الواجهة الرئيسيةشؤون دوليةملفات مميزة
هذه هي “أمجاد” الدولة العثمانية التي يريد أردوغان استعادتها!
مجازر ضد الشيعة وعنصرية ضد المسيحيين

خاص كيو بوست –
كثيرًا ما تصدر تصريحات عن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تنادي باستعادة القيم العثمانية “الأصيلة”، التي تعبر عن “جوهر الإسلام المتسامح”. كما يسعى أردوغان إلى استعادة النفوذ على المناطق التي كانت تحت السيطرة العثمانية، بحجة “نجاح” تلك الدولة في نشر مبادئ الإسلام السمح في تلك المناطق. ولكن هل كانت الدولة العثمانية حقًا، دولة الإسلام الحقيقي؟ وهل كانت سلوكيات تلك الإمبراطورية تنبع من قيم الإسلام؟
الدولة العثمانية في مواجهة مواطنيها
كانت الدولة العثمانية دولة سنية، تتبع المذهب الحنفي المتشدد في كل أمور الدولة. كما كانت تقدم نفسها على أنها الممثل الرئيس للمسلمين السنة، والمدافع الحقيقي عنهم، وعن المسلمين بشكل عام.
لقد اعتمدت الدولة العثمانية على الدين الإسلامي من أجل تسويغ الشرعية السياسية لها في السيطرة على السكان الذين يقطنون داخل حدودها؛ فالمسلمون في شتى نواحي الإمبراطورية، كانوا يعتبرون الدولة العثمانية دولة الخلافة. أما الإدارة العثمانية فقد كانت ترى في ذلك سببًا من أسباب بقائها، لأن ذلك من شأنه أن يمنع ثورات المسلمين عليها. ولذلك، عملت الدولة العثمانية على مدار سنوات طويلة على تقديم نفسها على أنها الهيئة الإسلامية الأعلى التي تمثل الخلافة الإسلامية بعد انهيار الدولة العباسية.
ومن هنا، سعى العثمانيون إلى التركيز على الفروق بين المذاهب الإسلامية، وإحداث حالات من الصراع والتناقض بين الطوائف المختلفة، حتى يتسنى لها تقديم نفسها على أنها الحامي لمصالح السنة، وبالتالي تقديم هيمنتها على أنها شيء ضروري للدفاع عن المسلمين.
لقد عملت الدولة العثمانية على تكريس مظاهر الاختلاف بين السكان، من أجل فرض هيمنتها السياسية، ومنع أية محاولات للطعن في أهميتها وضرورتها لبقاء المسلمين.
لذلك، حاولت احتواء العلماء والفقهاء السنة، وعملت على استمالتهم لصالحها عبر تقديم الأموال والرشاوى، بهدف شل دور “الاجتهاد” الذي يقدمه هؤلاء، وتطويعه ضمن المصالح السياسية للدولة العثمانية. وفي معظم فترات الحكم التركي، لم يكن بمقدور العلماء إصدار أية فتاوى تخالف سياسة السلطة الحاكمة. أما أولئك الشيوخ الذين تجرأوا على عدم الرضوخ للأوامر العثمانية فقد واجهوا الإعدام، أو النفي.
إضافة إلى ذلك، اخترعت الحكومة لعلماء السنة الكثير من الرتب الوهمية، والرواتب العالية، بهدف التدخل المباشر في فتاوى الشيوخ في شتى المجالات، حتى أصبح في مقدور السلطان أن يطلب من شيخ ما أن يصدر فتوى بقتل شخص ما لمجرد مخالفته توجيهات الإدارة العثمانية.
وقد ثبت في حالات كثيرة، أن استعان السلطان بـ”الفقهاء” من أجل استصدار فتوى تهدر دم شخص ما، بغرض القضاء عليه سياسيًا.
الدولة العثمانية في مواجهة الشيعة
كانت الكثير من الطوائف غير السنية تقيم على امتداد المناطق الواقعة تحت سلطة الدولة العثمانية؛ بما فيها الشيعة والعلويين والإسماعيليين. وقد تواجدت هذه الطوائف منذ فترات طويلة داخل هذه المناطق قبل الاحتلال العثماني.
وتأثرت سياسات الدولة تجاه الشيعة بعاملين هما: الشعور بأن لهؤلاء ارتباط بالدولة الصفوية الفارسية، التي كانت تنافس الدولة العثمانية على السيطرة على المنطقة العربية. أما العامل الآخر فهو رغبتها في الحفاظ على نفسها أمام الرأي العام السني باعتبارها الحامي للسنة مقابل الخطر الشيعي، وخطر التشيع.
