الواجهة الرئيسيةشؤون دوليةمقالات

ميخائيل غورباتشوف.. عملاق سياسي غيَّر مجرى التاريخ

كيوبوست

د. دينيس ساموت♦

كثيراً ما يُقال عن هذا القائد أو ذاك إنه غيَّر مجرى التاريخ؛ ولكن قلة هم مَن فعلوا ذلك حقاً، ولا شك أن نابليون ولينين هما من بين هؤلاء، وربما جمال عبدالناصر، ولكن ليس معظم مَن ينسب إليهم هذا الأمر هم -فعلاً- كذلك، وقلة -أيضاً- هم مَن يجادلون بأن ميخائيل غورباتشوف، آخر قادة الاتحاد السوفييتي، كان واحداً من أولئك الذين غيرت أفعالهم تاريخ وحياة الملايين من البشر في مختلف أنحاء العالم.

العملية التي بدأها غورباتشوف عندما استلم منصب الأمين العام للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي عام 1985، أطلقت العنان لقوى، لم يكن هو نفسه يتخيلها، والتي انتهت في عام 1991 بانهيار الدولة التي كان يحكمها؛ ولكنه في الوقت نفسه تمكن من إبعاد العالم عن حافة الهاوية التي كانت تقود نحو حرب نووية، ومن إنهاء عقود من الحرب الباردة التي كانت تدور بين الاتحاد السوفييتي وحلفائه في حلف وارسو وبين الولايات المتحدة وحلفائها في حلف الناتو، والتي وصلت تداعياتها إلى كل ركن من أركان العالم. وفي عام 1990 حصل غورباتشوف على جائزة نوبل للسلام عن جدارة تامة.

اقرأ أيضًا: الحرب الباردة لم تنته أبداً!

ومن المفارقات المحيرة أن غورباتشوف كان مصلحاً غير متوقع؛ فهو كان قد انضم إلى الحزب الشيوعي في سن مبكرة جداً كعضو في جناح الشباب “الكومسومول”، وتدرج في الرتب إلى أن أصبح في عامه الثامن والأربعين عضواً في المكتب السياسي للحزب الذي هو القيادة العليا التي تحكم البلاد فعلياً.

في سبعينيات القرن الماضي، بدا الاتحاد السوفييتي قوياً ومتماسكاً من الخارج؛ ولكنه كان يتعفن من الداخل. كان دولة بناها الثوريون على أنقاض الإمبراطورية القيصرية المنهارة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وأصبحت أمة واحدة -فقط- بفضل التضحيات الهائلة خلال الحرب العالمية الثانية التي ذهب ضحيتها عشرون مليون شخص من دول الاتحاد السوفييتي في حربه مع الفاشية. ومن هذا الإرث ظهر الاتحاد السوفييتي كواحدة من القوتَين العظميين في العالم. وكان ذلك إنجازاً كبيراً بالنسبة إلى بلد لم يكن على قدر كافٍ من التطور؛ ولكنه تمكن من تحقيق ذلك بفضل التضحيات البشرية الكبيرة ومعاناة مواطنيه. ومع أن الاتحاد السوفييتي تمكن من هزيمة الولايات المتحدة في الوصول إلى إرسال أول رجل إلى الفضاء؛ فقد كان معظم مواطنيه يعانون ظروفاً معيشية صعبة للغاية، حيث كان يتم تقنين السلع وقمع الحريات، كما طغى الإنفاق العسكري على معظم ميزانية الدولة. لقد حكم الحزب الشيوعي بقبضة من حديد، بينما كان أعضاؤه يشكلون النخبة المتميزة في المدينة الفاضلة المزيفة التي زعموا أنهم يخلقونها.

اقرأ أيضًا: كيف يعيش ورثة حكام ما بعد الاتحاد السوفييتي؟ (2)

