الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية

نظام القهر.. إفريقيا تتوق إلى نظام دولي جديد

على مدى عقودٍ مضت، دعَت دول إفريقيا إلى إصلاح مجلس الأمن، وإعادة تشكيل النظام الدولي وفقاً لشروطٍ أكثر إنصافاً، وإذا كان الغرب يريد من إفريقيا أن تدافع عن النظام الدولي، فلا بد له من السماح بإعادة تشكيل هذا النظام..

كيوبوست- ترجمات

تيم موريثي♦

يكتب تيم موريثي في “فورين أفيرز” عن موقف القارة الإفريقية المتغير تجاه “النظام الدولي” الحالي، وسعيها لإعادة تشكيله بما يتطابق مع مصالحها. يقول إنه في أعقاب الحرب في أوكرانيا، رفضت 17 دولة إفريقية التصويت لصالح قرار في الأمم المتحدة يدين موسكو، وحافظت معظم دول القارة على علاقاتها الاقتصادية معها على الرغم من العقوبات الغربية. دفعت هذه المواقف الولايات المتحدة لانتقاد القادة الأفارقة، لفشلهم في الدفاع عن النظام الدولي “القائم على القواعد”، واعتبرته “خيانة للمبادئ الليبرالية”، كما انتقد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ما أسماه “نفاق” القادة الأفارقة.

لكن الحقيقة هي أن النظام الدولي القائم على القواعد لم يخدم أبداً مصالح إفريقيا، بل على العكس حافظ على هيمنة القوى العالمية الكبرى على القارة، وتُركت الحكومات الإفريقية في موقع المتفرج فيما يتعلق بشؤونها الخاصة.

ومثال ذلك كان التدخل العسكري الأمريكي والبريطاني والفرنسي في ليبيا عام 2011، الذي تم بناءً على تفسيرٍ متنازع عليه لقرار مجلس الأمن، لفرض منطقة حظر طيران في ليبيا. قبل هذا التدخل كان الاتحاد الإفريقي يتخذ مساراً دبلوماسياً لتهدئة الأوضاع في ليبيا، ولكن العملية العسكرية أغرقت ليبيا في دوامةٍ من العنف وعدم الاستقرار لم تخرج منها إلى اليوم.

اقرأ أيضاً: ماضي إفريقيا ليس مستقبلها.. كيف يمكن للقارة أن ترسم مسارها؟

على مدى عقودٍ مضت، دعَت دول إفريقيا إلى إصلاح مجلس الأمن، وإعادة تشكيل النظام الدولي، وفقاً لشروطٍ أكثر إنصافاً. اليوم أصبح النظام العالمي، الذي يهيمن عليه عددٌ قليل من الدول التي تعرّف السلام والأمن على أنهما فرضُ إرادتها على الآخرين، في نقطة انعطاف.

وبدأت المزيد من الدول في نصف الكرة الجنوبي ترفض الدفاع عن النظام الليبرالي، بل تسعى لقلبه كما تفعل روسيا والصين. فإذا كان الغرب يريد من إفريقيا أن تدافع عن النظام الدولي، فلا بد له من السماح بإعادة تشكيل هذا النظام.

إفريقيا لديها الفرصة لإعادة تشكيل النظام الدولي- صورة تعبيرية

على مدى القرون الخمسة الماضية، كان النظام الدولي مصمماً بشكلٍ فاضح لاستغلال إفريقيا، بدءاً بتجارة الرقيق التي شهدت اختطاف أكثر من عشرة ملايين إفريقي، وشحنهم إلى القارة الجديدة، ثم جاء الاستعمار الأوروبي لإفريقيا، وأنظمة الفصل العنصري التي لا يزال إرثها موجوداً في الكثير من دول القارة. ولا يزال الفرنك الإفريقي المتداول في 14 دولة في غرب ووسط إفريقيا يمنح فرنسا نفوذاً هائلاً على اقتصادات هذه الدول، ويمثل تذكيراً يومياً بهذا القهر التاريخي، وكذلك تفعل القوة الاقتصادية البيضاء في جنوب إفريقيا.

وهذا ما يعزِّز فكرة أن النظام الدولي اليوم لا يزال يعامل الأفارقة على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية في هذا العالم. كما أن دول الغرب لم تغير عقلياتها ومواقفها، بل غيرت خطاباتها وأساليبها. فبدلاً من أخذ ما تريد بالقوة الغاشمة أصبحت هذه الدول تعتمد على الصفقات التجارية التفضيلية، واتفاقيات التمويل غير العادلة التي تستنزف موارد القارة، وغالباً ما يحدث ذلك بتواطؤ من النخب الإفريقية الفاسدة.

وبالطبع؛ لا تزال الدول الكبرى تستخدم القوة على الرغم من ادعائها دعم نظام دولي قائم على القواعد. وقد فرضت هذه الدول إرادتها مراراً على دول أخرى، من قصف الناتو ليوغوسلافيا وليبيا، إلى الغزو الذي قادته الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق، إلى الغزو الروسي لجورجيا، إلى التدخل العسكري في سوريا لدعم قوات المتمردين الذي تلاه تدخل عسكري روسي لدعم الحكومة السورية. ولم يكن غزو روسيا لأوكرانيا خروجاً عن هذا النمط، بل جاء استمراراً لتسلط الأقوياء على الأقل قوة.

اقرأ أيضاً: ماكرون ولافروف… سباق التنافس إلى إفريقيا

ولا شك أن تدخلات القوى العظمى أدت إلى تآكل الادعاء بوجود نظامٍ دولي قائم على القواعد، وقوَّضت استقرار العالم. فعلى سبيل المثال، أدت التدخلات العسكرية غير القانونية في العراق وسوريا إلى انتشار تنظيماتٍ متطرفة عنيفة، بما فيها تنظيما القاعدة والدولة الإسلامية، التي انتشرت مثل الفيروس في أرجاء إفريقيا أيضاً، بعد الفوضى التي أحدثها تدخل الناتو في ليبيا.

وكل هذه التنظيمات لا تشكِّل خطراً داهماً محسوساً في واشنطن أو باريس أو لندن أو بروكسل أو موسكو أو بكين، بل يدفع ثمن مواجهتها الأفارقة الذين لم يكن لهم رأي يذكر في التدخلات التي سهلت نشأتها وانتشارها.

متظاهرون ليبيون يعارضون تدخل الناتو في بلادهم- الجارديان

أضفْ إلى ذلك، الإخفاقات الكبرى للتدخلات غير القانونية للقوى العظمى في الأزمات الإنسانية -في رواندا وسريبرينيتشا وسريلانكا وأزمة الإيغور في الصين- حيث كشفت التناقض والكذبة الكامنة في قلب النظام الدولي القائم. ومن الواضح اليوم أن الذين يطالبون بحماية النظام الدولي القائم على القواعد الوهمية لم يكونوا أبداً في الطرف المتلقي لتدخلٍ عسكري غير قانوني. ويرى معظم الأفارقة أن هؤلاء يشكلون جزءاً من المشكلة وليس الحل.

إن نظام الأمم المتحدة للأمن الجماعي يحتضر ببطء، وتخنقه الأعمال الفظيعة التي يرتكبها بعض أقوى أعضائه. فهذا النظام لا يكتفي باستبعاد غالبية سكان العالم من عملية صنع القرار الدولي فحسب، بل غالباً ما يتركهم تحت رحمة قوى معادية ظالمة. لقد حان الوقت لإعادة تشكيل النظام العالمي، وهذا لا يعني بالضرورة نسف منظومة الأمم المتحدة، بل إعادة تصور التعددية، وإعادة تصميم المؤسسات الدولية لخلق نظامٍ عالمي أكثر فعالية للأمن الجماعي.

تقوم الرؤية الإفريقية للنظام العالمي على مبدأ المساواة وضرورة تصحيح الأخطاء التاريخية. في الماضي، ساعد تضامن الدول والمجتمعات الإفريقية على استمرار النضال ضد الاستعمار والفصل العنصري في القرن العشرين، واليوم يدعم هذا الشعور الاتحاد الإفريقي وأجندته لرؤية 2063، وهي خطة تنموية تسعى لتحويل القارة إلى قوة اقتصادية.

وعلى الرغم من أن هذا المشروع لا يزال في مهده، وبحاجة إلى المزيد من العمل لتوطيد الديمقراطية في جميع أنحاء القارة، فهو يحمل الكثير مما يمكن أن يعلمه للعالم. إن السعي الإفريقي الطويل لتحقيق السلام والمصالحة يمنح الأفارقة السلطة الأخلاقية للمطالبة بإعادة تشكيل النظام العالمي، واستبدال النظام القائم على القوة بنظام قائم على أساس التضامن العالمي والعدالة والمصالحة.

اقرأ أيضاً: الصراع الأمريكي- الروسي على إفريقيا

في الحقيقة، لا توجد مؤسسة تلخص الإقصاء والهيمنة على إفريقيا أكثر من مجلس الأمن، فأكثر من نصف اجتماعات هذا المجلس و70% من قراراته التي تتضمن تفويضاتٍ بموجب الفصل السابع -التي تسمح باستخدام القوة- تتعلق بقضايا إفريقية، ومع ذلك فلا توجد دولة إفريقية من بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الذين يتمتعون بصلاحية استخدام حق النقض ضد أي قرار.

كان الاتحاد الإفريقي قد تقدم بمقترح لإصلاح منظومة الأمم المتحدة في مارس 2005، بما يضمن تمثيل القارة في جميع أجهزة صنع القرار في الأمم المتحدة، ولا سيما في مجلس الأمن. ولكن بعد ما يقرب من عشرين عاماً لا يزال هذا النداء يقابل برفض الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، ومعظم هؤلاء الأعضاء يتدافعون اليوم لتجنيد الدول الإفريقية إلى جانبهم في صراعهم في أوكرانيا.

واليوم، وبدلاً من محاولة إحياء مقترح عام 2005، يجب على دول إفريقيا العودة إلى نقطة الانطلاق والدفع نحو عملية إصلاح النظام المتعدد الأطراف. منذ إنشائها، أدرك مؤسسو الأمم المتحدة أن المنظمة العالمية لن تكون قادرة على البقاء إلى أجل غير مسمى في شكلها الأصلي، لذلك وضعوا بنداً لمراجعة وتعديل ميثاقها. إذ تنص المادة 109 من الميثاق على السماح بعقد “مؤتمر مراجعة الميثاق” بناء على طلب أغلبية ثلثي أعضاء الجمعية العامة، وبتصويت تسعة من أعضاء مجلس الأمن، ولا يمكن للأعضاء الدائمين في المجلس استخدام حق النقض في هذا التصويت.

لذلك، فمن الناحية النظرية، لا توجد عقبات كبيرة أمام عقد مؤتمر مراجعة الميثاق، ويمكن لتحالف الدول الإفريقية والدول التقدمية الأخرى البدء فوراً بصياغة قرار للجمعية العامة، لوضع مؤتمر مراجعة الميثاق على جدول أعمالها.

الجمعية العمومية للأمم المتحدة- أرشيف

سيكون لمؤتمر المراجعة القدرة على تغيير ميثاق الأمم المتحدة بشكلٍ جوهري، وإدخال أحكام جديدة من شأنها تغيير النظام الحالي الذي يمنح امتيازاتٍ كبيرة لعددٍ قليل من الدول القوية. وسيكون المؤتمر ديمقراطياً إلى درجة مقبولة، حيث نصت المادة 109 على أنه “لكل عضو في الأمم المتحدة صوت واحد” على أن تتم الموافقة على المقترحات بأغلبية الثلثين. هذا يعني أن توصيات المؤتمر ستحظى بدرجةٍ عالية من الشرعية الأخلاقية.

ولا بد من أن يكون النظام الجديد أكثر عدالة وديمقراطية، وألا يتكون من طبقتين كما هي الحال الآن، حيث أظهر التاريخ مراراً أن الدول الأكثر قوة سوف تسيء استخدام مواقعها المتميزة. ولا ينبغي لأي دولة أن تتمتع باستخدام حق النقض على صنع القرار الجماعي، ويجب أن تتوزع السلطة بين الدول القومية، والمنظمات فوق الوطنية مثل الاتحاد الإفريقي، والاتحاد الأوروبي، ورابطة دول جنوب شرق آسيا ومنظمة الدول الأمريكية.

كما يمكن إنشاء برلمان عالمي يتمتع بسلطاتٍ ديمقراطية موسعة، تعزِّزه محكمة عدل عالمية، على أن يكون لهما مصدر تمويل خاص بهما، على سبيل المثال من الضرائب المفروضة على تدفقات رأس المال الدولية.

اقرأ أيضاً: نيلسون مانديلا.. الثائر في وجه نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا

ومن السذاجة الاعتقاد بأن المستفيدين من النظام الحالي، ولا سيَّما الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن، سيسمحون بمراجعة ميثاق الأمم المتحدة لمجرد أن الدول الإفريقية طالبت بذلك. وهذا يعني أنه يتعين على إفريقيا العمل على بناء تحالف من الراغبين، وحشد بقية دول نصف الكرة الجنوبي، وأي دولة متقدمة يمكن إقناعها بالانضمام إلى هذ المشروع.

وحتى يتم أخذ مصالح دول إفريقيا على محمل الجد، فإن الحكومات الإفريقية سوف تستمر في اتباع استراتيجية عدم الانحياز والغموض المتعمد في تعاملاتها مع القوى الكبرى. ومحاولات إقناع هذه الحكومات أو الضغط عليها لاتخاذ جانبٍ في أحدث صراع على الهيمنة الدائر في أوكرانيا محكوم عليها بالفشل، حيث لا أحد في إفريقيا يعتقد أن النظام الدولي قائم على القواعد حقاً. وإفريقيا قادرة على أن تظهر للعالم كيف يمكن بناء نظام عالمي أكثر عدلاً وإنصافاً.

♦رئيس قسم تدخلات السلام في معهد العدالة والمصالحة، وأستاذ الدراسات الإفريقية في جامعة كيب تاون بجنوب إفريقيا.

المصدر: فورين أفيرز

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة