الواجهة الرئيسيةشؤون عربية
موانئ السودان وصراع الكبار.. مَن ينتصر في معركة الساحل؟
واشنطن وموسكو مروراً بأنقرة وبكين.. منافسة محمومة للسيطرة على نقاط استراتيجية تقع على البحر الأحمر

كيوبوست- عبد الجليل سُليمان
لم يمض شهر واحد من إطاحة الرئيس عمر البشير وجماعة الإخوان المسلمين عن السلطة في السودان، 11 أبريل 2019، حتى اشتعل شرق البلاد بما يشبه حالة الاحتراب الأهلي. ففي مايو 2019، وبالتزامن مع إلغاء امتياز خدمة محطة الحاويات الدولية (ICTSI) في الميناء الجنوبي بمدينة بورتسودان، الواقعة على ساحل البحر الأحمر، اندلعت اشتباكات بين عناصر من قبيلتَي بني عامر وجماعة النوبة العرقية، القاطنتَين في أحياء متجاورة بالمدينة، أدت إلى حظر التجوال، ونشر عناصر من الجيش وقوات الدعم السريع؛ من أجل ضبط الأوضاع واستعادة الهدوء والأمن، ولكن ذلك لم يحدث إلا لماماً؛ الأمر الذي جعل مراقبين يزعمون أن الاشتباكات نجمت عن شيء أكبر من المظالم العرقية، وأنها كانت مرتبطة بمحاولة قوى خارجية زعزعة استقرار المنطقة لتمرير أجندتها من أجل السيطرة على ميناء بورتسودان، الذي أصبح في الآونة الأخيرة مكاناً للتنافس الدولي والإقليمي؛ بغية تحقيق أهداف سياسية واقتصادية وأمنية واستراتيجية، وزادت أهميته بعد بروز ما يُعرف بمكافحة الإرهاب العابر للقارات وحماية أمن البحر الأحمر الذي يعبر منه نحو 20% من التجارة العالمية، و30% من تجارة النفط.
اقرأ أيضاً: هل يصنع “طباخ بوتين” من ثروات إفريقيا طبقاً روسياً شهياً؟
علاوة على الأوضاع الداخلية الهشَّة التي يعيشها السودان في مرحلة الانتقال السياسي التي أعقبت سقوط نظام عمر البشير، فإن التدخلات الخارجية الكثيفة في الشأن الداخلي السوداني، ألقت بظلالها وفاقمت من تلك الأوضاع وأسهمت في تدهورها؛ خصوصاً في ما يتعلق بشرق السودان الذي يضم الموانئ السودانية كافة، وأهمها بورتسودان وسواكن، اللذان يقعان تقريباً في منتصف المسافة بين آسيا وأوروبا؛ ما يجعلها مؤهلة لتكون مراكز لوجستية ضخمة وورشاً مناسبة لصيانة وتأهيل السفن، فضلاً عن أهميتها من الناحية الأمنية والجيواستراتيجية.

استخدام القبائل المهمشة كأداة في الصراع
ومع تصاعد الحركة الاحتجاجية في شرق السودان، التي يقودها كيان قبلي محدود تحت مسمى (المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة)، برئاسة محمد الأمين تِرِكْ، زعيم قبيلة الهدندوه والقيادي في حزب المؤتمر الوطني المحلول (إخوان مسلمين)، والذي يُعتقد على نطاق واسع أنه مدفوع بأجندة خارجية وداخلية من قِبَل المكون العسكري بمجلس السيادة وفلول الإخوان المندحرة التي تأمل العودة إلى الحكم عبر هذا الكيان المُصطنع في شرق السودان، والذي وصل به الأمر حد إغلاق الميناء والطرقات الرئيسية المؤدية إليه، وبالتالي إيقاف إمدادات الغذاء والدواء والوقود عن بقية المدن السودانية، دون أن يتعرض إلى المنع من قِبل القوات الأمنية التي يسيطر عليها العسكريون في الحكومة الانتقالية؛ بل في كثير من الأحيان أعلن الجيش ضمنياً دعمه زعيم المحتجين في شرق البلاد، إذ وصف رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان، الحراك في شرق السودان بالسياسي رغم إغلاق المُحتجين الميناء والمطار والطرق، بينما أكد زعيمهم، تِرِكْ، مرات عديدة أنه يعمل تحت حماية الجيش؛ الأمر الذي جعل مراقبين كُثراً يفسرون ما يجري على أنه تغطية وتمويه ربما لصفقات سرِّية تتعلق بالموانئ السودانية على البحر الأحمر.
وفي الأثناء يدور صراع خارجي بين عدة متنافسين للاستحواذ على موضع قدم في موانئ السودان وساحله على البحر، مستغلين الأوضاع الهشة في شرق البلاد؛ فالتنافس بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة والصين ليس بخافٍ على أحد، وقد تناولته العديد من وسائل الإعلام المحلية السودانية والخارجية، بيد أن الأحداث المتصاعدة في ميناء بورتسودان والحركات الاحتجاجية التي بلغت المطالبة بدولة مستقلة أحياناً، وبحكم ذاتي أحايين، حجبت ما يجري من اتفاقيات وصفقات في الفترة الماضية.
اقرأ أيضاً: بعد سيطرة الإخوان وزعماء القبائل.. هل يصبح شرق السودان مقراً للجماعات الإرهابية؟
البعد التركي.. رسو الإخوان على الميناء

ويعتقد الباحث في الأمن القومي النعيم ضو البيت، أن الصراع الخارجي حول النفوذ على ميناءي بورتسودان وسواكن، لم يبدأ عقب إزاحة نظام جماعة الإخوان عن الحكم، كما يروج البعض ويشيع، وإنما العكس تماماً؛ لأن حكومة الرئيس الأسبق عمر البشير، والتي كانت تتمتع بعلاقات وثيقة مع قطر وتركيا، سمحت للأخيرة بالسيطرة على جزيرة سواكن في البحر الأحمر، وإن أصبحت هذه الصفقة معلقة لظروف داخلية وإقليمية؛ لكن ذلك لا يمنع القول إن تركيا وروسيا استخدمتا الموانئ السودانية مرات عديدة كنقطة انطلاق لجهودهما الحربية في ليبيا.
ويضيف ضو البيت، متحدثاً إلى “كيوبوست”: من ناحية الأمن الإقليمي، لم تُراعِ حكومة جماعة الإخوان المنصرفة أن المشروع التركي في جزيرة سواكن المشاطئة لميناء جدة بالمملكة العربية السعودية والقريبة من مصر، يُعدُّ تغلغلاً في المجال البحري الحيوي للدول العربية المطلة على البحر الأحمر ومهدِّداً أمنياً للسعودية ومصر بشكلٍ خاص؛ إذ كانت الحكومة التركية تنوي تكريس وجودها في الجزيرة بغرض إطلاق قاعدة عسكرية عليها، ولربما كانت زيارة وزير الدفاع التركي، الفريق أول خلوصي آكار، إلى ميناء سواكن مطلع نوفمبر 2018، مؤشراً على هذه النية، لولا أن قطعتها عليها الثورة الشعبية التي أطاحت بالنظام الحاكم بفعل الثورة الشعبية 2019، إلا أن ما لا ينتبه إليه كثيرون هو عودة فلول الإخوان المسلمين مُجدداً إلى شرق البلاد مُتخفين تحت لافتات قبلية وجهوية، حيث ظل قائد الاحتجاجات الزعيم القبلي محمد الأمين تِرِكْ، مرشحاً دائماً لجماعة الإخوان المسلمين ونائباً في مجلسها التشريعي إبان نظام البشير، ويبدو أن فلول الجماعة اختارته بعناية لتنفيذ أجندتها في استعادة الحكم عبر الضغط على الحكومة الانتقالية بخنقها من خلال قطع الطرق الرئيسية وإغلاق الميناء وإيقاف حركة التصدير والاستيراد، ولهذا السبب أيضاً يحظى الرجل بمساندة قوية من المكون العسكري في الحكومة الانتقالية الذي يعتبر نفسه وريثاً شرعياً لنظام البشير؛ خصوصاً أن كلاً من الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي، ونائبه وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان (حميدتي)، كانا ضمن اللجنة الأمنية لنظام عمر البشير، وهي لجنة لا يتم اختيارها إلا من المقربين والمنتمين إلى الجماعة والموثوق بهم.
اقرأ أيضاً: إفريقيا الوسطى.. من الهيمنة الفرنسية إلى السيطرة الروسية!
علاقات متوازنة لكن مستحيلة

من جهته، اعتبر المحلل السياسي والباحث في شؤون القرن الإفريقي عبدالقادر حكيم، خلال إفادته لـ”كيوبوست”، أنه ينبغي النظر إلى التنافس الروسي- الأمريكي- الصيني على الموانئ السودانية من زاوية ما يمثله البحر الأحمر من أهمية استراتيجية لها، فبجانب أنه أقصر طريق يربط بين القارات الثلاث (إفريقيا وآسيا وأوروبا)، فهو يعتبر حلقة وصل بين أربع مناطق إقليمية حيوية بالنسبة إلى القوى العظمى في العالم؛ الشرق الأوسط والقرن الإفريقي والمحيط الهندي والخليج العربي، كما تطل عليه ثماني دول، كلها عربية باستثناء إسرائيل وإريتريا.

يواصل حكيم حديثه إلى “كيوبوست”، لافتاً إلى أن الخرطوم تسعى لخلق علاقات خارجية متوازنة مع كلٍّ من واشنطن وموسكو في المرحلة الراهنة، مشيراً إلى أن ذلك لن يستمر طويلاً، فإذا ما نجح المكون العسكري في الاستيلاء على السلطة قبل تنظيم الانتخابات المزمعة عام 2023، فإن كفة السودان ستميل نحو روسيا، بينما يتجه المُكون المدني نحو الولايات المتحدة؛ لجهة أنها داعمة للانتقال الديمقراطي، كما يسعى للتقرب من البيت الأبيض مُستفيداً من الديناميكيات الجديدة في العلاقات الأمريكية- السودانية التي نتجت عن رفع تصنيف الإرهاب العام الماضي، ولربما هذا ما دفع الولايات المُتحدة إلى التحرك بسرعة لعرقلة المساعي الروسية في هذا الخصوص، فما أن وقَّعت الخرطوم وموسكو، في ديسمبر 2020، اتفاقية تعاون عسكري فني مدتها 25 عاماً؛ لإنشاء مركز (فلامنجو) اللوجستي البحري في مدينة بورتسودان على ساحل البحر الأحمر، يسمح السودان بموجبها لروسيا بإرساء أربع سفن و300 فرد كحد أقصى في الميناء، حتى أعلنت سفارة الولايات المتحدة في الخرطوم في اليوم التالي مباشرة، أنها ترغب في تعزيز تعاون عسكري وثيق مع القوات المسلحة السودانية، وتعزيز العلاقات العسكرية الثنائية بين البلدين.
اقرأ أيضاً: الوجود التركي في الصومال.. مصالح متبادلة أم زواج كاثوليكي؟
وكشف الملحق العسكري الأمريكي بالخرطوم، جاكوب داي، أنه يعمل مع القوات المسلحة السودانية لتعزيز العلاقات الثنائية، كما لم تستنكف الإشارة إلى المساعدات الأمريكية المباشرة وغير المباشرة التي قدمتها إلى الخرطوم لدعم الانتقال السياسي والتحول الديمقراطي والتي تقدر بـ(1.1) مليار دولار، كما قدمت واشنطن 81 مليون دولار من المساعدات الإنسانية إلى السودان لمواجهة التحديات المتعلقة بتدهور الاقتصاد، وتفشي جائحة “كوفيد-19″، والفيضانات، بحيث أضحى إجمالي المساعدات الإنسانية الأمريكية للسودان في عام 2020 فقط، نحو 437 مليون دولار، كما حصل السودان على منحة بقيمة 20 مليون دولار من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، عن طرق برنامج الأغذية العالمي.
وهكذا تحاول الولايات المتحدة وروسيا تكريس وجودهما على الساحل السوداني المطل على البحر الأحمر، تنافسهما تركيا والصين بشكل أساسي، فضلاً عن بعض القوى الإقليمية الأخرى.

عودة الإخوان على ظهر القبائل
وفي السياق نفسه، يمثل ميناء بورتسودان أهمية كبرى بالنسبة إلى الصين؛ إذ يُستخدم لتصدير نفط دولة جنوب السودان الذي يمثل نحو 7% من إجمالي واردات الصين النفطية، كما توجد في السودان حالياً ما يربو على 126 شركة صينية تبلغ استثماراتها 15 مليار دولار؛ هذا فضلاً عن أهمية السودان بالنسبة إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية؛ لكونه مطلاً على البحر الأحمر، ولذلك عرضت الشركة الصينية للموانئ تمويلاً بقيمة 543 مليون دولار لتوسيع مرافق ميناء سواكن، بينما تقوم شركة أخرى بتطوير ميناء آخر لشحن الثروة الحيوانية في مرفأ هيدوب جنوب ميناء بورتسودان. وهذا ما جعل واشنطن تنظر إلى بكين وموسكو باعتبارهما مهددتَين للمصالح الأمريكية في البحر الأحمر والقرن الإفريقي.
اقرأ أيضاً: تركيا تستغل نفوذها في الصومال للوصول إلى القمر!
إلا أنه في خضم هذا الصراع، يُرجح مراقبون نجاح الولايات المتحدة، بدعم من حلفائها الإقليميين الذين يتمتعون بعلاقات جيدة مع المكونَين العسكري والمدني في الحكومة الانتقالية، في كسب الجولة؛ خصوصاً بعد الانفتاح الكبير في العلاقات بين البلدين عقب سقوط نظام البشير، ولكن يرى نفس المراقبين ضرورة التعامل بحذر مع هذه الفرضية؛ حيث لا تزال الخرطوم ترحب بالاستثمارات الصينية المكثفة ولا تمانع حتى الآن في استمرار روسيا في بناء مركز فلامنجو اللوجستي، لكن كل ذلك قد يوضع في المحك ويذهب أدراج الرياح بسبب الاحتجاجات في شرق السودان، وعدم توفر الأمن والقطع المستمر للطرق واحتلال الموانئ بواسطة القبائل المحلية؛ ما يعتبر فشلاً ذريعاً للحكومة وضعفاً بائناً في الجبهة الداخلية بانقسام النخبة الحاكمة في الولاءات الخارجية وتفاقم الاستقطاب السياسي واضطراب الأوضاع الداخلية وسيولتها، ما يهدد بعودة جماعة الإخوان المسلمين إلى المشهد مجدداً، باعتبارها قوة منظمة وفاعلة؛ الأمر الذي يمثل تهديداً ليس للتحول الديمقراطي فحسب، بل للمصالح الدولية والإقليمية المتنافسة هناك.