بعد دخول الاحتلال العثماني إلى مناطق سوريا التي كانت تعج بالشيعة، سارع السلطان العثماني إلى ارتكاب العديد من المذابح بحق الشيعة في حلب وحماه والمناطق الساحلية لبلاد الشام. وقد مارس الأتراك خلال هذه المذابح صنوفًا من التعذيب بحقهم، وخصوصًا التعذيب بالوتد الذي ينتهي إلى الموت بعد تثبيت الشخص عليه، وهو التعذيب الذي كان يعرف في ذلك الوقت بـ”الخازوق”.
ولم يكن هذا النوع من الإعدام يحتاج إلى محاكمات أو العودة إلى الحاكم، لأن رجال الدولة كان لديهم الإذن المسبق بممارسة ذلك النوع من التعذيب دون الرجوع إلى السلطة. أما السلطة العثمانية فقد أتاحت للحكام المحليين ذلك، ظنًا منها أن ذلك يساعدها في كسب الرأي العام السني، وبالتالي تثبيت دعائم نفوذها من خلال فرض شكل من أشكال الرهبة والخوف في نفوس السكان، ومن خلال منع أية مقاومة تظهر في أي منطقة من مناطقها.
وبعد أن استطاعت الدولة العثمانية تثبيت حكمها في المنطقة، فرضت الضرائب الباهظة على السكان. ولم يكن باستطاعة هؤلاء أن يدفعوا، لضعف إنتاجيتهم التي كانت تقوم بشكل أساسي على الزراعة. وقد بلغت قيمة الضرائب المتراكمة على الشيعة، منتصف القرن التاسع عشر، حوالي 15 مليون قرش. وقد قامت السلطات التركية بإرسال جيش كبير إلى المنطقة بهدف إجبارهم على دفع استحقاقات الدولة بالقوة. هاجم الجيش السكان وأحرق بيوتهم، ونكل بالأهالي الذين لا حول لهم ولا قوة، ومع ذلك لم يستطيعوا تحصيل سوى 9 آلاف قرش فقط، لشدة الفقر الذي كان يعشعش في المنطقة بفعل سياسات الدولة العثمانية.
الدولة العثمانية في مواجهة المسيحية
كانت علاقة الدولة العثمانية بالمسيحيين مضطربة؛ فقد كانت تسعى إلى توفير الأمن لهم خشية من أن تتدخل الدول الأوروبية في شؤونها بحجة حمايتهم إذا ما حصل لهم مكروه. ومع ذلك، كانت الدولة ترى فيهم خطرًا محدقًا بها، لأنهم كانوا على صلة ببعض الدول الغربية. وفي هذا الوضع، كانت تتدخل لتوفير الحماية للمسيحيين داخل الدولة عند حدوث مشاكل مع الطوائف الأخرى في بعض الأحيان، لكنها تتركهم في أحيان أخرى بدون أية حماية، بحسب الظرف السياسي الذي تقع فيه الأحداث، وطبيعة علاقة الدولة العثمانية مع الدول الأوروبية في ذلك الوقت.
وتعد حوادث لبنان عام 1860 من أشد ما قاساه المسيحيون خلال الفترة المتأخرة للدولة العثمانية، إذ وقعت أحداث قتل جماعي وتشريد وسفك للدماء بين الدروز والمسيحيين، هرب على إثرها الكثير من المسيحيين إلى دمشق لاعتقادهم بأن الدولة ستوفر لهم الحماية، لكنهم فوجئوا بترك السلطات العثمانية لهم في مواجهة عمليات القتل، لدرجة أن كثيرين ظنوا أن أحداث الفتنة بين الدروز والمسيحيين كانت بأمر سلطاني.
وقد وصل عدد المسيحيين القتلى في أحداث ذلك العام فقط حوالي 12 ألفًا في كل من لبنان ودمشق.
إضافة إلى ذلك، كان المسيحيون يجبرون على ارتداء ملابس خاصة تميزهم عن المسلمين من أجل الإمعان في إذلالهم، وتحويلهم إلى مرتبة اجتماعية أدنى من مرتبة المسلم السني. وقد كان يمنع عليهم حمل السلاح، أو لبس العمائم الزاهية، أو حتى رفع الصوت في وجه المسلم. كما كان يمنع على المسيحي أن يسير على يمين المسلم فيما لو تصادف الاثنان في الطرقات العامة!
هل هذا ما يريده أردوغان؟
إذًا هكذا، كانت تعامل السلطات العثمانية العلماء السنة، والشيعة والمسيحيين داخل حدود دولتها، وهكذا كانت تمعن في إذلال أفراد الطوائف غير السنية، وتتركهم في مواجهة خصومهم دون حماية، أو حتى تنفذ مجازر بحقهم، في الوقت الذي تفرض عليهم ضرائب وأتاوات بمسميات كثيرة من بينها “الجزية” التي تُدفع أساسًا –للمفارقة- بهدف الحماية. فهل هذا ما يريد أردوغان استعادته؟ وهل هذا ما يطمح إليه؟ وهل يرغب حقًا في أن يستعيد “أمجاد” الماضي؟