنشر معلومات مضللة.
اقرأ أيضًا: يوتيوب والمعلومات المضللة
ما الذي تقوله لنا الوثائق المسربة؟
إذا وضعنا جانباً مسألة من سرَّب الوثائق، وكيف ولماذا، يبقى لدينا المحتوى الفعلي لهذه الوثائق. وربما يكون الاستنتاج الأكثر إثارة للدهشة، بما يتعلق بهذه الوثائق، هو معرفة أن الأمريكيين لديهم معلومات دقيقة وفورية عن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وهذا أمر لا بد أنه يؤرِّق المسؤولين في الكرملين لأنه يكشف عن ضعف روسي له عواقب وخيمة.
أما الأمر الأقل إثارة للقلق هو معرفة أن الأمريكيين يتجسسون على حلفائهم. لكن، وبصراحة، لا ينبغي أن يكون ذلك مفاجئاً لأحد، حتى الحلفاء أنفسهم، الذين على الرغم من التأكيدات السابقة التي تنفي ذلك، هم على دراية جيدة بما يجري، ولم يكن أمامهم سوى الغضب من تجسس حليفهم “الفضولي”.
أما الاستنتاج الآخر الذي يمكن للمرء التوصل إليه، والذي كشفت عنه التحليلات الأمريكية المسربة، فهو أن التصعيد في الحرب الأوكرانية ليس ممكناً فحسب، بل متوقعاً، وهذا أمر يثير قلق الأمريكيين.
تخبرنا الوثائق المسربة أن حرب أوكرانيا غارقة في الفوضى، لكننا كنا نعرف ذلك من قبل.

تداعيات الحلقة الأخيرة من مسلسل التسريبات
بينما هدأت حالة الذعر التي سادت في الأيام الماضية، حول مصدر وحجم الخرق الأمني في الولايات المتحدة، فلا يزال لدى مجتمع الاستخبارات الأمريكي الكثير من الأسئلة التي ينبغي الإجابة عليها فيما يتعلق بكيفية الحفاظ على أسراره.
لقد أصبح حلفاء الولايات المتحدة يعيشون حالةً من القلق المتزايد من أن ما حدث يعني أن هذه التسريبات ستستمر. ومن المرجح أن تؤدي هذه المخاوف إلى بعض الحوارات الصريحة بين الحلفاء في المستقبل. وربما يكون هذا الشاب المتهور من ماساتشوستس الذي فضح درجة عدم الكفاءة الأمريكية في الحفاظ على الأسرار، قد بدأ شيئاً ربما يكون له في النهاية جانبٌ مضيء.
♦مدير موقع LINKS Europe ومقره لاهاي، ورئيس تحرير موقع commonspace.eu.، يكتب بانتظام عن قضايا الأمن الأوروبي العالمي، وعلاقات الاتحاد الأوروبي مع دول الجوار وشؤون الخليج العربي. ([email protected])
لقرءاة الأصل الإنكليزي: The Pentagon Papers by Dennis Sammut