الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية

“معنى” كيسنجر… إعادة الاعتبار للواقعية

كيوبوست – ترجمات

نيال فيرجسون♦

هناك أسبابٌ أخرى غير طول العمر تجعل العديد من زعماء العالم يستمرون في التماس المشورة من هنري كيسنجر، الذي تنحَّى عن منصبه كوزيرٍ للخارجية الأمريكية قبل ما يقرب من أربعة عقود. فبجانب فلسفةِ المثالية، كان أهم شيء تعلمه كيسنجر في جامعة هارفارد هو مركزية التاريخ في فهم مشكلات الأمن الوطني. وقد استهان صناع القرار السياسي الأمريكي لفترة طويلة بأهمية التاريخ في فهم الأمم لذاتها.

اقرأ أيضًا: فلسفة التاريخ عند هنري كسنجر

وفي قرارٍ تلو الآخر، فشلوا في إدراك أهمية مشكلة التخمين، فتارةً يقللون من شأن فوائد السياسات الاستباقية، وتارة أخرى يقللون من شأن تكلفة التقاعس عن العمل. وقد تهربوا من الخيارات الصعبة، وخلف ستار من الخطب الرنانة مارسوا واقعية مستهترة تفتقر دوماً إلى الشرعية في الداخل والخارج. ولكل هذه الأسباب، تجد الولايات المتحدة نفسها في فوضى استراتيجية كبيرة كما كانت في نهاية عام 1968. وبالتالي، فإن هناك حاجة ماسة إلى نهج كيسنجري. ولكن يتعين على صناع القرار السياسي في البداية، وكذلك الجمهور، فهم معنى كيسنجر.

اقرأ أيضاً: من نيكسون إلى ترامب.. كيف كانت السياسة الخارجية طوق نجاة من العزل؟

لا شك أن هناك أسباباً أخرى غير طول عمره تجعل هذا العدد الكبير من زعماء العالم -ومن بينهم الرئيس الصيني شي جين بينغ- يواصلون السعي إلى الحصول على مشورة هنري كيسنجر، الذي تنحَّى عن منصبه كوزيرٍ للخارجية الأمريكية، قبل ما يقرب من أربعة عقود. وفي هذا الصدد، يُمثِّل باراك أوباما استثناءً من القاعدة؛ حيث إنه أول رئيس أمريكي منذ أيزنهاور لا يطلب نصيحة كيسنجر. لهذا، وبشكل دوري، كان المعلقون يحثون أوباما على أن يكون أكثر “كيسنجرية”. بينما زعم آخرون أنه كيسنجريّ في الممارسة العملية، إن لم يكن في الخطابة. ولكن ما الذي يعنيه المصطلح بالضبط؟ 

الرئيس جون كينيدي يستقبل دوبرينين فور تعيينه سفيراً سوفييتياً إلى الولايات المتحدة عام 1962- أرشيف

إن الإجابة التقليدية تساوي بين كيسنجر والواقعية، وهي فلسفة تتميز بالتقييم الرزين للسياسة الخارجية في ضوء صارخ من المصلحة الذاتية الوطنية، أو بعبارة الصحفي أنتوني لويس، “هوس بالنظام والقوة على حساب الإنسانية”.

ففي عام 1983، وصف ستانلي هوفمان، زميل كيسنجر السابق في جامعة هارفارد، كيسنجر بأنه مكيافيلي “يعتقد أن الحفاظ على الدولة يتطلب كلاً من القسوة والخداع على حساب الخصوم الخارجيين والداخليين”. كما افترض العديد من الكتاب أن كيسنجر كان على غرار أبطاله المفترضين، رجل الدولة النمساوي كليمنس فون مترنيش، والزعيم البروسي أوتو فون بسمارك، حاملي رايات السياسة الواقعية الأوروبية الكلاسيكية.

وفي الخمسينيات والستينيات، كتب كيسنجر بالفعل عن مترنيش وبسمارك. ولكن فقط الشخص الذي لم يقرأ (أو الذي تعمد إساءة قراءة) ما كتبه يمكن أن يجادل بجدية بأنه انطلق في السبعينيات لتكرار نهجهما في السياسة الخارجية. وبعيداً عن كونه مكيافيلياً، كان كيسنجر منذ بداية مسيرته مثالياً على الأقل في ثلاث دلالات للكلمة.

