الواجهة الرئيسيةشؤون دولية
هل تتبع أوروبا نهج ماكرون في “الاستقلال الاستراتيجي”؟
من المتوقع أن يثير التصعيد الأمريكي- الصيني بشأن تايوان خلافاً بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين الذين يواجهون تداعيات الحرب المستمرة في أوكرانيا..

كيوبوست
لا تزال تداعيات التصريحات التي أدلى بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن طبيعة العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وضرورة وجود “استقلال استراتيجي” لأوروبا عن واشنطن، تحظى باهتمامٍ كبير في الأوساط السياسية، خاصة وأن المقابلة التي أُجريت مع ماكرون خلال عودته من زيارة للصين، مطلع الشهر الجاري، تم حذف أجزاء صريحة منها من جانب قصر الإليزيه الذي اشترط تدقيق جميع الاقتباسات المنقولة عن الرئيس قبل نشرها.
ويُعتبر ماكرون الزعيم الأوروبي الوحيد الذي تحدَّث صراحة بضرورة عدم اتباع أجندة الولايات المتحدة بشأن تايوان، والتي حمَّل واشنطن مسؤولية “تسريعها”، فيما اتهم بكين بأنها تقوم بـ”رد فعل مبالغ فيه” على الموقف الأمريكي.
اقرأ أيضاً: فاينانشيال تايمز تتساءل: هل فرنسا في طريقها إلى الجمهورية السادسة؟
ويُنظر بترقب للموقف الصيني، والتصريحات الرسمية الصادرة عن بكين بشأن الحرب الروسية- الأوكرانية، خاصة مع تعزيز التعاون بين موسكو وبكين بصورةٍ غير مسبوقة منذ بداية الحرب، وفرض العقوبات الأوروبية- الأمريكية على موسكو.
وفيما يعكس بروز الخلاف سياسياً، تباينت البيانات الرسمية الصادرة عن الإليزيه والبيت الأبيض الأسبوع الماضي، بعد اتصالٍ هاتفي بين الرئيس الفرنسي، ونظيره الأمريكي، خصص لمناقشة نتائج زيارة ماكرون للصين.
ففي الوقت الذي تحدث فيه بيان البيت الأبيض عن التأكيد على أهمية حفظ السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان، تطرق بيان الإليزيه إلى الاتفاق على أهمية مواصلة إشراك الصين بالمساهمة في التوسط لإنهاء النزاع بأوكرانيا، وهو الأمر الذي لم يُذكر في البيان الصادر عن الجانب الأمريكي.

مواقف متسقة

يحاول الرئيس الفرنسي التخلص من العباءة الأمريكية، بحسَب المحلل السياسي الفرنسي توفيق قويدر، الذي يقول لـ”كيوبوست” إن هذه التصريحات تنسجم مع مواقفه السابقة من الولايات المتحدة، خاصة بعدما أضرت العقوبات الاقتصادية التي فرضت في عهد ترامب، بالصناعات الفرنسية، سواء في المجال العسكري أو في قطاعاتٍ أخرى، إلى جانب تأثير هذه العقوبات على باقي دول الاتحاد الأوروبي، مشيراً إلى قناعة ماكرون بأن تشكيل الجيش الأوروبي سيجعل هناك استقلالية للقرار الأوروبي بشكلٍ أكبر عن واشنطن.
وأضاف أن ماكرون يسعى لتحقيق هذه الرؤية على الرغم من ضعف محور باريس- برلين، عما كان عليه إبان فترة تولي المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بالإضافة إلى التأثر السلبي للاتحاد الأوروبي بخروج بريطانيا.
ولفت إلى أن المواقف الفرنسية تأتي في ظل وجود مصالح فرنسية في المحيط الهندي؛ ومع الصين التي لا تريد خسارتها، بسبب المعاملات المالية الكبيرة الموجودة بين بكين والاتحاد الأوروبي، والتي لا يمكن التضحية بها.
اقرأ أيضًا: ما يجب فعله لتجنب الحرب في تايوان

لم يكن تصريح الرئيس الفرنسي متأثراً بزيارته إلى الصين بقدر ما هو ترسيخ لمواقف سابقة اتخذها وأعلنها، بحسب مدير مركز بروكسل للأبحاث د.رمضان أبو جزر، الذي يقول لـ”كيوبوست” إن إيمانويل ماكرون لديه موقف تجاه استقلال قرار السياسة الخارجية الأوروبية، وهو دعاه عام 2017 للمطالبة بضرورة إنشاء جيش أوروبي.
وأضاف أن الخلاف الأوروبي- الأمريكي، سياسياً، ليس جديداً، فقد حدث من قبل عندما اتخذ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قراراً بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وعندما رفضت ألمانيا وقف التعاون مع روسيا في مجال الغاز، بالإضافة إلى الخلاف الكبير حول صفقة الغواصات الأسترالية التي حصلت عليها الولايات المتحدة بديلاً عن فرنسا.
اقرأ أيضًا: ماكرون: على أوروبا ألا تصبح “تابعة لأمريكا”

وبعيداً عن ردود الفعل السلبية قصيرة المدى، فإن التصريحات لن يكون لها تأثير، بحسب د.جان لوب سمعان، الباحث الأول في معهد الشرق الأوسط التابع لجامعة سنغافورة الوطنية، الذي يصف لـ”كيوبوست” توقيت المقابلة بـ”السيئ” لكونه جاء خلال عودة ماكرون من الصين، وأثناء تدريبات عسكرية حول تايوان، مشيراً إلى تصريحات المسؤولين الأوروبيين التي أكدت مصلحة الاتحاد بأهمية منع نشوب صراع في تايوان بعد أيام من مقابلة ماكرون.
وأضاف أن هذه التصريحات لن تؤثر على الإدارة الأمريكية بأي شكلٍ من الأشكال، وهو ما برز في جميع التصريحات الدبلوماسية التي صدرت، سواء من مجموعة السبع أو على المستوى الثنائي بين واشنطن وباريس.

يؤكد السفير الأمريكي الأسبق في السعودية، تشاس فريمن جونيور، أن تصريحات ماكرون لم يكن مرحَّباً بها على الإطلاق في الولايات المتحدة، على الرغم من تفهم دوافعها وخلفياتها، خاصة وأن فكرة الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا، والموقف من تايوان، لم يكن فيهما تغير كبير.
وأضاف أن ثمة آراء مختلفة بين السياسيين والخبراء حول هذا الأمر بشكلٍ كبير، يرتبط بتوقعات ورؤية كل فرد للطريقة الأمثل في التعامل مع الوضع في الصين وتايوان، وبالتالي ستجد آراء متعارضة قد تصل إلى درجة التناقض حتى في تفسير كل موقف.

يتفق مع هذا الرأي، الدكتور يوتشيرو ساتو، عميد كلية دراسات “آسيا باسيفيك”، الذي يقول لـ”كيوبوست” إن تصريحات الرئيس الفرنسي أثارت الانقسام بين الحلفاء الغربيين، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا الموقف لا يتسق فقط مع النظرة الفرنسية أو الأوروبية؛ وإنما ثمة مواقف حدثت مع حلفاء آخرين شعروا خلالها بالضيق من الولايات المتحدة.
وأضاف ساتو أن الصين تسعى لإبقاء الموقف الأوروبي محايداً فيما يتعلق بتايوان، بخلاف ما تحاول واشنطن العمل عليه مع شركائها الأوروبيين، لافتاً إلى أن بكين تعمل على إغراء الأوروبيين بفرص التصدير والاستثمار.
قلق متوقع

من المرجح أن تنظر الولايات المتحدة بقلق إلى الدعوة الفرنسية، بحسب نيراج سينج، مدير الأبحاث في رايسينا هاوس بالهند، الذي يقول لـ”كيوبوست” إن واشنطن لطالما نظرت إلى أوروبا كحليفٍ رئيسي في جهودها العالمية لتعزيز الديمقراطية، مع اعتبار أن أي تحرك أوروبي للابتعاد عن الولايات المتحدة يمكن أن يُنظر إليه باعتباره ضربة لهذا الأمر، لكن في الوقت نفسه يمكن أن يكون مثل هذا التحرك فرصة نحو مزيدٍ من الخطوات لتقاسم الأعباء، والتعاون الأمريكي الأوروبي بشأن القضايا العالمية.
ويشير نيراج سينج إلى النمو المتزايد في مجالات التعاون بين روسيا والصين، على سبيل المثال، من أجل إتاحة بدائل لتقليل هيمنة الدولار، حيث قفزت التجارة بالعملة المحلية بين البلدين بنحو 80 ضعفاً منذ بداية الحرب، بينما تتحدث تقارير إعلامية عن إطلاق روسيا وإيران عملة مشفرة مدعومة بالذهب، ومن ثم فإن هناك اتجاهاً متزايداً بين بعض البلدان لتقليل اعتمادها على الدولار، واستكشاف أنظمة وعملات مالية بديلة، الأمر الذي ستكون له آثار كبيرة على الاقتصاد العالمي، وتوازن القوى بين الدول في السنوات المقبلة.

يشير توفيق قويدر إلى أن جزءاً من الصعوبات التي تواجه رؤية ماكرون مرتبط بنقص الإمكانيات في المقام الأول، لكون الميزان الاقتصادي يصب في صالح الولايات المتحدة، وليس الاتحاد الأوروبي، إلى جانب وجود عدة دول داخل الاتحاد الأوروبي ولاؤها الأكبر لواشنطن، وليس لمحيطها الأوروبي، كذلك حجم الإنفاق العسكري الذي لن يكون من السهل زيادته في ظلِّ الأوضاع الاقتصادية الحالية.
يلفت رمضان أبو جزر إلى أن الولايات المتحدة لم تعد الشريك الموثوق فيه بالنسبة لأوروبا مثلما كانت في الماضي، خاصة وأن هناك أصواتاً ترى اليوم بأن واشنطن كان يمكنها اتخاذ إجراءات تمنع الحرب الروسية الأوكرانية، ولم تفعل، بالإضافة إلى أن الحرب خسرت منها أوروبا بشكلٍ أكبر بكثير من الولايات المتحدة؛ ليس اقتصادياً فقط، ولكن سياسياً وأمنياً، مؤكداً أن الحرب أثرت على استقلال القرار الأوروبي، وأعادت التبعية لواشنطن بشكلٍ كبير.
وأضاف أن النظرة الأوروبية للولايات المتحدة تغيرت بشكلٍ شبه كامل، وهو أمرٌ لا يقتصر على الدول الأوروبية فحسب؛ وإنما على مناطق عدة حول العالم تضم حلفاء لواشنطن، وهو أمر يتطلب تحركاً أمريكياً واضحاً، واتخاذ إجراءاتٍ كي لا تخسر واشنطن حلفاءها، لاسيما وأن الإدارة الأمريكية لم تبدِ النية أو تظهر الرغبة في مراجعة مواقفها، والعمل على استعادة الثقة الضائعة.

يرى نيراج سينج أن الشراكة الأوروبية الآسيوية هي علاقة معقدة ومتعددة الأوجه، وتتأثر بالعديد من العوامل، لكن في النهاية هناك فرص لخلق قوة أوروبية متزايدة في عدة مناطق بآسيا، والتعاون في مجالات مثل التجارة والاستثمارات، لكن في النهاية يبقي السؤال الذي ينتظر الإجابة هو: كيف سيحدث ذلك على أرض الواقع، مع الأخذ في الاعتبار تغير ميزان القوى العالمي، وترجيح تزايد الدور الأوروبي في النظام العالمي الجديد.
يختم يوتشيرو ساتو، عميد كلية دراسات “آسيا باسيفيك” حديثه بالتأكيد على أن الخلاف البارز الآن حول جزيرة تايوان، ومسألة السيادة عليها، هو نفسه الموجود منذ عام 1949، فلم تؤيد الولايات المتحدة سيادة الصين عليها، والتزمت بالدفاع عن الوضع الراهن لإدارة الجزيرة، بينما يمكن رؤية الصين وهي تعتقد بأن صعودها الاقتصادي، وتضييق الفجوة في القوة العسكرية مع الولايات المتحدة، سيمكنها من أن تجد فرصة لفرض سيطرتها على الجزيرة.