في الفترة الممتدة بين عامَي 1964 و1982 كان الرجل الذي يتربع على قمة هرم السلطة هو ليونيد بريجينيف، وتميزت فترة حكمه بالركود. ولم يكن يدرك مدى عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تضرب البلاد سوى قلة قليلة، سواء في داخل الاتحاد السوفييتي أو خارجه؛ ولكن لا شك أن أعضاء المكتب السياسي الذي يحكم البلاد فعلياً كانوا مطلعين على واقع الأمر. ومن المؤكد أن جهاز الاستخبارات في حينه “KGB” كان أفضل مَن يعرف كل التفاصيل. لذلك عندما انتهى الأمر برئيس الجهاز كزعيم للاتحاد السوفييتي بعد وفاة بريجينيف عام 1982، كان يدرك تماماً أن الوضع لا يمكن أن يستمر؛ ولكنه توفي بعد فترة وجيزة من توليه منصبه، ولم يتمكن من بدء عملية التغيير الضرورية. وكان خلفه كونستانتين تشيرنينكو شخصاً مريضاً لم يبقَ في منصبه أكثر من عام واحد. وبحلول ذلك الوقت كان الوضع قد تدهور إلى درجة حرجة. وفي مارس 1985 أفرزت الإجراءات السرية للحزب الشيوعي ميخائيل غورباتشوف كزعيم جديد للبلاد. وفي غضون عام من وجوده في السلطة وقعت كارثة تشيرنوبل النووية التي أدى سوء تعاطي المسؤولين السوفييت معها إلى إلقاء المزيد من الضوء على الضرورة الملحة للشروع في عملية إصلاح شاملة.

ليونيد بريجينيف- أرشيف

بدأ غورباتشوف على الفور حملة إصلاحات داخلية وخارجية، شملت إخراج الاتحاد السوفييتي من حربه المكلفة في أفغانستان، والتراجع عن المواجهة في الحرب الباردة من خلال التفاوض على عدد من الاتفاقيات مع الولايات المتحدة والغرب؛ ولكن الأهم من ذلك كان حملة الإصلاح في البيت الداخلي. أصبحت هذه السياسات تُعرف باسم “غلازنوست”؛ أي الانفتاح، أو بسياسة “البريسترويكا”؛ أي إعادة الهيكلة، التي تجلت بأشكال عديدة؛ منها محاولات الإصلاح الاقتصادي من خلال التخلي عن الاقتصاد الموجه الذي أدى إلى الهدر وعدم الكفاءة، ومحاولات السماح بشيء من حرية التعبير.

كانت الحملة على إدمان الكحول من التغييرات المثيرة للجدل في تلك الفترة؛ فقد كان المواطنون السوفييت يهربون من بؤسهم بتناول الفودكا، الأمر الذي سبب مشكلات صحية كبيرة أثرت بشكل خطير على أداء الاقتصاد. عندما زرت موسكو عام 1986، بعد عام من تولي غورباتشوف السلطة، وجدت الدولة بأكملها خالية من الكحول رسمياً. لم يكن بإمكانك الحصول على الكحول حتى في أفضل المطاعم. بالطبع كانت هنالك طرق ملتوية. وأتذكر أنني قايضت ربطة عنقي الملونة بزجاجة من الشمبانيا الجورجية في مطعم “أربات” الشهير على مرأى ومسمع من الزبائن الذين لا شك أنه كان بينهم أعضاء من الحزب الشيوعي السوفييتي.

يمكن أن تبدأ الإصلاحات من الأعلى؛ ولكنها نادراً ما تصل إلى القاعدة حتى في موسكو، ناهيك بالمناطق البعيدة. كان النظام الشيوعي جامداً وغير مؤهل لإدارة التغيير. كان بإمكان الكرملين إصدار الأوامر؛ لكن تنفيذها كان شكلياً إلى حد كبير. وبدلاً من جني ثمار الإصلاحات أصبح معظم السوفييت ضحايا لها. أطلقت عملية الانفتاح لقوى مثل القومية التي شكلت تهديداً لوجود الاتحاد السوفييتي متعدد الجنسيات، وسمحت عملية إعادة الهيكلة للمجرمين بالاستيلاء على أرجاء كبيرة من الاقتصاد السوفييتي في وقت قصير.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين- أرشيف

اقرأ أيضًا: بوتين يكتب: أوكرانيا الحديثة نتاج خالص للحقبة السوفييتية (2-3)

يحسب لغورباتشوف إدراكه ما كان يجري، ومعرفته أنه كان في سباق مع الزمن، وأنه لم يكن لديه خيار آخر. وهذا أمر يحتاج إلى الكثير من الشجاعة والتصميم. ربما لم يكن غورباتشوف مدركاً لأبعاد ما بدأه عندما أطلق مشروعه الإصلاحي في عام 1985؛ ولكنه بحلول عام 1990 أدرك تماماً أنه لا بد من إتمام هذا المشروع وإلا فإن العواقب ستكون وخيمة. كان هنالك معارضون لإصلاحات غورباتشوف داخل الحزب الشيوعي والمخابرات السوفييتية والجيش، وكان الانفتاح على الغرب أكثر الإصلاحات التي لقيت معارضة هؤلاء. وفي أغسطس 1990 قاموا بانقلاب وتم القبض على غورباتشوف، وبدا وكأن الإصلاحات التي بدأها سوف تنهار؛ ولكن المارد كان قد خرج من القمقم، ولم يكن الشعب السوفييتي مستعداً للعودة إلى الوراء. انهار الانقلاب وانهار معه ما تبقى من سطوة الحزب الشيوعي. ومن المفارقات أن الحزب الشيوعي كان مصدر القوة الوحيد الذي يتمتع به غورباتشوف، وبذلك فقدَ سيطرته على السلطة تماماً بحلول نهاية عام 1990. استغل بوريس يلتسن الشعبوي، الفوضى وأطلق شرارة تفكك الاتحاد السوفييتي. كان يلتسن يفتقد الرؤية التي كان يتمتع بها غورباتشوف؛ فانتشرت الفوضى واندلعت الصراعات في أرجاء الفضاء السوفييتي السابق -لا يزال بعضها مستمراً إلى الآن- ودخلت البلاد في عقد من الفوضى الداخلية قبل أن يطيح به فلاديمير بوتين. والباقي، كما يُقال، هو تاريخ. ولكنه في الواقع ليس كذلك، فهو الواقع اليوم؛ لأنه من هذه الأحداث انبثقت حرب أوكرانيا وقيادة استبدادية جديدة في الكرملين تحكم روسيا بقبضة من حديد، وعاد شبح الحرب الباردة ليظهر في الأفق من جديد.

د. دينيس ساموت مع غورباتشوف في موسكو عام 1999- صورة خاصة

بقي غورباتشوف بعد خسارته السلطة عملاقاً على الساحة العالمية، واحتفت به العواصم الغربية كرئيس لمؤسسة غورباتشوف، وهو لا يزال يحظى بالاحترام في روسيا، على الأقل من قِبل البعض. التقيته في موسكو عام 1999، وقد حضر مؤتمراً شاركت مؤسستي “Linls” باستضافته مع مؤسسته، كان هدفه تشجيع الحلول السلمية للنزاعات في منطقة القوقاز، مع التركيز بشكل خاص على الوضع في الشيشان. دخلت روسيا في حالة اضطراب مرة أخرى؛ ولكن هذه المرة لم يكن هنالك مصلح ليتولى السلطة، بل ضابط مخضرم في المخابرات السوفييتية يرى أن كل ما فعله غورباتشوف والإصلاحات التي أطلقها كان خطأ يجب إصلاحه. وسرعان ما أصبح فلاديمير بوتين زعيم روسيا بلا منازع، وتمت تنحية المحاولات المشابهة لمحاولتنا لحل النزاع في الشيشان سلمياً، واندلعت بدلاً من ذلك حرب مميتة تسببت في معاناة هائلة للشعب الشيشاني. والأهم من ذلك أن بوتين حاول منذ ذلك الحين بشكل منهجي عكس التاريخ وإعادة إحياء الاتحاد السوفييتي، حتى وإن كان باسم وشكل مختلفَين. لكن التاريخ لا يرجع إلى الوراء، والتغييرات التي أطلقها غورباتشوف أثرت على العالم بشكل جذري. لن يكون هنالك اتحاد سوفييتي جديد على الرغم من جهود بوتين المحمومة، وليس أدل على ذلك من تصميم الأوكرانيين على الحفاظ على استقلالهم. وعلى الصعيد الداخلي في روسيا، صحيح أن بذور التغيير التي زرعها غورباتشوف في روسيا بين عامَي 1985 و1991 لم تنمُ لتصبح أشجاراً باسقة بعد، ولكنها لم تمت أيضاً.

في روسيا اليوم لن يكرم كثيرون ذكرى غورباتشوف التي شوهتها عقود من الدعاية السلبية للدولة؛ لكن لا شك في أن ميخائيل غورباتشوف قد حفر اسمه في التاريخ ولن يستطيع أحد محوه؛ لقد كان عملاقاً سياسياً غيَّر مجرى التاريخ.

♦مؤرخ ومدير مؤسسة ” LINKS Europe” ومقرها لاهاي في هولندا. يكتب بانتظام حول قضايا السلام والأمن في أوروبا والخليج العربي، وعلاقة أوروبا بجيرانها.

لقراءة الأصل الإنكليزي: Mikheil Gorbachev 

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة