الواجهة الرئيسيةترجمات
نجاح بن لادن الكارثي
نجحت "القاعدة" في تغيير العالم.. لكن ليس بالشكل الذي أرادته

تلخيص: كيوبوست
نيللي لحود♦
في الحادي عشر من سبتمبر 2001، شهدت الولايات المتحدة الأمريكية أعنف هجوم إرهابي أجنبي في تاريخها؛ إلا أنه بالنسبة إلى أسامة بن لادن ورجاله الذين خططوا الهجمة، لم يكن هذا الحدث مجرد عملية إرهابية فقط؛ بل كان عملاً أكبر بكثير يتمثل في تفجير حملة من العنف الممنهج الذي بشَّر بعصرٍ تاريخي جديد.
على الرغم من أن فكر بن لادن مستوحى من الدين؛ فقد كانت أهدافه جيوسياسية، لأن هدف “القاعدة” هو التخلص من النظام الدولي المعاصر القائم على دولٍ قومية، لتحل مكانه الأمة الإسلامية الموحدة بسلطة سياسية مشتركة. اعتقد بن لادن أن السبيل إلى تحقيق ذلك الهدف هو من خلال توجيه “ضربة حاسمة” إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ ليجبرها على سحب قواتها المسلحة من البلاد ذات الأغلبية المسلمة، مما يؤدي إلى تمكين المقاتلين الجهاديين من مواجهة الأنظمة الاستبدادية، من دون دعم أمريكي لها.
اقرأ أيضاً: القاعدة في الذكرى التاسعة عشرة لهجمات 11 سبتمبر: جردة حساب
وفي هذا المقال الذي نشرته “فورين أفيرز”، تكشف نيللي لحود؛ مؤلفة كتاب «أوراق بن لادن»، النقابَ عن مجموعةٍ من المراسلات الداخلية التي تم الكشف عنها في شهر مايو من عام 2011، والتي أظهرت نظرة بن لادن للعالم وتفكيره تجاه عملية 11 سبتمبر، عندما قامت وحدة من القوات الخاصة الأمريكية بقتل بن لادن في مجمع سكني في مدينة أبوت آباد الباكستانية، الذي كان قد اختبأ فيه في سنواته الأخيرة.
رفعت الولايات المتحدة السرية عن تلك المراسلات في السنين اللاحقة للعملية؛ ولكن بقيت أغلبية المراسلات تحت الاطلاع الحصري للجهات الاستخباراتية. وفي نوفمبر 2017 قامت وكالة الاستخبارات المركزية برفع السرية عن 470,000 ملف رقمي تضمنت ملفات صوتية، وصوراً ونصوصاً ومقاطع فيديو.

وتروي نيللي لحود كيف استعانت بباحثين مساعدين، وبحثت في نحو 96,000 ملف من تلك الملفات، احتوت ما يقارب 6,000 صفحة من النصوص العربية التي كانت سجلاً لكل مراسلات تنظيم القاعدة بين عامَي 2000 و2011. تضمنت هذه النصوص مذكرات بن لادن، ومراسلاته مع شركائه، ورسائل كتبها أفراد من عائلته، بالإضافة إلى مفكرةٍ مؤلفة من 220 صفحة مكتوبة بخط اليد، تحتوي على نصوص للحوارات بين أفراد عائلة بن لادن القريبة، جرت ضمن المجمع السكني خلال الشهرَين الأخيرَين من حياته. تضفي هذه المستندات لمحة لا مثيل لها في عقل بن لادن، وتوفر صورة لحرب الولايات المتحدة على الإرهاب بعيني هدفها الأول.
تشير كاتبة المقال إلى أن الوثائق تؤكد أن بن لادن قد فكَّر ملياً بالقيام بهجمة داخل الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر. بعد سنواتٍ عدة، ذكر بن لادن، في سياق حديثٍ جرى مع أفراد عائلته، أنه اقترح أنه “يجب على الجهاديين أن يقوموا بهجوم داخل أمريكا” منذ عام 1986، وذلك رداً على محنة الفلسطينيين. فمن وجهة نظره، كان الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة هو الأمر الذي سمح بقيام الدولة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية.
اقرأ أيضاً:10 سنوات على مقتل بن لادن.. فما الحالة الراهنة لتنظيم القاعدة؟
كان اهتمام بن لادن بالقضية الفلسطينية حقيقياً؛ حيث كان يذكِّر رفاقه دائماً بأن معاناة الفلسطينيين “سبب بداية جهادنا”. ولكن بن لادن كان يستخدم الفلسطينيين كنقطة توافق لكل المسلمين حول العالم؛ حيث صورهم بن لادن على أنهم ضحية الاحتلال الأجنبي والقمع. وفي بيانه العام لعام 1996 “إعلان الجهاد”، والذي أصبح معروفاً بين الجهاديين بـ”الرسالة اللادنية”، أبدى بن لادن حزنه على المسلمين الذين “أُريقت دماؤهم”، في أماكن بعيدة مثل الشيشان، والعراق، وكشمير، والصومال؛ حيث قال: “إخواني المسلمين في العالم، إخوانكم في أرض الحرمين وفلسطين يدعونكم للمساعدة، ويطلبون منكم المشاركة في القتال ضد العدو، عدوكم: الإسرائيلي والأمريكي”. أمل بن لادن أن تكون هذه المعركة هي الخطوة الأولى في إحياء الأمة.
تبين لاحقاً أن بن لادن كان بالفعل مستعداً لتنفيذ أقواله؛ حيث قامت “القاعدة” في عام 1998، بتنفيذ تفجيرات متزامنة على سفارات الولايات المتحدة في كل من كينيا وتنزانيا؛ مما أدى إلى مقتل 224 شخصاً وأكثر من 4,000 جريح. زاد الاهتمام الإعلامي الذي تلقته تلك الهجمات من جرأة بن لادن، وفي الثاني عشر من أكتوبر عام 2000 قامت “القاعدة” بتفخيخ قارب صغير استخدمته في تفجير المدمرة الأمريكية “يو إس إس كول”، بينما كانت تتزود بالوقود في ميناء عدن في اليمن؛ مما أسفر عن مقتل 17 جندياً أمريكياً، وسرعان ما بيَّن بن لادن لحشدٍ من أنصاره أن تلك الهجمات مثَّلت “نقطة تحول أساسية في تاريخ نهوض الأمة نحو مجد عظيم”.

وكشفت نيللي لحود أن مفكرة أبوت آباد تضمنت نصوصاً كُتبت بيد بن لادن في عام 2002، تشير إلى “ولادة فكرة الحادي عشر من سبتمبر”. بينت تلك الكتابات أنه في أواخر أكتوبر عام 2000، وبعد بضعة أسابيع من الهجوم على المدمرة كول، قرر بن لادن أن يقوم بهجوم ضمن أراضي الولايات المتحدة، بالإضافة إلى ذلك كشفت الكتابات عن معتقدات بن لادن: “العالم الإسلامي برمته يخضع لحكم النظام الأمريكي التكفيري المهيمن”؛ حيث كان الهدف من هجوم الحادي عشر من سبتمبر هو “كسر هاجس الخوف من هذا الإله الزائف وتدمير أسطورة أمريكا التي لا تُقهر”.
بعد ما يقارب أسبوعين من تاريخ الهجوم، أصدر بن لادن بياناً صغيراً على شكل إنذار أخير موجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث قال: “لديَّ بضع كلمات لأمريكا وشعبها، أقسم بالله العظيم الذي رفع السماوات بغير عمد، أن لا أمريكا ولا أي شخص يعيش هناك سينعم بالأمان إلى أن يصبح الأمان حقيقة لدينا في فلسطين، وإلى أن تغادر جميع الجيوش الكافرة الموجودة على أراضي محمد”. كان للهجمة تأثير قوي جداً، وفي الأعوام اللاحقة لها، قام الآلاف من الشبان المسلمين حول العالم بتبني قضية بن لادن بأساليب مختلفة؛ ولكن، بقراءة متمعنة لمراسلات بن لادن، يتبين أن الإرهابي الأول في العالم كان يجهل حدود صنعته.
اقرأ أيضاً: قصة حمزة بن لادن (الجزء الأول)
وتعود كاتبة المقال إلى الحديث عن نشأة بن لادن الذي ولد في المملكة العربية السعودية في عام 1957، لوالدٍ ثري اشتهرت شركاته بتفوقها في أعمال البناء؛ لا سيما القصور الفخمة التي شيدتها لأفراد العائلة السعودية المالكة، وبترميمها الأماكن الإسلامية المقدسة في مكة والمدينة المنورة. نشأ بن لادن في ترف مطلق، وكبر ليصبح شاباً يافعاً يسعى كل السعي للمشاركة في القضايا السياسية الإسلامية. أثبت بن لادن أنه تعلم بعض فنون ريادة الأعمال والإدارة من شركاته الخاصة خلال سنواته الأولى من عمله الجهادي الذي تضمن القتال في أفغانستان في الثمانينيات من القرن العشرين، بالإضافة إلى المساعدة في تمويل وتنسيق المجاهدين في معاركهم ضد الاحتلال السوفييتي للمنطقة.
وترى الكاتبة أن بن لادن، وعلى الرغم من حنكته في التاريخ الإسلامي، وبشكل خاص الفتوحات التي حدثت في القرن السابع بقيادة النبي محمد، كان لديه فهم بسيط للعلاقات الدولية المعاصرة. وقد انعكس ذلك في سوء تقدير بن لادن الكبير لعواقب هجوم 11 سبتمبر؛ فهو لم يتوقع أن تخوض الولايات المتحدة حرباً رداً على هذه الهجمات، بل كان يتوقع أن يخرج الشعب الأمريكي إلى الشوارع ليطالب حكومته بالانسحاب من الدول ذات الأغلبية المسلمة.
وعندما شن الرئيس بوش الحرب على “القاعدة” لم تكن لدى بن لادن أية خطة لتأمين بقاء منظمته. وتبين أن هجمات 11 سبتمبر كانت انتصاراً باهظ الثمن؛ فقد انهار تنظيم القاعدة بعد انهيار نظام طالبان مباشرة، وقتل واعتقل كبار قادته، ولجأ مَن بقي منهم إلى المناطق القبلية في باكستان. ولم تعد “القاعدة” قادرة على تنفيذ أية هجمات في الخارج.

وبحلول عام 2014 كان خليفة بن لادن أيمن الظواهري منشغلاً بنزع الشرعية عن تنظيم الدولة الإسلامية أكثر من انشغاله بحشد المسلمين ضد الهيمنة الأمريكية. ولكن على الرغم من ذلك؛ لا يسعنا إلا أن نصاب بالذهول عندما نفكر كيف تمكنت مجموعة صغيرة يقودها شخص خارج عن القانون من التأثير على السياسة العالمية. لقد غيَّر بن لادن العالم بالفعل؛ ولكن ليس كما كان يرغب.
بدأت السلطات الباكستانية في تعقب واعتقال قادة “القاعدة” الذين دخلوا أراضيها، وعَبَر مَن تبقَّى منهم مع العديد من أفراد أسرة بن لادن الحدودَ إلى إيران في عام 2002؛ حيث تلقوا المساعدة من قِبل متشددين من السُّنة، ساعدوهم في استئجار منازل بأسماء مزورة؛ ولكن السلطات الإيرانية تمكنت من اعتقال معظمهم، ووضعتهم في معتقل يخضع لحراسة مشددة مع أفراد عائلاتهم. وفي عام 2008 فرّ سعدُ ابنُ أسامة بن لادن من إيران، وكتب لوالده عن مدى سوء المعاملة وفظاعة ظروف الاعتقال، وقال في رسالته: “إن الإيرانيين أساتذة في جعلنا نفقد أعصابنا، ويسعدون في تعذيبنا جسدياً ونفسياً”. وأيضاً كتب القائد الجهادي الليبي أبو أنس السبيعي، بعد إطلاق سراحه عام 2010، رسالة إلى بن لادن يقول فيها “إن إيران هي المكان الذي يوجد فيه الشيطان الأكبر”، واعترف فيها أنه توسل لسجانيه أن “يرحلوه إلى أية دولة أخرى حتى إسرائيل”.
اقرأ أيضاً: قيادة القاعدة: الوفيات والتداعيات!
ويذكر المقال أن بن لادن لم يكن يعلم بهذه المصاعب وقت حدوثها؛ فقد أثبتت وثائق أبوت آباد أنه في أعقاب الغزو الأمريكي لأفغانستان انقطع بن لادن عن التواصل مع تنظيمه لمدة ثلاث سنوات. إلا أنه بحلول عام 2004 تمكن من استئناف الاتصال مع الحلقة الثانية من التنظيم، وحاول شن موجة جديدة من الإرهاب الدولي وخطط لهجماتٍ شبيهة بهجوم 11 سبتمبر؛ ولكن رفاقه صدموه بواقعهم الجديد المتردي. كتب أحد قادة الصف الثاني في “القاعدة” ويُدعى توفيق، رسالة إلى بن لادن يصف فيها صعوبة أوضاع التنظيم بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان، قال فيها: “كانت آلامنا تفطر القلوب، وكان الضعف والفشل والافتقار إلى الهدف الذي حلَّ بنا مروعاً. لقد تم تدنيس المسلمين وتمزيق دولتهم واحتلال أراضيهم ونهب ثرواتهم.. هذا ما حدث للجهاديين بشكل عام وللقاعدة على وجه الخصوص”.
ويشرح المقال كيف سارت الأمور بعد سقوط بغداد سنة 2003، فبحلول الوقت الذي تمكن فيه بن لادن من إعادة الاتصال بدأت الظروف تتغير لصالح “القاعدة”. فبعد الإطاحة بنظام “طالبان”، كانت المرحلة التالية من حرب بوش على الإرهاب هي غزو العراق عام 2003. أدى الغزو إلى حل جيش العراق، وتفريغ مؤسسات الدولة العلمانية الأخرى، وكانت الأقلية السُّنية التي هيمنت على السلطة في عهد صدام هي مَن تلقى نصيب الأسد من العنف الطائفي الذي أعقب الغزو. وكان ذلك بمثابة شريان الحياة لـ”القاعدة” التي نصبت نفسها في موقع المدافع عن السُّنة.
جاء في رسالة كتبها إرهابي يُدعى حبيب إلى بن لادن عام 2004: “علم الله ببلائنا وعجزنا، ففتح لنا وللأمة بأسرها باب الجهاد في العراق”. كان حبيب يشير إلى صعود “أبو مصعب الزرقاوي”، الجهادي الأردني الذي برز في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق. وبحلول عام 2004 كان الزرقاوي، وليس بن لادن، زعيم أقوى تنظيم جهادي في العالم. وعلى الرغم من الهوة الشاسعة بين الرجلَين، حرص الزرقاوي على اندماج تنظيمه “جماعة التوحيد والجهاد” مع تنظيم القاعدة، وذكر ذلك في عدة رسائل وجهها إلى بن لادن، كما أكد لقادة “القاعدة” أنه يتعاون ويسعى إلى توحيد كل الفصائل الجهادية في العراق.

وتشير لحود إلى أن حماس الزرقاوي ترك أثراً طيباً عند بن لادن الذي كتب إلى نائبه أيمن الظواهري، وإلى القيادي توفيق، قائلاً: “إن اندماج جماعة التوحيد والجهاد سيكون له أثر هائل”. وحثهم على إيلاء هذا الأمر اهتماماً كبيراً. وفي ديسمبر 2004 أعلن بن لادن الاندماج رسمياً، وعيَّن الزرقاوي زعيماً لتنظيمٍ جديد عرف باسم “القاعدة في بلاد ما بين النهرين”.
ودفعت مبادرة الزرقاوي مجموعات جهادية عدة في الصومال واليمن وشمال إفريقيا للانضمام رسمياً إلى “القاعدة”؛ لأن قادة هذه التنظيمات رأوا فوائد جمة في اكتساب العلامة التجارية للقاعدة المرهوبة دولياً والتي لها مكانة كبيرة في قلوب أتباعهم، بالإضافة إلى جذب اهتمام الصحافة العالمية، والمزيد من التبرعات. وكانوا محقين في ذلك. وقد وصف الداعية الجهادي السعودي بشر البشر، الاندماج في رسالة لأحد كبار قادة “القاعدة” بأنه “رحمة من الله لـ(القاعدة)”، وبأنه “مكافأة من الله للجهاديين على جهادهم”.
اقرأ أيضاً: موسوعة الجماعات والتنظيمات والحركات والفرق “الإسلامية”
افترض بن لادن أن مَن بايعوه سيتابعون تنفيذ ذلك النوع من الهجمات الذي بدأته “القاعدة” ضد الولايات المتحدة، واعتقد أن نجاح هذه الهجمات سيرفع من معنويات المسلمين الذين سيصبحون بدورهم أكثر انخراطاً ودعماً للجهاديين، كما جاء في رسالة وجهها إلى الظواهري وتوفيق.
مرة أخرى أساء بن لادن التقدير. وكان قرار منح علامة “القاعدة” التجارية لمجموعاتٍ لا يسيطر عليها يعطي نتائج عكسية؛ فقد فشل الزرقاوي في توحيد الجماعات الجهادية في العراق، ورفضت جماعة أنصار السنة الاندماج معه، وبدأت الخلافات تكبر بين هذه الجماعات، ووجد بن لادن نفسه يغرق في رسائل تؤرخ للخلافات بين رفاقه الجدد؛ ولكن الأمر الأكثر إثارة للقلق من شكوى الزرقاوي كان الهجمات العشوائية التي تشنها جماعته، والتي كانت تسفر عن خسائر بشرية كبيرة في العراق؛ خصوصاً بين الشيعة. أراد بن لادن أن تتصدر “القاعدة” عناوين الصحف بقتل وجرح الأمريكيين، وليس المدنيين العراقيين، وإن كانوا من الشيعة الذين يعتبرهم الجهاديون زنادقة.

ويشير المقال إلى إخفاق محاولات قادة “القاعدة” لتوحيد الجماعات الجهادية في العراق التي كانت في مركز الجهادية العالمية؛ حيث تعمقت الخلافات بين هذه الجماعات وفشلت وساطة الظواهري بين الزرقاوي وأنصار السُّنة الذين اشترطوا أن “يصحح الزرقاوي مسار تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين”. وازدادت الأمور سوءاً بالنسبة إلى القاعدة بعد مقتل الزرقاوي في غارة أمريكية عام 2006، وأعلن خلفاؤه قيام دولة العراق الإسلامية، من دون أي تنسيق مع قيادات “القاعدة”.
وفي عام 2007 توقفت المخابرات الباكستانية عن الرد على رسائل تنظيم القاعدة، وهو صمت يعكس حقيقة أن الجهاديين العراقيين بدأوا يفقدون قوتهم أمام ما بات يُعرف بالصحوات السُّنية التي دعمتها القوات الأمريكية، بالتعاون مع شيوخ العشائر لمواجهة الإرهابيين.
اقرأ أيضاً: ماذا بعد اعتقال زعيم تنظيم القاعدة في اليمن؟
لم تقتصر مشكلات “القاعدة” الإدارية على العراق فقط؛ ففي عام 2009 أطلقت مجموعة جهادية في اليمن على نفسها اسم تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، من دون إبلاغ التنظيم الأم، ومن دون إعلان الولاء لابن لادن. وثبت في ما بعد أن هذا التنظيم كان مصدراً دائماً للصداع. وفي رسالة كتبها عام 2009 لابن لادن اعترف قاسم الريمي، أحد قياديي التنظيم، بأنهم يعانون قلة الخبرة، و”أوجه القصور في ما يتعلق بالقيادة والإدارة”. واعترف بأنه هو نفسه لم يكن مؤهلاً للحكم على “متى وكيف وأين يضرب”؛ ولكن قلة الخبرة هذه لم تردع زعيم التنظيم ناصر الوحيشي، من التعبير عن رغبته في إعلان دولة إسلامية في اليمن. وتطلب الأمر الكثيرَ من البراعة من جانب قياديين كبار في “القاعدة”؛ لإقناعه بالعدول عن ذلك. ورغم تراجع الوحيشي عن إعلان الدولة الإسلامية؛ فإنه تحدى تعليمات كبار قادة “القاعدة” بالامتناع عن الهجمات الطائفية التي تستهدف الحوثيين في اليمن، وكبح المواجهات العسكرية مع الحكومة اليمنية.
ويؤكد المقال أن فرع “القاعدة” في شمال إفريقيا الذي يعرف بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي كان هو التنظيم الأقل إشكالية بالنسبة إلى بن لادن. فالتنظيم لم يرغب في إعلان دولة إسلامية، بل ركز على اختطاف المواطنين الغربيين كرهائن للحصول على فدية أو لإطلاق سراح سجناء جهاديين لدى الحكومات الغربية. وقد رأى بن لادن قدرة هذا التكتيك على التأثير على الجماهير الغربية، وبدا أنه يقدر النهج البراغماتي لزعيم التنظيم “أبو مصعب عبد الودود”.

وبحلول عام 2009 كان معظم كبار قادة تنظيم القاعدة قد سئموا من مشكلات الجماعات التابعة لهم. وفي ذلك العام لم يبتهج بن لادن كثيراً عندما طلب مختار أبو الزبير زعيم جماعة الشباب الجهادية الصومالية الانضمام العلني إلى “القاعدة”. رفض بن لادن الاندماج العام، واقترح تقليص حجم “أبو الزبير” من دولة إلى إمارة، وكتب له: “ميولنا أن تكون إمارتكم حقيقة يتعلق بها الناس من دون الحاجة إلى إعلانها. امتثل أبو الزبير لرغبة بن لادن على مضض. ومرت سنوات قبل أن يقبل الظواهري الذي خلف بن لادن بعد وفاته انضمام جماعة الشباب إلى (القاعدة)”.
وتذكر كاتبة المقال أنه خلال العام الأخير من وفاة بن لادن عبَّر عن أسفه؛ لأن إخوته أصبحوا عبئاً على الجهاد العالمي، ولأن بعض هجماتهم قد أدت إلى وقوع ضحايا مدنيين من دون طائل، وخلص إلى أن الجيل الجديد من الجهاديين قد ضلَّ طريقه.
اقرأ أيضاً: ظهور المتحدث السابق لـ”بن لادن” في لندن يخطف الأضواء ويثير القلق
وفي شتاء 2010- 2011 أعطت ثورات ما بات يعرف بالربيع العربي، بن لادن بعض الأمل في البداية، وعبر عن سعادته في نجاح من سماهم بالثوار في إسقاط الأنظمة الاستبدادية في تونس ومصر وليبيا؛ ولكن سرعان ما تغيرت مشاعره. وأعرب في محادثات مع أفراد عائلته عن قلقه من أن الثورات قد ولدت قبل أوانها، وأعرب عن أسفه لأن “القاعدة” والجماعات الجهادية الأخرى كانت على هامش هذه الثورات. وقال: “لا يسعنا إلا أن نكثف صلواتنا”.
ويشير المقال إلى أن بن لادن، وعلى الرغم من كل ما ذكر، كان حريصاً على “حماية هذه الثورات”، وعزم على تقديم النصح للمحتجين في بيان عام. وخضع بيانه الوحيد حول الربيع العربي إلى 16 تعديلاً قبل أن يقوم بتسجيل أولي له. كانت ابنتاه سمية ومريم قد شاركتا بتأليف معظم هذا البيان شأنه كشأن معظم بياناته وخطبه في السنوات الأخيرة.
وفي أبريل 2011 كانوا يخططون لجولة أخيرة من التنقيح قبل التسجيل النهائي؛ ولكن الوقت كان قد نفد، فقد أغارت قوات البحرية الأمريكية على مجمع أبوت آباد قبل أن ينتهوا من عملهم. وكانت حكومة الولايات المتحدة هي مَن أذاع البيان ربما للتأكيد أن الغارة قد وقعت بالفعل، ولتقويض مزاعم أصحاب نظرية المؤامرة بعكس ذلك.

تم التخطيط للغارة وتنفيذها ببراعة، وقال الرئيس أوباما، في إعلانه عن مقتل بن لادن: “إن العدالة قد تحققت”. ومع القضاء على الرجل الذي كان خلف هجمات 11 سبتمبر، ومع الاحتجاجات السلمية والعلمانية بمعظمها ضد طغاة الشرق الأوسط، بدا أن المسيرة الجهادية قد بلغت نهايتها؛ ولكن ثبت أن تلك اللحظة كانت عابرة.
وتقول نيللي لحود إنه على الرغم من تخلي إدارة أوباما عن شعار “الحرب على الإرهاب” الذي أطلقه بوش؛ فإن أوباما حافظ على تركيز سلفه الكبير على تنظيم القاعدة، وفشل فريقه في ملاحظة الانقسامات في الحركات الجهادية التي ثبت أنها ذات أهمية كبيرة. باختيارها غزو العراق، بالغت إدارة بوش في تقدير علاقة “القاعدة” بهذه الدولة، وبالغت في تقدير فوائد الإطاحة بصدام بالنسبة إلى مكافحة الإرهاب. بينما بالغت إدارة أوباما في تقدير التأثيرات الإيجابية بمقتل بن لادن، وانسحاب القوات الأمريكية من العراق على الحرب ضد الحركات الجهادية.
اقرأ أيضاً: داعش يعيد لملمة صفوفه في سوريا والعراق وعبر مواقع الإنترنت
وفي أكتوبر 2011 قال أوباما إن “الانسحاب من العراق قد أتاح لنا إعادة تركيز معركتنا ضد (القاعدة) وتحقيق انتصارات كبيرة ضد قيادتها؛ بما في ذلك أسامة بن لادن”. ولكن في تلك اللحظة ذاتها، كان تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، حليف “القاعدة” السابق ينظم صفوفه مع جيلٍ جديد من القادة. وفشلت إدارة أوباما والحكومات الغربية الأخرى في رؤية الخطر القادم.
بحلول عام 2010 كان تنظيم الدولة الإسلامية في العراق قد أصبح تحت قيادة شخص عراقي مغمور أطلق على نفسه لقب “أبو بكر البغدادي”. وبين عامَي 2010 و2011 شنَّ تنظيم الدولة موجة من الاعتداءات الإرهابية على العراقيين المسيحيين والشيعة أثارت حفيظة قيادة “القاعدة”. وطلب الظواهري في رسالة إلى بن لادن، كتبها قبل أشهر قليلة من غارة أبوت آباد، أن يأمر تنظيم الدولة بوقف هجماته على الشيعة والمسيحيين؛ ولكن بن لادن كان قد فقد تأثيره على التنظيم الذي استمر في مسيرته.
توسَّع تنظيم الدولة بين عامَي 2011 و2013 في سوريا، وأقحم نفسه في الحرب الدائرة فيها، وفي يونيو 2014 وبعد أن احتل تنظيم الدولة مناطقَ واسعة من سوريا والعراق، أعلن المتحدث باسمه أبو محمد العدناني اسم أبو بكر البغدادي كخليفة للمسلمين، وغير التنظيم اسمه ليصبح الدولة الإسلامية، مسقطاً بذلك جميع المراجع الجغرافية لحدود الدولة. ودفع هذا التوسع الإقليمي جماعات جهادية في أكثر من عشر دول إلى مبايعة الخليفة الجديد.

في سبتمبر 2014، شكَّلت إدارة أوباما تحالفاً من 83 دولة من أجل “إضعاف تنظيم الدولة الإسلامية وهزيمته في نهاية المطاف”، وبحلول عام 2016 بدأ التنظيمُ بالانهيار، وتابعت إدارة بوش القتال، وتمكنت قوات التحالف من السيطرة على كل مناطق التنظيم.
لقد رفض البغدادي استراتيجية بن لادن في القتال، وعمل على بناء إمبراطورية، وتمكن من أخذ مكان بن لادن كوجه للجهادية العالمية؛ ولكن الرجلَين لقيا المصير نفسه. ففي أكتوبر 2019 أغارت قوة أمريكية على مجمع البغدادي في محافظة إدلب في سوريا، وطاردت الكلاب العسكرية البغدادي في نفقٍ مسدود وفجَّر الخليفة نفسه بحزامٍ ناسف. وأعلن ترامب أن “العالم بات أكثر أماناً الآن”.
صمد إعلان ترامب على مدى العامين الماضيين منذ مقتل البغدادي، ولا يزال المشهد الجهادي منقسماً، وتستمر التنظيمات الجهادية في التكاثر؛ ولكن لا توجد مجموعة واحدة مهيمنة مثلما كانت “القاعدة” أو “داعش”. وتتراوح قدرات هذه المجموعات بين عواء التهديدات وإلقاء قنابل المولوتوف إلى الهجمات الانتحارية والسيارات المفخخة وربما السيطرة على بعض الأراضي لبعض الوقت على الأقل.
اقرأ أيضًا: الاتفاق بين الولايات المتحدة وطالبان لا يضمن السلامَ في أفغانستان
وتختتم الكاتبة مقالها بالحديث عن المرحلة التالية من الصراع؛ حيث تتجه كل الأنظار الآن إلى أفغانستان، إذ يوجد عناصر من “القاعدة” و”داعش” وغيرهما، ولكن اتفاق السلام الذي توصلت إليه الولايات المتحدة مع “طالبان” يقضي بأن “تمنع (طالبان) أية جماعة أو فرد بما في ذلك (القاعدة) من استخدام أراضي أفغانستان لتهديد أمن الولايات المتحدة وحلفائها”.
ولكن هل ستفي “طالبان” بالتزاماتها؟ وفقاً لوثائق أبوت آباد، فقد اشتبهت “القاعدة” بأن بعض فصائل “طالبان” كانت تسعى للتقرب من الولايات المتحدة. وبالنظر إلى تشظي فصائل “طالبان” منذ هجمات 11 سبتمبر، قد يبدو من الصعب على قادة الجماعة فرض الامتثال لشروط الاتفاق مع الولايات المتحدة.
وتقول الكاتبة في نهاية مقالها: ربما يبدو تشظي فصائل “طالبان” مشكلةً مستعصية على الحل بالنسبة إلى الولايات المتحدة؛ ولكن تجربة “القاعدة” بعد 11 سبتمبر تشير إلى أن هذا التشظي نفسه قد يعقد الأمور بالنسبة إلى الإرهابيين الذين يبحثون عن مأوى في أفغانستان. فحتى وجود مضيف مرحب بهم لن يقدم أيَّ ملاذ آمن لهم. تعلم بن لادن هذا الدرس بالطريقة الصعبة، واكتشف البغدادي أن السيطرة على الأرض كانت أصعب؛ ولكنّ واشنطن وحلفاءها أدركوا -أو يجب أن يكونوا قد أدركوا- أن حرباً مفتوحة على الإرهاب لا طائل من ورائها، وأن مكافحة الإرهاب يجب أن تبدأ بمعالجة المظالم السياسية المشروعة التي تدعي “القاعدة” أنها تناصرها، مثل دعم الولايات المتحدة للديكتاتوريات في الشرق الأوسط، على سبيل المثال.
لا يمكن لواشنطن أن تعلن الانتصار على “القاعدة” وأمثالها، ممن ما زالوا يحتفظون بالقدرة على شنِّ هجمات قاتلة، وإن تكن صغيرة الحجم. ومع ذلك، فقد أوضح العقدان الماضيان مدى ضآلة ما يمكن للمجموعات الجهادية أن تأمل في تحقيقه. ففرصهم في نيل الحياة الأبدية في الجنة أكبر بكثير من فرصتهم في تركيع الولايات المتحدة.
♦زميلة في برنامج الأمن الدولي في أمريكا الجديدة، ومؤلفة كتاب «أوراق بن لادن».
المصدر: فورين أفيرز