أولاً، حتى لو لم يكن كيسنجر مثالياً في ما يتعلق بموروث الرئيس الأمريكي ويلسون، الذي سعى إلى السلام العالمي من خلال القانون الدولي والأمن الجماعي، فإنه لم يكن واقعياً. فقد رفض كيسنجر مثالية ويلسون؛ لأنه شعر بأن تفوقها العقلي كان وصفة لشلل السياسة. وعلى حد تعبيره لصديقه المؤرخ ستيفن جراوبارد، عام 1956، “إن الإصرار على اتخاذ موقف أخلاقي محض يُعَد في حد ذاته أكثر المواقف اللا أخلاقية”، إذا كان ذلك يؤدي في كثير من الأحيان إلى التقاعس.

لكن كيسنجر أدرك أن الواقعية قد تكون أيضاً مشلولة. وبوصفه لاجئاً من ألمانيا تحت حكم هتلر، فقد عاد عام 1944 في زي أمريكي رسمي؛ لكي يلعب دوره في الهزيمة النهائية للنازية، ودفع كيسنجر ثمناً شخصياً للإخفاقات الدبلوماسية في ثلاثينيات القرن العشرين. ومع ذلك، وكما أشار في مقابلة أُجريت معه عام 1957، فإن مهندسي الاسترضاء البريطانيين؛ ستانلي بالدوين، ونيفيل تشامبرلين، “اعتبرا نفسيهما واقعيَّين قويَّين”.

لقاء جيرالد فورد مع الرئيس نيكسون بشأن ترشيحه لمنصب نائب الرئيس في حضور وزير الخارجية كيسنجر ورئيس الأركان ألكسندر هيج- أكتوبر 1973- أرشيف

ثانياً، بعد أن انغمس كيسنجر كطالب في جامعة هارفارد في عمل الفيلسوف إيمانويل كانط، كان مثالياً بالمعنى الفلسفي. وكانت أطروحته العليا غير المنشورة “معنى التاريخ”، نقداً مثيراً للإعجاب بفلسفة التاريخ لدى كانط. وكانت الحجة الرئيسة التي ساقها كيسنجر تتلخص في أن “الحرية هي تجربة داخلية للحياة كعملية لتقرير بدائل ذات معنى”. وقد يكون “السلام الدائم”، في واقع الأمر، هدفاً نهائياً وحتمياً للتاريخ، وكما كتب كيسنجر في أطروحته: “أياً كان تصور المرء حول ضرورة الأحداث؛ ففي لحظة أدائها لا توفر حتميتها أي دليل للعمل.. وبغض النظر عن أي شكل قد نفسر به الإجراءات في وقت لاحق، فإن تحقيقها يتأتى من قناعة داخلية بالاختيار”.

اقرأ أيضاً: عام على الحرب العالمية.. ما الذي يحمي العالم من واحدة مدمرة جديدة؟

ثالثاً، منذ مرحلة مبكرة من حياته المهنية، كان كيسنجر مقتنعاً بمعاداة المادية، ومعادياً للأشكال الرأسمالية للحتمية الاقتصادية تماماً كعدائه للماركسية اللينينية. وقال في أطروحته العليا إنه من الخطر بمكان السماح “لجدال حول الديمقراطية بأن يتحول إلى مناقشة لكفاءة النظم الاقتصادية، والتي هي على مستوى الضرورة الموضوعية، وبالتالي قابلة للنقاش”. وعلى النقيض من ذلك، فإن “الحدس الداخلي للحرية من شأنه أن يرفض الشمولية؛ حتى لو كانت أكثر كفاءة من الناحية الاقتصادية”.

 وهذا الموقف يتناقض تناقضاً صارخاً مع موقف معاصريه؛ مثل الخبير الاقتصادي والمنظر السياسي والت روستو، الذي يعتقد أنه كان من الوارد الفوز بالحرب الباردة منذ وقت طويل عندما كانت معدلات نمو الرأسمالية أعلى من نظيرتها الشيوعية. وكتب كيسنجر في كتاب «ضرورة الاختيار»: “ما لم نكن قادرين على جعل مفاهيم الحرية واحترام الكرامة الإنسانية ذات معنى بالنسبة إلى الدول الجديدة، فإن المنافسة الاقتصادية التي كثر التباهي بها بيننا وبين الشيوعية ستكون بلا معنى”.

