الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةمقالات
نكبات العقل المسلم.. من ابن رشد إلى نصر أبو زيد!
مات وهو يدرس علوم القرآن في أكبر معاهد ماليزيا للدراسات الإسلامية بعد أن كان أحد ضحايا الجمود والتسلف والمد الديني في مصر

إيهاب الملاح
كان الدكتور نصر حامد أبو زيد (1943- 2010)؛ الباحث المتخصص في الدراسات الإسلامية، والأستاذ الأكاديمي، والمفكر الإصلاحي، أحد ضحايا الجمود والسلفية والمد الديني في مصر الذي وصل إلى ذروته في تسعينيات القرن الماضي.
ورغم مرور عشر سنوات كاملة على رحيله، فلم تغب أطروحاته وأفكاره التجديدية التي جلبت عليه لعنة المتزمتين المتطرفين، وجعلت الموتورين من أنصار تيارات الإسلام السياسي، وجماعات التكفير والإرهاب، يشنون حرباً شعواء عليه، ويطاردونه عبر أذرعهم الأخطبوطية في المجال العام، حتى وصل الأمر إلى ملاحقته عبر المحاكم، واستصدار حكم بالتفريق بينه وبين زوجه بدعوى أنه “كافر”، و”مرتد عن الملة”، ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحد؛ بل هُددت حياته وحياة أسرته، واضطر إلى الخروج من مصر؛ بل العالم العربي كله، إلى منفاه في هولندا، حتى توفاه الله في يوليو 2010.
اقرأ أيضًا: في رثاء الدكتور محمد شحرور.. وَقْفَةٌ مع فِكْرِه وتنقيبٌ في أدواته
اندلاع الأزمة
كانت سنوات التسعينيات في مصر صاخبة، متخمة بأحداث العنف والاغتيالات، وجرى الدم أنهاراً؛ شهدت محاولات اغتيال وزراء وسياسيين ومفكرين وكتَّاب، بل وصل الأمر إلى ذروته بمحاولة اغتيال رئيس الجمهورية الراحل حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995.
نجح الإرهابيون في اغتيال رفعت المحجوب، رئيس مجلس الشعب، آنذاك، واغتالوا الكاتب والمفكر فرج فودة، وكادوا ينجحون في اغتيال نجيب محفوظ عام 1994 (وكان شيخاً كبيراً في الثالثة والثمانين من عمره).

في هذه الأثناء، وفي ذروة ما كان الإسلاميون يسيطرون تقريباً على المجال العام بأكمله (الزوايا والمساجد، وأنشطة العمل الأهلي، والجمعيات الخيرية، والنقابات، وشرائح واسعة من طبقة رجال الأعمال.. إلخ)، كان من الجنون أن يظهر كاتب أو باحث أو مفكر من خارج دائرة التيار الإسلامي، ويتجرأ على نقد بعض الأفكار أو المشروعات التي كانوا يحاولون من خلالها فرض الهيمنة الكاملة على المجتمع كله.. (على سبيل المثال: شركات توظيف الأموال، دعوات أسلمة العلوم والمعارف؛ بل أسلمة المجتمع بأكمله، تغيير المزاج المصري المعتدل المحب للحياة والفنون والآداب لحساب صبغة دينية متطرفة شكلاً ومظهراً، ومعاداة العلوم الإنسانية والاجتماعية والمعارف النظرية، وكراهة الفن بأنواعه وكل أشكال الإبداع المكتوب والمسموع والمرئي، وتأجيج الفتنة الطائفية.. إلخ).
في هذه السنوات المشحونة، تقدم نصر أبو زيد ببعض إنتاجه العلمي وأبحاثه في الدراسات الإسلامية للترقي إلى درجة أستاذ؛ وكانت هذه هي الشرارة التي استغلها عبد الصبور شاهين، الأستاذ بدار العلوم، وعضو لجنة الترقيات، آنذاك، ورفض ترقية نصر بزعم أن أبحاثه تشكك في الدين وتطعن في القرآن، وترفض تراث الصحابة والتابعين والأئمة! وكتب تقريراً مشيناً يمثل فضيحة علمية بكل المقاييس؛ لكنه زاد على الأمر بأن قام بتأليب العوام والرأي العام ضد نصر أبو زيد في المساجد، مستغلاً أنه كان خطيباً لمسجد عمرو بن العاص، الجامع الأقدم والأكبر في مصر.

طرف من السيرة
كان نصر قبل اندلاع الأزمة معروفاً في الدوائر الأكاديمية والأوساط الثقافية النخبوية؛ مشهوراً بقصة كفاحه المشرفة وعصاميته مضرب الأمثال؛ إذ كان يتيماً توفي والده وهو في الرابعة عشرة من عمره، فاضطر إلى إرجاء دراسته النظامية لتحمل مسؤولية أسرته كبيرة العدد، والتحق بوظيفة حكومية بهيئة الاتصالات اللا سلكية؛ وفي أثناء ذلك أكمل دراسته الثانوية وحصل على شهادتها بتفوق، ثم التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة ليتخرج في قسم اللغة العربية عام 1971 بامتياز، وقد كان الطالب الوحيد في دفعته الحاصل على هذه المرتبة.
وخلال الفترة من 1970 وحتى 1990 بنى نصر أبو زيد بدأب ومثابرة واجتهاد حقيقي مجده العلمي والأكاديمي؛ فحصل على الماجستير والدكتوراه في الدراسات اللغوية والإسلامية، وأجاد الإنجليزية وترجم منها، وسافر إلى الولايات المتحدة في منحة دراسية لمدة عام، ودرَّس في جامعات اليابان لمدة أربع سنوات، ثم عاد إلى جامعته الأم أستاذاً مساعداً مرموقاً في الدراسات اللغوية والإسلامية.
اقرأ أيضًا: فاضل الربيعي يفجِّر قنابل فكرية من عيار ثقيل
حتى ذلك التاريخ، كان نصر قد أصدر قرابة الكتب الخمسة؛ كان من أهمها «مفهوم النص.. دراسة في علوم القرآن» الذي صدر عام 1990 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
وكل ما كتبه أبو زيد حتى هذا التاريخ يدخل في هذه الدائرة من دراسة الخطاب الذي ينتجه البشرُ عن دينهم، وعبارته “نقدُ الخطاب الديني” لا تنصرف، قط، إلى نقد الدين وإنما نقد “مفاهيمه التأويلية”، و”تصوراته التفسيرية” في أذهان المؤمنين به أو الممارسين له أو الدارسين لنصوصه على السواء، كما أن إطاره المرجعي في ذلك كله هو الميراث العقلاني للمعتزلة على وجه الخصوص.

البحث عن «المنهج»
كانت الخطوات الأولى لنصر أبو زيد مع إشكالية «المنهج» التي اعترضته مع أطروحته الأولى للماجستير «قضيّة المجاز في القرآن عند المعتزلة»، وهو الموضوع الذي جمع بين ولعه بالفلسفة والأدب من جهة، وبين احتياج قسم اللغة العربية إلى متخصص في الدراسات الإسلامية من جهة أخرى. وانتهج في هذا البحث منهج “التحليل التاريخي الاجتماعي”، الذي يتعامل مع الأفكار على أنها ثمرة العلاقة التفاعلية بين حركة الواقع وموقف هذا المفكر أو ذاك من هذا الواقع المتحرك.
وامتداداً للدراسة السابقة، اتجه نصر أبو زيد إلى محاولة اكتشاف منهج التأويل في مجال الفكر الصوفي، من خلال أطروحته للدكتوراه «تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي»، وذلك من خلال دراسته للعلاقة بين الفكر والنص الديني، واستكشاف طبيعتها ومناقشة المعضلات التي تثيرها، وذلك استكمالاً للجانبين الرئيسيَّين في التراث: الجانب العقلي كما يمثله «المعتزلة»، والجانب الذوقي عند «المتصوفة».

وبهذا مثلت الدراستان حجر الأساس في مشروع علمي طموح -سيستكمل أبو زيد جزءاً كبيراً منه في ما بعد- ينبني على إعادة النظر في التراث الديني بكل جوانبه من خلال منظور “علاقة المفسر بالنص”، وما تثيره هذه العلاقة من معضلات على المستويين الوجودي والمعرفي على السواء.
الخطاب التأويلي
تقوم قراءة أبو زيد، سواء من حيث منهجها العلمي أو من حيث مضمون نقدها للقراءات القديمة والحديثة للتراث على أُسس خطابٍ تأويلي حديث، يقول عنه صاحبه في مقدمة كتابه «النص، والسلطة، والحقيقة»:
“إن الخطاب الذي يطرحه هذا الكتاب يعد في جانب منه تواصلاً مع خطاب عصر النهضة في جانبه الديني، ليس بدءاً من محمد عبده حتى محمد خلف الله أحمد؛ بل هو تواصل مع هذا التراث في بعده الأعمق المتمثل في الإنجازات الاعتزالية -الرشدية- ولكنه تواصل يمثل الامتداد النقدي لا لخطاب النهضة فقط بل للخطاب التراثي كذلك”.

ويقول عالم الاجتماع الديني الراحل د.محمد حافظ دياب، في كتابه «الإسلاميون المستقلون» عن ملامح هذا الخطاب:
“إن الخطاب الذي تبناه نصر أبو زيد في كتبه وأبحاثه، وهو الذي أثار -وما زال يثير- سجالاً حاداً وصل إلى إدانة صاحبه بتهمة الكفر والمروق من الدين، ولعل هذا يعود في الأساس إلى أن «التأويل» كفعل منطقي عقلاني لم يكتسب شرعيته إلى الآن في فكرنا العربي المعاصر؛ حيث يراه خصومه من أصحاب الفكر التقليدي المحافظ أنه جنوح عن المقاصد والدلالات الموضوعية، ودخول في باب إثبات عقائد وضلالات من خلال تحريف عمومي للدلالات والمعاني”.
أما فكرة «التأويل» عند أبو زيد، فتعني لديه تمثُّل الدلالات الكاشفة والمشتركة بين أسئلة الحاضر والواقع المعاصر ومعطيات «النص»، وذلك عن طريق “تجاوز منطوقه الظاهري والالتفات لكثافة معناه، والمفاضلة بين أوجه احتمالاته المنطقية المتعددة”.
اقرأ أيضًا: الانتشار والتأثير.. مستقبل الأديان في العالم
أما عن مفهوم «النص» عند أبو زيد، الذي أثار الكثير من اللبس والالتباس وأدى بكثيرين إلى اتهامه بالتجديف والمروق، فيعود بالأساس إلى استخدامه هذا المفهوم المحوري في علم تحليل الخطاب، في معظم كتبه ودراساته، وبالأخص في كتاب «مفهوم النص دراسة في علوم القرآن»؛ حيث أوضح أن القرآن الكريم نص لغوي، يمثل في تاريخ الثقافة العربية النص المحوري، ومن هنا يمكن وصف الحضارة العربية الإسلامية بأنها حضارة «النص»؛ بمعنى أنها حضارة انبنت أسسها وقامت علومها وثقافتها على أساس لا يمكن تجاهل مركز «النص» فيه.
وينتقد أبو زيد في كتابه القراءات (التفسيرات) التقليدية للقرآن، ويدعو إلى تفسير علمي منهجي مدعوم بالأدلة والحجج، ينطلق من النص ليصنفه في سياقه التاريخي، فيفرِّق بين “المعاني العقائدية” و”المعاني التي فرضها السياق التاريخي”. ويؤكد أن القراءة المعاصرة للقرآن يجب أن تستعين بمناهج علوم اللغة والتاريخ؛ خصوصاً أن النص القرآني يحتمل قراءات وتفسيرات مختلفة. وقد ظهرت في التاريخ الإسلامي قراءات وتفسيرات متنوعة قبل أن يحتكر المسلمون المتشددون تفسيراتهم الأحادية المنفردة لمعاني القرآن الكريم، والتي حصروها في إطار المسموحات والمحرمات لا غير.