الواجهة الرئيسيةرفوف المكتبةشؤون دولية
من قاعة الحدث.. مذكرات من البيت الأبيض (5)
كيف تحول أردوغان من الصديق الأقرب لترامب إلى العدو الذي يجب التعامل معه؟

كيوبوست
نشر مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق جون بولتون، كتاباً بعنوان «من قاعة الحدث: مذكرات من البيت الأبيض»، والذي نشر فيه الكثير من الأمور حول أسرار البيت الأبيض والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وكيفية تعامله مع القضايا المختلفة.
يسعى هذا العرض إلى تقديم أبرز ما ورد في الكتاب حول القضايا المختلفة، مع التركيز على القضايا الشرق أوسطية بصورة أساسية، دون إغفال بعض المواقف الدولية؛ بهدف رسم صورة واضحة وتطوير فهم عميق لكيفية تعامل الإدارة الأمريكية مع قضايا المنطقة.
في الأجزاء السابقة تحدث بولتون عن ملفات عديدة مرتبطة بطريقة إدارة الرئيس ترامب للانتهاكات الإيرانية في المنطقة العربية، بالإضافة إلى كواليس الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، وكيف اتخذ ترامب قرار الانسحاب من سوريا والتنسيقات والتفاهمات التي جرت مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، للانسحاب الأمريكي من سوريا.
في الجزء الأخير يتحدث بولتون عن تغيُّر السياسة الأمريكية تجاه أفغانستان والمفاوضات مع حركة طالبان، بالإضافة إلى حديثه عن فترة توتر العلاقة مع تركيا بسبب سجن القس أندرو برونسون.
اقرأ أيضًا: اتفاق الولايات المتحدة و”طالبان”.. مجرد بداية لعملية السلام الأفغانية
الانسحاب من أفغانستان
مع اقتراب عام 2018 من نهايته، كانت أفغانستان بلا شك مكاناً يسبِّب صداعاً لترامب، وفقاً لبولتون. اعتقد ترامب أنه منح ماتيس الموارد الطلوبة جميعها لإنهاء “طالبان”، كما هي الحال مع إنهاء “داعش”. وبينما تمكن من ذلك في العراق وسوريا، وتحقق الهدف المطلوب، فإن الوضع في أفغانستان كان على النقيض من ذلك. لم يكن القضاء على “طالبان” احتمالاً يلوح في الأفق، وكانت الأمور تسير على نحو خاطئ بلا شك. ويروي بولتون أن ترامب يعتقد أنه كان على حق في عام 2016، عندما طلب الانسحاب من أفغانستان، وبعد الفشل العسكري في 2017 و2018، ازداد يقيناً بأنه كان محقاً في رغبته بالانسحاب من هناك.
كان ترامب قد أعلن تغيير استراتيجية الولايات المتحدة تجاه أفغانستان في عام 2017، والتي أدت إلى تحول القوات الأمريكية إلى وضع هجومي ضد “طالبان”، كما أعطى ماتيس ضوءاً أخضر لاستخدام كل الأسلحة المطلوبة، عدا الأسلحة النووية، غير أن ماتيس أضاع عدة أشهر من عام 2017، دون أن يقوم بأي شيء؛ ظناً منه أن ترامب قد يغير رأيه.

عارض ترامب استمرار الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان؛ لسببين متصلين: أولاً، لقد بنى حملته الانتخابية على “إنهاء الحروب التي لا نهاية لها”. وثانياً، إساءة توظيف المساعدات الاقتصادية والأمنية المقدمة إلى الحكومة الأفغانية، وهو أمر يكرهه بشدة.
التقى بولتون زلماي خليل زاد، السفير الأمريكي السابق إلى أفغانستان، الذي عرض على الإدارة الأمريكية فكرة التفاوض مع “طالبان”، وأن هناك عناصر في “طالبان” ترغب في ذلك، وتوقع بولتون أن يوافق ترامب بالنظر إلى حرصه على الانسحاب من الحروب الفاشلة. وأخبر مارك بنس، نائب الرئيس الأمريكي، بولتون أن ماتيس لا يزال يجادل بأننا نحرز تقدماً عسكرياً في أفغانستان، ويجب ألا نغير هذا المسار. ويدرك بنس، وكذلك بولتون، أن ترامب لن يصدق ذلك، وكان هناك دليل جوهري على أن ماتيس كان على خطأ.
اقرأ أيضًا: كيف باعت الولايات المتحدة الوهم في أفغانستان؟
عندما التقى ترامب بماتيس وتناولا الشأن الأفغاني، عنَّف ترامب ماتيس بشدة، وأبلغه أنه منحه صلاحيات مطلقة، وكل ما طلب للانتصار في الحرب، غير أنه لم ينجح، وأن عليه إنهاء الحرب. ووضع ماتيس خطة تقوم على سحب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان، وتركيزهم في أربع أو خمس قواعد رئيسية؛ حيث سيغادرون البلاد، وتأمين مسارات الهبوط والإقلاع للطائرات التي ستقل الجنود والمعدات الأمريكية. وقدم ماتيس بعدها استقالته، ولم تكن القوات الأمريكية قد بدأت الانسحاب بالفعل.
العلاقات المتوترة مع تركيا حول برونسون
قامت أنقرة بسجن القس أندرو برونسون (واعظ إنجيلي ليس له أي توجهات سياسية، عاش وعائلته وعملوا في تركيا لمدة عقدين قبل اعتقاله في عام 2016 بعد انقلاب عسكري فاشل ضد الرئيس رجب طيب أردوغان). كان برونسون ورقة مساومة في يد تركيا، حيث تتهمه أنقرة، بالتآمر مع أتباع فتح الله جولن، حليف أردوغان السابق الذي تحول إلى عدائه ويبالغ أردوغان في تقدير تهديده، ويعتبره إرهابياً.

اتصل أردوغان بترامب للحديث عن برونسون و”علاقته” بأنصار فتح الله جولن. كما أثار أردوغان أيضاً موضوعاً مفضلاً آخر، وناقشه كثيراً مع ترامب، وهو إدانة محمد هاكان أتيلا، وهو أحد كبار المسؤولين في مصرف “خلق بنك” التركي (Halkbank)، المدار من قِبل الدولة؛ حيث تتهمه واشنطن بالاحتيال المالي وارتكابه انتهاكات جسيمة للعقوبات المفروضة على إيران. رغب أردوغان في وقف هذه المحاكمة؛ بسبب استخدامه وأسرته “خلق بنك” لأغراض شخصية بعدما أصبح صهره وزيراً للمالية في تركيا. ورأى بولتون أن ذلك كان أمراً مستبعداً، بعد أن قام المدعون الأمريكيون بدراسة عمليات البنك الاحتيالية بالتفصيل.
وأخيراً، أعرب أردوغان عن قلقه من التشريع المعلق في الكونجرس الذي إذا أُقر سيوقف بيع طائرات “إف- 35” إلى تركيا. كان لدى أردوغان إذن الكثير مما يدعوه إلى القلق، وفقاً لبولتون. ولكن ما أراده ترامب كان محدوداً للغاية؛ وهو: متى سيتم إطلاق سراح برونسون للعودة إلى أمريكا؟ وهو ما ظن ترامب أن أردوغان قد تعهد به. لكن الواقع أنه راوغ وأكد أن العملية القضائية التركية مستمرة، وأن برونسون قيد الإقامة الجبرية في إزمير بتركيا. ورد ترامب بأنه سيكون من المستحيل علاج القضايا الصعبة التي تواجه العلاقات الأمريكية- التركية، ما لم يعد برونسون إلى الولايات المتحدة.

غضب ترامب، وطلب فرض “عقوبات كبيرة” على تركيا، إذا لم تتم إعادة برونسون إلى الولايات المتحدة. وفي 2 أغسطس 2018، فرضت وزارة المالية عقوبات على وزيري العدل والداخلية في تركيا، وبعد ذلك بيومين وثلاثة أيام، فرضت تركيا عقوبات على نظرائهما من الإدارة الأمريكية.
وأراد ترامب مضاعفة التعريفات الحالية للصلب المستورد من تركيا إلى 50 في المئة، الأمر الذي أذهل الفريق الاقتصادي في الإدارة، نظراً لأن ترامب فرض تعريفات على الفولاذ والألمنيوم في جميع أنحاء العالم على أسس اعتبارات الأمن القومي في مارس 2018، وذلك لإخفاء سياساته الحمائية. وكان من شأن استخدام التعريفات كوسيلة للضغط على تركيا لإطلاق سراح برونسون أن يكشف عن طريقة تعامل واشنطن في الملف التجاري. وشعر ترامب بالطبع أن أحداً لن يتحداه في هذه الظروف، وهو ما تم، وفقاً لبولتون.
وأراد الأتراك، القلقون من تصاعد المشكلات مع أمريكا، مخرجاً، محاولين مقايضة برونسون بإنهاء التحقيق الجنائي الأمريكي حول “خلق بنك”. كان هذا في أفضل الأحوال أمر غير لائق، غير أن ترامب كان يريد خروج برونسون، لذا تفاوض وزير الخارجية بومبيو، ومنوشين، مع نظرائهما في تركيا، وكان منوشين طرفاً؛ لأن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة كان يحقق في القضية أيضاً.
اقرأ أيضًا: تحرير إدلب.. استدارة تركية نحو أمريكا بعد أزمتها مع روسيا
وفي محادثات ثلاثية بين بولتون ومنوشين وبومبيو، اتفقنا على عدم القيام بأي شيء دون موافقة كاملة من المدعين العامين بوزارة العدل في المنطقة الجنوبية من نيويورك؛ حيث كان يتم نظر القضية، والتي تضمنت انتهاكاً للعقوبات على إيران، وذلك بقيمة تقدر بنحو 20 مليار دولار.
برزت مشكلة تعدد المفاوضين من كلا الجانبين. وكانت نيكي هايلي، سفيرة الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة، تجري محادثات مع سفير تركيا لدى الأمم المتحدة، وهي خطوة استغربها الأتراك، وكذلك نحن. وأكد بومبيو أنه سيحل هذه المشكلة عن طريق إخبار هايلي بالتوقف عن إجراء اتصالات غير مصرح بها مع الأتراك، وذلك لوقف حالة الارتباك. ومع ذلك، فلم تسفر الجهود الدبلوماسية عن شيء في قضية برونسون. وسمح ترامب للمفاوضات بالاستمرار، لكن غريزته عن أردوغان أثبتت صحتها، وهي أن الضغط الاقتصادي والسياسي هو الذي سيطلق سراح برونسون، وهنا على الأقل لم يواجه ترامب مشكلة في تطبيقها.
وعندما أصرت تركيا على عدم إطلاق سراح برونسون، ضغط ترامب من أجل فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على تركيا، وعرض القطريون التوسط؛ حيث كانوا يدعمون الاقتصاد التركي بقوة، غير أن الإدارة الأمريكية رأت أن دورهم لن يأتي بنتيجة، كما بدأت العلاقات الأمريكية- التركية تتدهور لأسباب أخرى؛ أبرزها إقدام أنقرة على شراء “إس 400”. وفي يوليو، وبينما كانت تتوقع وزارة الدفاع الإفراج عنه، أصدرت المحكمة في أزمير حكماً ضده بالسجن بتهمة التجسس لمدة خمسة أعوام، غير أن المحكمة أطلقت سراحه بالنظر إلى المدة التي قضاها قيد الاعتقال، ولأسبابٍ تخفيفية. وبرر أردوغان الحكم على أساس اعتبارات سياسية داخلية، غير أن ما يهم الولايات المتحدة كان الإفراج عنه.

وتحوَّل أردوغان من كونه أحد أفضل أصدقاء ترامب الدوليين إلى هدف لعدائه الشديد. وقد منح ذلك بولتون الأمل في أن يدرك ترامب حقيقة قيادات مثل فلاديمير بوتين، وشي جين بينغ، وكيم جونغ أون، ويمكن حينها، وفقاً لبولتون، إعادة ربط سياساتنا الخاطئة بالواقع.
كان أردوغان إسلامياً راديكالياً مشغولاً بتحويل تركيا من دولة كمال أتاتورك العلمانية إلى دولة إسلامية، تدعم الإخوان المسلمين والمتطرفين الآخرين في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وموَّل كلاً من “حماس” و”حزب الله”، ناهيك بكونه معادياً بشدة لإسرائيل، وساعد إيران على التهرب من العقوبات الأمريكية، غير أن أحداً لم يدرك ذلك على ما يبدو، وفقاً لبولتون.
اقرأ أيضًا: تفاصيل صفقة ترامب-إردوغان للإفراج عن القس الأمريكي
والتقى ترامب أردوغان بشكل ثنائي في الأول من ديسمبر 2018 في قمة بوينس آيرس، لمجموعة العشرين، وذلك بعد ست أسابيع من إطلاق سراح برونسون، وناقشا إلى حد كبير قضية “خلق بنك”. وقدم أردوغان مذكرة من شركة المحاماة التي تمثل البنك، والتي لم يفعل ترامب أكثر من المرور عليها سريعاً قبل أن يعلن أنه يعتقد أن البنك كان بريئاً تماماً من انتهاك العقوبات الأمريكية على إيران.
ثم أخبر ترامب أردوغان أنه سيهتم بالأمر، موضحاً أن المدعين العامين في المنطقة الجنوبية ليسوا من أنصاره، ولكنهم من أنصار أوباما، ورأى أن مشكلة البنك يمكن حلها عندما يتم استبدال الموالين لترامب بهم. وبالطبع، كان كل هذا كلاماً فارغاً، وفقاً لبولتون، لأن المدّعين كانوا موظفين مهنيين في وزارة العدل، والذين كانوا سيواصلون التحقيق بنفس الأسلوب والطريقة. ووفقاً لبولتون، كان ترامب يحاول أن يظهر أن لديه سلطة تعسفية مثل أردوغان، الذي قال قبل عشرين عاماً عندما كان يشغل منصب عمدة إسطنبول “الديمقراطية مثل الترام؛ تركبها في المحطة التي تريدها، ثم تنزل منها”، ثم ادعى ترامب أنه لا يريد أن يحدث أي شيء سيئ لأردوغان أو تركيا، وأنه سيعمل بجد على هذه المسألة.
لقراءة الحلقات السابقة:
من قاعة الحدث.. مذكرات من البيت الأبيض (1)
من قاعة الحدث.. مذكرات من البيت الأبيض (2)
من قاعة الحدث.. مذكرات من البيت الأبيض (3)
من قاعة الحدث.. مذكرات من البيت الأبيض (4)
عنوان الكتاب: «من قاعة الحدث: مذكرات من البيت الأبيض».
اسم الكاتب: جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي.
دار النشر: سيمون آند شوستر.
سنة النشر: 2020