كيسنجر لدى وصوله للمشاركة في محادثات باريس عام 1970- “أسوشييتد برس”

وبعبارة أخرى، كان لا بد من الدفاع عن المُثل الديمقراطية الليبرالية؛ من أجل مصلحتها، دون الاعتماد على النجاح المادي للرأسمالية لتعزيز قضيتها. وكان هذا موضوعاً عاد إليه كيسنجر مراراً وتكراراً في الستينيات؛ كمستشار وكاتب خطابات لنيلسون روكفلر، الذي أيَّد محاولاته الثلاث الفاشلة للفوز بترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة.

وكما لاحظ كيسنجر في المجلد الأول من مذكراته، أن “المناصب العليا تعلِّم صنع القرار لا جوهر السياسة.. وإجمالاً، فإن فترة شغل المناصب العليا تستهلك رأس المال الفكري؛ ولا تعززه”. وبما أن كل اهتمام العلماء تقريباً قد تركز على فترة تولي كيسنجر منصبه، فإن رأسماله الفكري الخاص -الأفكار التي طوَّرها بين أوائل الخمسينيات وأواخر الستينيات في جامعة هارفارد، وفي مجلس العلاقات الخارجية، وبالنسبة إلى روكفلر- لم يُدرس بشكل كافٍ.

إن أفكاره التي تُفهم على النحو السليم على أنها نقد مبتكر للسياسة الواقعية، تقدم ما لا يقل عن أربع رؤى أساسية في السياسة الخارجية، والتي من الحكمة أن يدرسها أوباما، ناهيك بخليفته، فهو يرى أن: التاريخ هو المفتاح لفهم المنافسين والحلفاء؛ وعلى المرء أن يواجه مشكلة التخمين بما تنطوي عليه من نتائج غير متماثلة؛ فالعديد من قرارات السياسة الخارجية هي اختيارات بين الشرور، وينبغي للقادة أن يتوخوا الحذر من المخاطر المترتبة على الواقعية الفارغة أخلاقياً.

التاريخ ذاكرة الدول

الرئيس الأمريكي نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر في جلسة عمل 1970- أرشيف

بعد فلسفة المثالية، كان أهم شيء تعلمه كيسنجر في جامعة هارفارد هو مركزية التاريخ؛ لفهم مشكلات الأمن القومي. وقد كتب في أطروحة الدكتوراه التي نُشرت عام 1957 بعنوان «استعادة العالم»: “لا يمكن التوصل إلى استنتاجات مهمة في دراسة الشؤون الخارجية -أي دراسة الدول باعتبارها وحدات- دون وعي بالسياق التاريخي. إن ذاكرة الدول تُعد اختباراً لحقيقة سياستها. وكلما كانت التجربة أبسط، كان تأثيرها أكثر عمقاً على تفسير الأمة للحاضر في ضوء الماضي”.

شاهد: فيديوغراف.. قوى العالم الجديد تعيد صياغة قوانين اللعبة السياسية

وفي المحصلة، يتساءل كيسنجر: “مَن يُنازع الشعوب في تفسيرها لماضيها؟ إنه وسيلتهم الوحيدة لمواجهة المستقبل، وما حدث (حقاً) يكون في كثير من الأحيان أقل أهمية مما يُعتقد أنه قد حدث بالفعل”. وقد “تبدو الدول بالنسبة للعالِم السياسي كعوامل في ترتيب أمني”، وقد تبدو للمحامي أنها طرفان مترادفان في سلسلة لا تنتهي من الدعاوى القضائية الدولية. وفي واقع الأمر، كما كتب كيسنجر، أن كل الدول “تعتبر نفسها تعبيراً عن قوى تاريخية. فالتوازن كغاية ليس ما يهمهم.. بل هو وسيلة لتحقيق تطلعاتهم التاريخية”.

كيسنجر خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده فور اندلاع حرب أكتوبر بين مصر وإسرائيل.. أكتوبر 1973- أرشيف

وهناك فكرة متكررة في كتابات كيسنجر المبكرة ترتبط بالجهل التاريخي لصانع القرار الأمريكي النموذجي. وأشار في عام 1968 إلى أن المحامين هم “أهم مجموعة منفردة في الحكومة؛ ولكن لديهم هذا العائق، وهو النقص في فهم التاريخ”. فبالنسبة إلى كيسنجر، كان التاريخ مهماً بشكل مضاعف: كمصدر للدلالات المضيئة وعامل محدد في الفهم الذاتي الوطني.

وقد يشك الأمريكيون في أهمية التاريخ؛ ولكن كما كتب كيسنجر، “إن الأوروبيين الذين يعيشون في قارة مغمورة بالخراب والتي تشهد على قابلية التبصر البشري للخطأ، يشعرون في أعماقهم بأن التاريخ أكثر تعقيداً من تحليل الأنظمة”. وخلافاً لأغلب الأكاديميين، أدرك كيسنجر في وقت مبكر من حياته المهنية أن القرارات السياسية عالية المخاطر غالباً ما يجب اتخاذها قبل الإلمام بالحقائق كافة. وكما جادل في كتابه «استعادة العالم» أن “الاختيار بين السياسات لا يكمن في الحقائق؛ بل في تفسيرها. وينطوي على ما هو في الأساس فعل أخلاقي: تقدير يعتمد من حيث صحته على مفهوم الأهداف بقدر ما يعتمد على فهم المواد المتاحة”.

اقرأ أيضاً: محطات في تاريخ الوساطة الأمريكية لعملية السلام

وكانت هذه فكرة صاغها كيسنجر في وقت لاحق باعتبارها “مشكلة التخمين في السياسة الخارجية”. وقال في محاضرة ألقاها عام 1963، إن صنع القرار يتطلب القدرة على تجاوز ما هو معروف بالفعل. وعندما يكون المرء في عالم الجديد، يصل إلى معضلة أنه لا يوجد سوى القليل جداً لتوجيه صانع السياسات باستثناء القناعات التي يجلبها إليه ويتعين على كل رجل دولة أن يختار عند مرحلة ما بين رغبته في اليقين أو ما إذا كان يرغب في الاعتماد على تقييمه للموقف. وإذا أراد المرء برهاناً لكل شيء، يصبح إلى حد ما أسيراً للأحداث.

رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين ووزير الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر مع زوجتيهما ليا رابين ونانسي كيسنجر في حفل استقبال في البيت الأبيض.. فبراير 1976- أرشيف

وقال كيسنجر إنه لو تحركت الديمقراطيات ضد النازيين عام 1936 “لما كنا لنعرف اليوم ما إذا كان هتلر قومياً يُساء فهمه، أو ما إذا كان لديه أهداف محدودة فقط، أو ما إذا كان في الواقع مهووساً. لقد علمت الديمقراطيات أنه كان في الواقع مهووساً. وكان لديهم يقين من ذلك، ولكن كان عليهم أن يدفعوا ثمن ذلك ببضعة ملايين من الأرواح”.

وكان لهذه البصيرة آثار عميقة على العصر النووي، حيث كان يمكن أن يبلغ عدد الخسائر المحتملة في حرب عالمية مئات الملايين. وفي عام 1963 أيضاً، وفي ورقة بحثية غير منشورة بعنوان “صنع القرار في عالم نووي”، لخَّص كيسنجر ما سماه “المعضلة الرهيبة” التي تواجه صانع القرار في الحرب الباردة، قائلاً:

لدى كل زعيم سياسي فُسحة الاختيار بين القيام بتقييم يتطلب أقل جهد أو بآخر يتطلب المزيد من الجهد. إذا قام الزعيم بالتقييم الذي يتطلب أقل جهد، ثم مع مرور الوقت ثبت أنه كان على خطأ، فإنه سيضطر إلى دفع ثمن باهظ. وإذا كان قد تصرف على أساس التخمين، فإنه لن يكون قادراً على إثبات أن جهوده كانت ضرورية؛ لكنه قد ينقذ نفسه من قدر كبير من الحزن في وقت لاحق. وإذا عمل على الأمر في وقت مبكِّر، فإنه لا يمكن أن يعرف ما إذا كان من الضروري عليه القيام بذلك أم لا. وإذا انتظر، فإنه قد يكون محظوظًا أو سيئ الحظ.

اقرأ أيضاً: فريد زكريا يُبَشِّر الديمقراطيين بسقوط “المحافظين” وصعود نجم “التقدمية اليسارية”

وتتلخص النقطة الأساسية بشأن مشكلة التخمين في التفاوت بين المكافآت. إن العمل الوقائي الناجح لا يكافأ على نحو يتناسب مع فوائده؛ لأن “السياسات الناجحة، كما كتب كيسنجر، هي التي تنسى الأجيال القادمة مدى السهولة التي كان من الممكن أن تكون عليها الأمور لولا ذلك”. ومن المرجح أن يُدان رجل الدولة الوقائي؛ بسبب التكاليف الأولية المترتبة على الاستباق بدلاً من الثناء عليه؛ بسبب تجنبه للكارثة. وعلى النقيض من ذلك، فإن اللعب من أجل كسب الوقت -الذي يُعد جوهر سياسة الاسترضاء في ثلاثينيات القرن العشرين- ليس من المؤكد أن يؤدي إلى كارثة. وبذل أقل جهد عادةً ما يكون أيضاً خط المقاومة المحلية الأدنى.

أهون الشرور 

في عام 1948، كتب كيسنجر الشاب، في خطاب موحٍ إلى والدَيه: “ليس هناك صواب أو خطأ فحسب؛ ولكن هناك العديد من الظلال بينهما”. وقال: “إن المآسي الحقيقية في الحياة ليست اختيارات بين الصواب والخطأ؛ لأن (الأشخاص الأكثر قساوة هم وحدهم الذين يختارون ما يعرفون أنه خطأ.. والمعضلات الحقيقية هي آلام الروح، وما يثير عذاباتها. وببساطة، فإن أصعب الخيارات في السياسة الخارجية هو بالتأكيد بين الشرور، وبالتالي فإن الفعل الأخلاقي حقاً هو اختيار أهون الشرور (حتى لو كان الخيار الأصعب سياسياً).

المبعوث الأمريكي الخاص –آنذاك- هنري كيسنجر يتناول الطعام على الطريقة الصينية مع رئيس الوزراء تشو إن لاي لدى زيارته إلى بكين في يوليو 1971- أرشيف

وفي عام 1957، في كتابه «الأسلحة النووية والسياسة الخارجية»، على سبيل المثال، جادل كيسنجر بأن الحفاظ على توازن القوى في الحرب الباردة سيتطلب مثل هذه الخيارات الصعبة؛ حيث يقول:

“ومن المؤكد أننا سنواجه حالات من الغموض الاستثنائي؛ مثل الحروب الأهلية أو الانقلابات الداخلية.. ولا شك في أنه ينبغي علينا أن نسعى إلى الحد من مثل هذه الأحداث. ولكن بمجرد حدوثها، يجب أن نجد الإرادة للعمل والمخاطرة في وضع لا يسمح إلا بالاختيار بين الشرور. وفي حين أننا لا ينبغي أبداً أن نتخلى عن مبادئنا، يجب أن ندرك أيضاً أننا لن نتمكن من أن نحافظ على مبادئنا ما لم ننجُ”. 

اقرأ أيضاً: الولايات المتحدة الأمريكية.. دروس أمس من الحرب الباردة ذخيرة لمعركة اليوم مع الصين

إذن يتبلور الأساس الفلسفي لهذا الكتاب على فكرة أن الشيء الذي يبدو بغيضاً، مثل حرب نووية محدودة، قد يكون أهون الشرور إذا كانت البدائل هي الاستسلام أو الإبادة. وفي فصله الأخير، يوضح كيسنجر نظرية عامة عن أهون الشرور يمكن أن تُقرأ على أنها نوع من العقيدة.. يقول:

سيكون من دواعي الارتياح أن نتمكن من حصر أعمالنا في الحالات التي تكون فيها مواقفنا الأخلاقية والقانونية والعسكرية متوائمة معاً، وحيث تكون الشرعية في اتفاق تام مع متطلبات البقاء على قيد الحياة. ولكن بصفتنا أكبر قوة في العالم، فلن تُتاح لنا على الأرجح مرة أخرى الخيارات الأخلاقية البسيطة التي كان يمكن أن نصر عليها في ماضينا الأكثر أماناً.. إن التعامل مع مشكلات بمثل هذا الغموض يستلزم في المقام الأول عملاً أخلاقياً؛ أي الاستعداد للمجازفة استناداً إلى المعرفة الجزئية والتطبيق غير المثالي للمبادئ. فالإصرار على المطلق ما هو إلا وصفة للتقاعس.

وفي وقت لاحق عام 1966، ساق كيسنجر حجة مماثلة بشأن فيتنام، قائلاً: “نحن لا نتمتع بميزة اتخاذ القرار بمجابهة التحديات التي تتفق تمام الاتفاق مع تصوراتنا الأخلاقية المسبقة”. ولكن بحلول ذلك الوقت، كان قد أدرك بالفعل أن الحرب ضد فيتنام الشمالية لا يمكن إنهاؤها إلا بالتفاوض. فقد رأى أن الولايات المتحدة “تفتقر إلى أي مفهوم شامل لتنفيذ العمليات العسكرية ضد العصابات المسلحة، وبناء الدولة”. كما أن تركيبتها من الموارد الوفيرة والبيروقراطية المعقدة كانت غير ملائمة. وكان السلام عن طريق التفاوض أهون الشرور مقارنةً بالتخلي المتسرع عن جنوب فيتنام أو تصعيد إضافي للجهود العسكرية الأمريكية ضد الشمال.

وهم الواقعية

في كتاباته عن مترنيش وبسمارك -الأكثر صراحة في مخطوطة الكتاب الذي لم يكتمل عن الأخير- يوضح كيسنجر أنه يعتبر أن الواقعية البحتة في السياسة الخارجية من المحتمل أن تكون ضارة. حيث كتب في فصل غير منشور عن بسمارك: “إن المجتمعات عاجزة عن التحلي بشجاعة السخرية. وإن الإصرار على الرجال كذرات وعلى المجتمعات كقوى أدى دائماً إلى جولة من القوة أدت إلى تآكل كل مستويات ضبط النفس. ولأن المجتمعات تعمل بطرائق تقريبية، ولأنها غير قادرة على التمييز الدقيق، فإن مبدأ السلطة كوسيلة قد ينتهي بجعل السلطة غاية”.

اقرأ أيضاً: استراتيجية ترامب التجارية: كيف تخسر الأصدقاء؟

ومن المؤكد أن هناك الكثير مما يُعجب كيسنجر في استراتيجية بسمارك. فقد رأى من خلال دراسة بسمارك، الأهمية الحاسمة للعب المتنافسين قبالة بعضهم البعض. وحسب كيسنجر، فإن النظام الأوروبي الجديد الذي تبناه بسمارك توقف بعد توحيد شطرَي ألمانيا عن قدرته على “التلاعب بالتزامات القوى الأخرى؛ حتى تصبح بروسيا دوماً أقرب إلى أي من الأطراف المتنافسة مقارنة ببعضها البعض”.

هنري كيسنجر مع الرئيس آغا محمد يحيى خان.. باكستان يوليو 1971

وعلى وجه الخصوص، أعرب كيسنجر عن إعجابه بالغموض الأنيق في معاهدة إعادة التأمين التي وضعها بسمارك عام 1887 -وهو اتفاق سري تلتزم بموجبه ألمانيا وروسيا بالحياد إذا تورط الطرف الآخر في حرب مع دولة ثالثة، ما لم تهاجم ألمانيا فرنسا أو هاجمت روسيا حليفة ألمانيا النمسا والمجر- التي أدخل التخلي عنها من قبل خلفاء بسمارك الدبلوماسية الأوروبية إلى جمود قاتل.

ولكن كيسنجر زعم في مقالته “الثوري الأبيض” أن بسمارك، مع نظرته الداروينية كأساس للعلاقات الدولية باعتبارها صراعاً غير أخلاقي من أجل البقاء، كان من المحتم أن يفشل في إضفاء الطابع المؤسسي على إنجازاته الجيوسياسية. وتتمثل الإشكالية الرئيسة في عصر الديمقراطية، كما يرى كيسنجر، في أن الناس يميلون إلى تفضيل الزعماء الكاريزميين على رجال الدولة المحنكين. وقد كتب كيسنجر في كتاب «استعادة العالم»، “إن مطالبات القائد الملهم هي مشورة للكمال.. (لكن) اليوتوبيا لا تتحقق إلا بعملية تسوية وتفكك يجب أن تقوِّض جميع أنماط الالتزام.. (بينما) الاعتماد كلياً على النقاء الأخلاقي للفرد هو التخلي عن إمكانية ضبط النفس”.

اقرأ أيضاً: ماذا لو عادت دول الاتحاد السوفييتي إلى الوحدة مجدداً؟

وفي مواجهة القائد الملهم، انحاز كيسنجر إلى جانب رجل الدولة، الذي “يتعين عليه أن يظل متشككاً إلى الأبد في هذه الجهود؛ ليس لأنه يستمتع بالتركيز على صغائر الأمور، ولكن لأنه يجب أن يكون مستعداً لأسوأ حالات الطوارئ”. حيث إن جزءاً من مأساة رجل الدولة هو ضرورة أن يكون دوماً في جانب الأقلية، غير أن “التوازن ليس هو الذي يلهم الناس؛ بل هو ما يلهم مبدأ العالمية، كما لا ينشغل بالأمن بل بالخلود”.

عرض السبعينيات المستمر

كيسنجر مع السادات خلال محادثات وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل 1973- أرشيف

من نواحٍ كثيرة، أظهرت تجربة كيسنجر في الحكم هذه النقطة الأخيرة بشكل جيد للغاية. وعلى الرغم من أن الصحافة كانت تروج له في مستهل الأمر باعتباره “سوبر مان”، فقد أصبح في وقت لاحق هدفاً لهجمات لاذعة من جانب اليسار واليمين على حد سواء، فاتهمه الأول بارتكاب جرائم حرب في العالم الثالث، واتهمه الأخير بالرضوخ للكرملين. وربما نتيجة لهذا، لا يوجد دليل يُذكر على أن رؤى كيسنجر في السياسة الخارجية قد أُضفي عليها الطابع المؤسسي أو حتى حُفظت في الذاكرة.

وكتب كيسنجر في مقالة نُشرت عام 1968: “ليس هناك ما يُسمى بالسياسة الخارجية الأمريكية”. هناك فقط “سلسلة من التحركات التي أسفرت عن نتيجة معينة ربما لم يكن من المخطط لها أن تنتج”،وتحاول “المنظمات البحثية والاستخبارات، سواء الأجنبية أو الوطنية، أن تضفي عليها صفة العقلانية والاتساق..وهي أمور، ببساطة، ليست من سماتها”. وهذا يمكن أن يُقال اليوم بالقدر نفسه أيضاً، وبعد أكثر من أربعين عاماً.

اقرأ أيضاً: الحرب المحتمة.. هل تنجح الولايات المتحدة والصين في تجنب مصيدة ثيوسيديدس؟

فقد كان تفسير كيسنجر للافتقار إلى التماسك الاستراتيجي نابعاً من أمراض الديمقراطية الحديثة. وعلى عكس قادة القرن التاسع عشر، أوضح الرجل أن “القائد السياسي النموذجي للمجتمع الإداري المعاصر هو رجل لديه إرادة قوية، وقدرة عالية على الحصول على ناخبين؛ لكنه لا يملك تصوراً عظيماً لما سيفعله عندما يصل إلى منصبه”. ومرة أخرى، بوسعنا أن نقول الشيء نفسه اليوم.

هنري كيسنجر خلال لقائه شاه إيران محمد رضا بهلوي في زيوريخ.. فبراير 1975- أرشيف

إن أوباما ومستشاريه لا يميلون تاريخياً إلى هذا. وفي واحدة من أكثر الملاحظات حضوراً في الذاكرة من الحملة الانتخابية الرئاسية لعام 2012، سخر أوباما من وصف منافسه الجمهوري ميت رومني لروسيا باعتبارها “عدونا الجيوسياسي الأول”. ولكن بعد 17 شهراً فقط، ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، ضاربةً عرض الحائط بالقانون الدولي. وسرعان ما أصبح تباهي أوباما، في يناير 2014، بأنه لم يكن “حقًا يحتاج إلى جورج كينان الآن” أجوف.

 ولكن ربما لم تكن فترة الثمانينيات هي التي بدأت تلوح في الأفق بل فترة السبعينيات. ففي ذلك الوقت، وكما هي الحال الآن، تعرض الاقتصاد الأمريكي إلى صدمة شديدة، خلَّفت أثاراً قوية. وكانت صدمة النفط في عام 1973 مماثلة للأزمة المصرفية عام 2008. وعلى غرار ريتشارد نيكسون، ورث أوباما حرباً لم تكن خاسرة من الناحية العسكرية؛ ولكنها أصبحت غير شعبية على الإطلاق في الداخل. فقد كان العراق فيتنام هذا الجيل، إلا أنه بفضل الطفرة التي عززها قادة مثل ديفيد بترايوس وستانلي ماكريستال، ورث أوباما الحرب التي كان يتم الفوز بها.

وعلى غرار نيكسون أيضاً، يواجه أوباما روسيا التي تهتم أقل بكثير بالعلاقات الودية مما تدعي في بعض الأحيان: فمن السهل أن ننسى أن الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف، في أوج شبابه، كان شخصية شبيهة ببوتين، عازماً على السلطة ليس فقط في الفناء الخلفي لروسيا؛ بل في جميع أنحاء العالم.ومثل نيكسون، يجد أوباما أن كلاً من حلفائه الأوروبيين والآسيويين من الصعب للغاية إدارتهم.

هيلاري كلينتون وكيسنجر في حفل توزيع جوائز المجلس الأطلسي للقيادة المتميزة 2013- وكالات

إن الأوروبيين الغربيين اليوم ينفقون على الدفاع باعتباره حصة من دخلهم القومي أقل مما كانوا ينفقون في السبعينيات. وقد نسوا القول المأثور القديم الذي يقوله كيسنجر إنه “كلما كان تصور السلام على أنه تجنب للحرب هو الهدف الرئيس لقوة أو مجموعة من القوى، فإن النظام الدولي يكون تحت رحمة أكثر أعضاء المجتمع الدولي قسوة”.

وفي الوقت نفسه، يسير الآسيويون في الاتجاه المعاكس؛ حيث يطورون استراتيجياتهم العسكرية الخاصة للتعامل مع صعود الصين اعتقاداً منهم بأن ما يُسمى بمحور أوباما نحو آسيا هو محور زائف. والشرق الأوسط هو على الأقل مثل برميل بارود كبير الآن كما كان عندما كان كيسنجر في منصبه. وعلى الرغم من كل ما يمكن للمرء أن يجادل به بشأن السياسات الخارجية لإدارات نيكسون وفورد؛ فإنه لا يمكن إنكار أنه بحلول بداية مسيرته كمستشار للأمن القومي الأمريكي، كان كيسنجر على الأقل قد وضع إطاراً استراتيجياً يمكن من خلاله معالجة التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة، وكان كل عنصر من مقومات تلك الاستراتيجية يقوم على المبادئ الأربعة المذكورة هنا.

اقرأ أيضاً: المنافسة بين الولايات المتحدة والصين.. حرب باردة من نوع جديد

إن الاستراتيجية التي بدأ كيسنجر في استنباطها منتصف الستينيات، كانت لها 3 عناصر متميزة. أولاً، سعى إلى إحياء التحالف عبر الأطلسي مع أوروبا الغربية. وللتصدي للقوى الاستباقية القوية المتمثلة في التكامل الأوروبي الغربي والسياسة الألمانية الغربية، كما حاول إحياء العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى الثلاث: فرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة. ثانياً، سعى إلى وضع مفهوم الانفراج من خلال البحث عن فرص للتعاون بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي؛ خصوصاً في مجال تحديد الأسلحة الاستراتيجية، من دون التخلي عن المبدأ الأساسي الذي يقضي بمقاومة التوسع السوفييتي واحتواء القوة السوفييتية.

دعا الرئيس ترامب الصحافة إلى المكتب البيضاوي لحضور لقائه مع ضيفه هنري كيسنجر 2017- وكالات

والأهم من ذلك، أنه بدأ في إدراك أنه على الرغم من طابعها الثوري الواضح، فإن جمهورية الصين الشعبية قد تدخل في ميزان القوى، وأن العداء الصيني السوفييتي يمكن استغلاله من خلال تقريب الولايات المتحدة من كل طرف من الأطراف المتنافسة أكثر من تقاربها بعضها من بعض. ولطالما وجد منتقدو كيسنجر أن التكتيكات التي استخدمها في تنفيذ هذه الاستراتيجية كانت معيبة؛ خصوصاً في البلدان التي اعتبرها ذات أهمية ثانوية. لكنهم لم يستطيعوا أن ينكروا وجود مفهوم استراتيجي. واليوم، نرى ثمار ما يقرب من 7 سنوات دون هذا المفهوم.

اقرأ أيضاً: جائحة فيروس كورونا ستغيِّر النظام العالمي إلى الأبد

لقد استهان صناع القرار السياسي الأمريكي (ليس فقط في الإدارة الحالية) لفترة طويلة بأهمية التاريخ في فهم الأمم لذاتها. وفي قرار تلو الآخر، فشلوا في إدراك أهمية مشكلة التخمين أو التنبؤ، فأحياناً يقللون من شأن فوائد السياسات الاستباقية، وأحياناً يقللون من شأن تكلفة التقاعس عن العمل.وقد تهربوا من الخيارات الصعبةبين الشرور غير المتكافئة، وخلف ستار من الخطب الرنانة، مارسوا واقعية مستهترة تفتقر دوماً إلى الشرعية في الداخل والخارج.

ولكل هذه الأسباب، تجد الولايات المتحدة نفسها في فوضى استراتيجية كبيرة كما كانت في نهاية عام 1968. وبالتالي هناك حاجة ماسة إلى نهج كيسنجري؛ ولكن يتعين على صناع القرار السياسي في البداية -والجمهور- فهم معنى كيسنجر.

♦أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد وكبير زملاء معهد هوفر، ومؤلف كتاب تحت الطبع بعنوان «كيسنجر المثالي».

المصدر: فورين أفيرز

 اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة