الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة
«نجازاكي» وإحياء ذكرى القنبلة النووية روائيًا!
اختيرت شمسي كواحدة من أفضل كتاب القرن الواحد والعشرين

كيوبوست – إيهاب الملاح
– 1 –
76 عامًا مرت على مأساة إلقاء القنبلة النووية على نجازاكي اليابان (09 أغسطس 1945) وبعد ثلاثة أيام فقط من إلقاء القنبلة النووية الأولى على هيروشيما (06 أغسطس 1945).
قتلت قنبلة نجازاكي ما يقرب من 40 ألف شخص فورًا، بينما لقي 30 ألفًا آخرون على الأقل مصرعهم؛ نتيجة إصاباتهم أو بسبب التسمم الإشعاعي الذي تعرضوا له، علماً بأنه لم يكن متاحًا إحصاء عدد الضحايا بشكلٍ دقيق. أما على صعيد الخسائر المادية، فقد تم تدمير نحو 40% من مباني المدينة بالكامل أو بشكل جزئي.
اقرأ أيضاً: الذكرى الـ76 لقصف “ناغازاكي” سيئة الحظ!
انطلاقاً من هذه اللحظة التعيسة في تاريخ البشرية، تنطلق أحداث الرواية الملحمية الرائعة «الظلال المحترقة» للروائية البريطانية الباكستانية الأصل؛ كاميلا شمسي. من بين كل ما قرأت من روايات عالجت الحرب العالمية الثانية، ومآسيها ونتائجها، لم تهزني رواية مثلما هزتني هذه الرواية التي صدرت ترجمتها العربية عن دار بلومزبري عام 2012.

لم أتصور أن أقرأ رواية بهذا الحشد الهائل من الشخصيات والأحداث والوقائع التي تغطي ما يقرب من نصف القرن (الفترة من 1945 وحتى مطالع الألفية الثالثة)، وتغطي مكانيا نصف الكرة الأرضية تقريبًا من نجازاكي اليابان إلى دلهي الهند، وكراتشي الباكستان، ومرورا بتركيا وأفغانستان، وصحراء إيران، ووصولًا إلى نيويورك وواشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية.
لا أنسى أبدًا اكتشافي لهذه الملحمة الروائية المذهلة؛ كان طرحها لسؤال التاريخ عميقًا وشائكًا وملتبسًا “التاريخ بحر عميق، وبمجرد سقوطك فيه يصبح من اليسير أن تستمر في السقوط إلى الأبد. وستتزاحم تساؤلات مستحيلة في ذهنك بينما تتعثر قدماك.. كيف حدث ذلك؟ لماذا فعلوا ذلك؟ هل كل شيء مقدر مسبقاً، أم أنه متشابك فحسب؟”.. (من الرواية).
اقرأ أيضًا: 100 عام على الحرب العالمية.. ما الذي يحمي العالم من واحدة مدمرة جديدة؟
الغريب، أنه بعد قرابة عامين أو ثلاثة تقريباً من صدور الترجمة العربية لـ «الظلال المحترقة»، بدأت الرواية تحقق رواجاً لافتاً، وانتبهت النخبة القارئة من الكتاب والروائيين والنقاد على السواء (في عالمنا العربي) إلى اسم كاميلا (أو كاملة) شمسي التي لم يترجم لها سوى هذه الرواية، ورواية أخرى بعنوان «نار الدار» صدرت مطلع العام 2018.
– 2 –
في روايتها الملحمية «الظلال المحترقة»، تقتفي شمسي أثر تاريخ عائلتين يمتد لجيلين أو ثلاثة (جيل الآباء وجيل والأبناء) منذ الأيام الأخيرة للحرب العالمية الثانية في اليابان، بإلقاء القنبلة النووية على نجازاكي، ووقت أن كانت الهند على شفا التقسيم إلى دولتين، حيث الأيام الأخيرة للراج (حاكم الهند)، وحتى مطلع الثمانينيات في باكستان، وفي أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 في نيويورك، وفي أفغانستان في أعقاب حملة القصف الأمريكية التي أعقبت الهجمات.

وعبر هذه الرحلة الطويلة؛ زمانيا ومكانيا، تلملم الكاتبة شظايا من كل مكان وثقافة باتجاه المحطة التالية، وتربط عناصر تاريخية وإنسانية بعيدة عن بعضها البعض، وقد تبدو غير ذات صلة من الأساس، في شبكة سردية هائلة، لكنها مذهلة في تدفقها وسيولتها وترابطها وحكيها الجاري كما النهر.
اقرأ أيضًا: ناجون من هيروشيما يتحدثون عن رعب القنبلة بعد مرور 75 عامًا
“هيروكو تاناكا” فتاة يابانية رقيقة الروح والملامح، كانت إحدى الناجيات من مأساة نجازاكي المروعة، بحروقٍ بارزة على ظهرها النحيف، وسحق كامل للروح تحت وطأة فقدان الوطن والأهل، بعد أن وقعت في حب الألماني المهاجر “كونراد فايس”، في خضم حرب بشعة تسودها مشاعر التوجس والفزع، وتغلب عليها أصوات صفارات الإنذار من الغارات والقنابل المدمرة.
إلا أن اهتمام شمسي لا ينصب على سبر أغوار التعقيدات والحميمية في هذه العلاقة التي جمعت هيروكو بهذا “المهاجر الغريب”، حيث يأتي موت كونراد جراء إلقاء القنبلة الذرية على نجازاكي كأول حلقة في سلسلة من المفاجآت الصادمة، المتتابعة، التي تدفع بسرعة تطور السرد الروائي وتصاعده.

ورغم أن علاقة هيروكو بكونراد، التي انتهت بعد الـ20 صفحة الأولى من الرواية، وكانت هذه ضربة البداية في الخط الصاعد للأحداث، فإن مقتل كونراد لم يمر هكذا بشكل عابر، ولا تتعامل معه المؤلفة باستخفاف، بل على العكس، نجد أن صورة كونراد الذي حوله الانفجار الذري الرهيب إلى مجرد لطخة رماد على أحجار شوارع المدينة، تعد واحدة من أقوى صور الرواية وأكثرها زلزلة للنفس، وتأثيرا فيها، ويشعر القارئ بحزن عميق وبمدى خسارة قصة حبهما، ليس فقط للمأساة التي تمثلها، وإنما أيضا لأننا حرمنا من مزيد من التعرف عليها.
اقرأ أيضًا: “كاتيوشا” الروسية: أغنية الحرب التي أشعلت حب المقاتلين حول العالم
– 3 –
ولا يسع القارئ بعد أن ينتهي من الرواية إلا أن يجابه “طموح” كاتبة روائية موهوبة، ومقتدرة وذات مهارة بنائية عالية، في كتابة “رواية ملحمية” بالمعنى الذي يحيل إلى شبكة هائلة من الوقائع والأحداث، متداخلة ومتراكبة، قد تتسم بالتعقيد في بعض الأحيان، وذات نطاق شديد الاتساع، زمانياً ومكانياً، تسعى كاتبتها لربط ليس فقط حياة أبطالها المشتتين، وإنما كذلك العديد من أكثر المآسي العالمية البارزة في التاريخ الحديث، في ما يمكن أن نسميه بـ”رواية تاريخية معاصرة”، على ما تثيره هذه التسمية من إشكالات، ورغم ذلك كله يبقى جوهر ومحور الرواية بسيطًا للغاية، وإنسانياً للغاية، ومرهفاً لأقصى الدرجات.
يظل أجمل ما في الرواية حسها الإنساني العابر للمكان والزمان، والأديان والجنسيات والعرقيات. فمن قلب الموت تولد الحياة، وأسوأ من الحروب المشتعلة، تلك الحروب الباردة التي تفرز البشر على أساس اللون أو اللغة أو العقيدة أو الجنسية، ولا شيء أهم من البشر على هذه الأرض.. أو هكذا يتمنى أصحاب البصيرة الإنسانية العابرة للحدود والجنسيات والديانات.
– 4 –

شمسي كاتبة باكستانية الأصل بريطانية الجنسية، ولدت في كراتشي بالباكستان في 13 أغسطس 1973، وتعيش في لندن، وتكتب رواياتها باللغة الإنكليزية، وحصلت علي شهادة البكالوريوس في الكتابة الإبداعية من كلية هاملتون في كلينتون. وهي مؤلفة رواية «في المدينة بجوار البحر»، و«كارتوغرافي». كما صدرت لها روايتا «الملح والزعفران» و«أشعار متكسرة».
حصلت كاملة علي جائزة رئيس الوزراء للأدب عام 1999 وعلى جائزة Patras Bokhari في عام 2004 اللتين تمنحهما أكاديمية باكستان للأدب. وفي عام 2000 اختيرت شمسي كواحدة من أفضل كتاب القرن الواحد والعشرين.
صدرت الترجمة العربية من روايتها ذائعة الصيت «الظلال المحترقة» في 2012، وبيع منها أكثر من 20 مليون نسخة حول العالم.