الواجهة الرئيسيةشؤون دولية

مَن هو جبل صهيون حاكم (تيغراي) المُتمرد؟

قنَّاص المعلومات وصانع المكائد في مواجهة خصمه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد

كيوبوست- عبدالجليل سليمان

في يومٍ خريفي من شهر يونيو 1950، كانت بلدة “شيرا إندا سلاسي”، أي بيت الثالوث، بإقليم تيغراي الإثيوبي التي ترتفع (1953) متراً فوق مستوى سطح البحر، تحبس أنفاسها، بينما كان قبري ميكئيل، أي (خادم ميكائيل)؛ قلِقاً ينتظر البشارة أمام باب بيته، حيث كانت زوجته في الداخل تكابد آلام المخاض.

المولود كان ذكراً. قالت القابلة، فضج الرجل فرحاً وهو ينظر إلى عينَي طفله تشعان ذكاءً وحيوية، فقرر أن يُسمِّيه دبرصيون؛ أي (جبل صهيون) كناية عن القوة والثبات والصمود.

اقرأ أيضاً: الأسباب والسيناريوهات المتوقعة للصراع الداخلي في إثيوبيا

سيرة مُبكرة

في بيئة جبلية قاسية، وأسرة تقليدية متدينة، ونظام حكم إمبراطوري مستبد، نشأ الطفل (دبرصيون) في مرتفعات إقليم تيغراي، فخور باسمه (جبل صهيون)، فلربما يعصمه يوماً ما من الظلم والفقر والفاقة، فهل سيكون له نصيب منه، لاحقاً؟

يقول زملاؤه بمدارس بلدتَي “شيرا إندا سلاسي” و”عدوة”، إنه كان الأكثر تفوقاً وذكاءً بين أبناء جيله، فضلاً عن أنه يتميز بهدوء وبرود أعصاب، قليل الكلام، كثير العمل، شديد التركيز.

إقليم تيغراي أقصى شمال إثيوبيا- وكالات

هكذا، كان الصبي فخراً لأبيه، لم يُخيِّب ظنه، فصارت تُضرب به الأمثال في النجابة والتفوق والقدرة على العمل الدؤوب وطاعة الوالدين؛ إلا أن حياته انقلبت رأساً على عقب، بُعيد مغادرته البلدة بسنواتٍ قليلة، حين التحق بكلية الهندسة في جامعة أديس أبابا؛ هناك، ولأول مرة؛ اطّلع على الماركسية التي كانت ضمن المنهج الدراسي في عهد الكولونيل منغستو هايلي ماريام (1974- 1991)، فاعتنقها ودان بها؛ لكنه لم يكن يشعر بالرضا تجاه حكومة الرئيس منغستو هايلي ماريام، المستبدة، رغم يساريتها.

اقرأ أيضاً: قراءة في دفتر أحوال اللاجئين الإثيوبيين الفارين إلى السودان

صائد الأخبار ومُحلل المعلومات

في ليلة خريفية، كتلك التي شهدت خروجه إلى الدنيا في بلدة (بيت الثالوث)، التقطت أذناه المرهفتان حديثاً عابراً بين طالبَين من إقليم تيغراي الذي ينتمي إليه. لم ينَم حينها، كان يتقلب على فراشه من فرط قلقه، متسائلاً: هل ما سمعته حقيقة، أم خُيِّل إليَّ؟

كان (دبرصيون) شديد الولع بجمع المعلومات ومُطاردة الأخبار وتقصيها، والتحقق منها، وكانت له في ذلك سُبل لا تتوفر لغيره. وسُرعان ما عرف أن مِفرزة من الماركسيين المنتمين إلي إقليم تيغراي، قد قرروا الخروج على حكومة منغستو المستبدة.

رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل مليس زيناوي.. أيام الثورة- صورة أرشيفية- وكالات

 لم تمضِ بضعة أيام، حتى كانت في حوزته قائمة بأسماء المتمردين، أحد عشر رجلاً (تيغراوياً) غادروا مدينتَي أديس أبابا ومقلي إلى منطقة (ديديبت) السهلية؛ على رأسهم المناضلون أرقاوي برهي وقسّاسي أيَّلي وسيوم مسفن وسِبحت نِيقا، والتحق بهم بعد حين (لقاسىّ زيناوي) الملقب بـ(ملس زيناوي)؛ الذي أصبح في ما بعد رئيساً لوزراء إثيوبيا، فأعلنوا عن الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي (TPLF) الشهيرة بـ(وياني تيغراي) في 18 فبراير 1975، لم يتأخر دبرصيون عن الالتحاق بالثورة، فقرر إخلاء مقعده بجامعة أديس أبابا والانضمام إليهم.

اقرأ أيضاً: البعد الأيديولوجي لحرب آبي أحمد على إقليم تيغراي (1- 2)

مع وصول أول مجموعة تضم 50 مقاتلاً من الثوار التيغراويين الذين دربتهم الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا على حرب العصابات؛ إلى أرض تيغراي 1976، كان دبرصيون قد التحق بالمجموعة فعلياً، وأصبح عضواً في الثورة. ولم يعُد منذ ذلك الوقت معنياً بالمسيحية الأرثوذكسية، فكلما سُئل عن ديانته، أجاب: السياسية! ولم يعد كذلك مُهتماً بمعنى اسمه (جبل صهيون) ولا بمحموله الديني الثقيل.

ملك الرصد والتشويش

جانب من مدينة مقلي عاصمة إقليم تيغراي- وكالات

ولمهاراته المشهودة في ملاحقة المعلومات ورصدها وتحليلها وشخصيته الكتومة المنزوية؛ أُلحِق بالوحدة التقنية للثورة، فأسَّس وحدة للاستعلامات والتنصت والتشويش، وبثاً إذاعياً للدعاية الحربية، فأصبح بسرعة فائقة رجل المخابرات والإعلام الأول في الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي.

أنفق الرجل نحو 17 عاماً من عمره في النضال ضد النظام الحاكم في أديس أبابا، إلى أن وجد نفسه ضمن رفاقه المتمردين حُكاماً لإثيوبيا كلها عام 1991، بعد أن كان طموحهم محصوراً في تحرير إقليمهم والانفصال به عن الوطن (الأم).

عاد دبرصيون مُجدداً إلى الدراسة الجامعية بعد انقطاع دام نحو ثلاثة عقود، فحصل على درجتَي البكالوريوس والماجستير في الهندسة الكهربائية من جامعة أديس أبابا، وحصل على الدكتوراه من جامعة كابيلا بالكونغو 2011، عن أطروحته في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المجتمعية.

اقرأ أيضاً: البعد الأيديولوجي لحرب آبي أحمد على إقليم تيغراي (2- 2)

في عام 1995 عيَّنه مليس زيناوي مديراً لوكالة تطوير المعلومات والاتصالات التي كانت تستخدم بجانب هدفها الرئيس، في مراقبة أنشطة المواطنين على الإنترنت في جميع أنحاء البلاد؛ بما في ذلك أعضاء أحزاب المعارضة والصحفيون والناشطون في المجتمع المدني، الأمر الذي أهله ليصبح نائباً لرئيس المخابرات، وقد لعب دوراً كبيراً في التجسس على المعارضين، والمساعدة على سحقهم؛ لكنه في الوقت نفسه أسس بشكل فعال البنية التحتية للاتصالات السلكية واللا سلكية التي كان لها الدور الأكبر في التنمية التي عمَّت البلاد لاحقاً، فكافأه رئيس الوزراء زيناوي، بتسميته وزيراً للاتصالات ونائباً له، فأطلق الرجل -ولأول مرة- في تاريخ إثيوبيا شبكة الهاتف الجوال التي غطَّت كل أنحاء البلاد تقريباً، كما كان أحد المخططين الرئيسيين لمشروع سد النهضة العملاق.

في مهب الريح

مَن يصطاد خصمه أولاً دبرصيون أم آبي أحمد؟- وكالات

مع رحيل ملس زيناوي في 2012، وتولي هايلي ماريام ديسالين رئاسة الوزارة، تجمعت غيوم كثيفة حول (جبل صهيون)، فعقب استقالته الأولى تحت ضغط المظاهرات والاحتجاجات الضخمة بإقليم أروميا، والتي عُرفت بـ(حراك قيرو)، كانت الغيوم قد وصلت إلى قمة الجبل؛ حيث حصل دبرصيون على صوتين فقط من أصل 169 صوتاً، بينما نال منافسه الشاب الصاعد رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد (من قومية أرومو) 108 أصوات؛ كان ذلك في أبريل 2018.

لم تمضِ بضعة أشهر على أداء (آبي) اليمين الدستورية، حتى أقال منافسه دبرصيون من رئاسة شركة الكهرباء، وبدأ حملة (تمشيط) وإزاحة كُبرى لكوادر الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، التي حكمت إثيوبيا نحو 27 عاماً، عن السلطة المركزية في أديس أبابا، فانهدّ جبل صهيون، وعاد يجرجر أذيال الخيبة وبقايا الغبن إلى (مقلي) عاصمة إقليم تيغراي، وبدأ من هناك في مناوشة ومناوئة الحاكم الجديد في أديس أبابا.

هل دُكّ الجبل أم ما زال راسخاً؟

دبرصيون يدلي بصوته في انتخابات تيغراي التي فاز بها- وكالات

قال الرجل، في إفادة سابقة لصحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، يصف خصمه آبي أحمد: “أخبرته أنه غير ناضج سياسياً وغير مناسب لحكم البلد”، ثم بدأ التصعيد عندما أصبح الإقليم يدير شؤونه بعيداً عن سياسات المركز، وكأنه دولة داخل دولة، لا يأبه قادته؛ وعلى رأسهم دبرصيون، بآبي أحمد وحكومته؛ لكن الأمور بدأت تخرج عن السيطرة عندما قرر إقليم تيغراي مخالفة مشيئة الحكومة المركزية في تأجيل الانتخابات العامة التي كان مقرراً تنظيمها في سبتمبر 2020؛ بسبب جائحة كورونا، بينما نظمت حكومة إقليم تيغراي انتخابات محلية خاصة بها؛ مُتحدية إرادة آبي أحمد وحلفائه. وقال دبرصيون الذي حصل على المركز الأول في السباق الانتخابي الإقليمي: “لن نتراجع أبداً، وسنواجه أي شخص ينوي مصادرة حقوقنا التي حصلنا عليها بشق الأنفس مثل الحكم الذاتي وحق تقرير المصير”.. وفي المقابل قلّل آبي أحمد من أهمية تأثير هذه الانتخابات على حكومته أو مستقبل البلاد.

اقرأ أيضاً: إنفوغراف.. أهم القوميات في إثيوبيا

في نوفمبر الماضي، زعم آبي أحمد أن القيادة الشمالية للجيش الفيدرالي الإثيوبي، ومقرها إقليم تيغراي؛ تعرضت إلى هجوم من قوات الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بقيادة دبرصيون، وأعلن الحرب عليها في الشهر نفسه، ثم أصدر مذكرة توقيف بحق زعيمها و64 من كبار قادتها؛ بدعوى إعلانهم الحرب على الدولة وخرقهم الدستور وتهديدهم الأمن القومي.

أعلنت الحكومة الإثيوبية في 28 نوفمبر الماضي الانتصار على جبهة تحرير تيغراي ودخول عاصمة الإقليم. ومنذ ذلك الوقت لا يعرف أحد مكان (جبل صهيون)، عدا بعض التسريبات التي ادَّعت هروبه إلى دولة جنوب السودان؛ لكن سرعان ما تم نفيها من قِبل جوبا وأديس أبابا، بينما تواترت أخبار أخرى عن وجوده بين قواته، يقود حرب عصابات قد يطول أمدها؛ في مواجهة الحكومة المركزية. فهل دُكّ جبل صهيون بالفعل أم لا يزال راسخاً كأوتاد الأرض، ينتظر اللحظة الحاسمة لينثر حِممه على آبي أحمد وحكومته؟

الأيام وحدها كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال!

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

عبد الجليل سليمان

مراسل السودان

مقالات ذات صلة