الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةمقالات
معركة الموجات الإذاعية في العالم العربي خلال الستينيات

د. دينيس ساموت

لعب ظهور راديو الترانزستور الرخيص وتوافره لأعداد كبيرة من المستعمرين في الخمسينيات، دورًا كبيرًا كسلاح في الحروب الاستعمارية في ذلك الوقت. وفي السنوات الأخيرة للإمبراطورية أصبح البث الإذاعي أداة سياسية بالغة الأهمية في نضال القوميين العرب ضد بريطانيا وفرنسا. وكان له تأثير بالغ الأهمية على شبه الجزيرة العربية؛ حيث تورطت بريطانيا في حرب شاملة لمكافحة التمرد في جنوب شبه الجزيرة العربية وفي حرب سرية في اليمن؛ في محاولة منها للحفاظ على وضع يعطيها الأفضلية في منطقة الخليج.
وقد بلغت لحظات مجد الراديو كسلاح في الصراع المندلع ذروتها في ستينيات القرن العشرين. ولعل فهم تأثير الإذاعة والدور الذي كانت تلعبه في ذلك الوقت يساعد على فهم أفضل لدور وسائل التواصل الاجتماعي في نزاعات القرن الحادي والعشرين وتأثيرها على الاضطرابات السياسية، مثلما ينطبق على الربيع العربي.
اقرأ أيضًا: محطات في حياتي مع الراديو
الإذاعة والصحوة القومية
خلال الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية وفي أثنائها، تنافست بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا بشكل خاص على العدد المحدود من المستمعين بين السكان المحليين، وسرعان ما انتقلت من البث باللغات الأوروبية فقط إلى البث باللغات المحلية. وعلى الرغم من أن الاستقبال كان متقطعًا في كثير من الأحيان؛ فإن السلطات الاستعمارية المحلية راقبت عن كثب مَن يستمع وإلى ماذا يستمع.
في الجزائر مثلًا وبحلول عام 1935، أجبرت الشائعات حول التجسس الإذاعي والدعاية التخريبية المتداولة عبر البيروقراطية الاستعمارية الجزائرية الحاكم العام “جول كارد” على إنشاء وحدة مراقبة لرصد مبيعات أجهزة الراديو، والتحقيق في عادات الاستماع، وتقييم آثار الدعاية الإذاعية على “عقلية السكان المحليين”.

ثم بدأ الوضع يتغير بعد وقت قصير من انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ بسبب كلٍّ من التغييرات السياسية والتقدم التقني، حيث بدأت سلسلة محطات البث الإذاعي تزداد اتساعًا وتشمل أيضًا محطات إذاعية غير أوروبية. وبعد الحرب، استخدم بعض الحكومات العربية البث الإذاعي لإيصال رسالته؛ لكنه كان جهدًا واهيًا وذا أثر ضعيف. وقد تغير هذا الوضع بشكل كبير بعد الثورة المصرية في عام 1952. وإدراكًا من القادة المصريين الجدد لقوة خطاب عبدالناصر، حرصوا على ضمان الاستماع إليه من قِبَل أكبر عدد ممكن من الجمهور.
وربما لم يكن الأثر الكامل لـ”المفردات الجديدة” التي التقطها عديد من العرب من الراديو مفهومًا تمامًا بعد؛ لكن سرعان ما أصبحت الإذاعة أداةً رئيسيةً في الصراع الدائر بين الإدارات الاستعمارية والقوميين. وما أدهش القوميين هنا أنهم وجدوا أنفسهم على ساحة أكثر تكافؤًا من جبهات القتال الأخرى. حيث كانت تقنية الإرسال جديدة ومتاحة لمَن يستطع دفع ثمنها.

وقد قررت حكومة المحافظين البريطانية بعد استبعادها من منطقة قناة السويس من قِبَل الناصريين، تطوير عدن كمركز جديد للقوة البريطانية في الشرق الأوسط. وفي أثناء هذه العملية تورطت بريطانيا في حرب تمرد فوضوية أخيرة في جنوب شبه الجزيرة العربية؛ حيث أصبحت البرامج الإذاعية جزءًا أساسيًّا من هذه الحرب التي استمرت بين عامَي 1955 و1967.
وبشكل ما أصبحت الإذاعة في الخمسينيات أداة اختراق فعالة على نحو استثنائي، وقادرة على الوصول إلى جماهير كبيرة في أجزاء مختلفة من العالم في وقت واحد، على الرغم من أنه كانت لديها أيضًا بقع عمياء لم تكن تتمكن من الوصول إليها؛ لأسباب تقنية على الأغلب. ومن السمات المهمة لمعركة موجات الإذاعة التي دارت في الخمسينيات والستينيات بين “الإمبرياليين” و”القوميين” أنه على خلاف مجالات أخرى عسكرية ودبلوماسية ومالية واقتصادية، كانت المعركة تخاض على ساحة أكثر مساواة.

وبحلول عام 1960، كان الفرنسيون قد حظروا الاستماع العلني إلى البث الإذاعي؛ بل وحتى بيع البطاريات، وبدؤوا في التشويش على الأصوات الناطقة باللغة العربية في تونس والرباط ودمشق والقاهرة والجزائر، كما في جنوب شبه الجزيرة العربية وغيرها من المناطق. وما كان يُنظر إليه في بادئ الأمر على أنه أداة يمكن للسلطة الحضرية أن تؤثر من خلالها على النخب المحلية أولًا ثم على السكان المحليين بشكل عام، تحوَّلت الموجات الإذاعية إلى ساحة جديدة للمواجهة بين القوى الاستعمارية والمعارضين.
وبعد عام 1962، تورَّطت بريطانيا أيضًا في حرب سرية ضد الحكومة الجمهورية الجديدة في اليمن. ومن ناحية أخرى في الخليج، أراد البريطانيون تأمين مصالحهم الاقتصادية والمالية من خلال قادة محليين. وأصبحت الإذاعة أداة مهمة لأولئك الذين أيدوا المشروع البريطاني والذين عارضوه. كما اتخذت معركة موجات الإذاعة أبعادًا صار يُنظر إليها على أنها لا تقل أهمية عن السيطرة على شوارع عدن والبحرين.
اقرأ أيضًا: الراديو.. رحلة قرن وأكثر
صوت العرب
تزامن إطلاق برنامج القاهرة الإذاعي “صوت العرب” في 4 يوليو عام 1953، مع تغيُّرات مهمة في العالم العربي، ويعتبر أول التصدعات في الهيمنة الإنجليزية- الفرنسية على المنطقة. وسرعان ما تحول البرنامج الذي بدأ كبرنامج يومي مدته نصف الساعة إلى عملية بث كاملة ومدعومة جيدًا وذات رسالة قومية متشبعة ببرامج الثقافة العربية والموسيقى الشعبية، فضلًا عن قوة وموقع أجهزة الإرسال الخاصة بها، والتي جعلت استقبالها بجودة أفضل بكثير من منافسيها، فتحولت “صوت العرب” إلى نجاح فوري.
أصبحت “صوت العرب” أداةً فعالة للغاية في تحريض الشارع العربي؛ حيث يمكن الاستماع إلى الشعارات الحماسية، مثل “شعب واحد لا شعبين، من مراكش للبحرين” في المساء على الراديو، ليتم تكرارها في مظاهرات الشوارع صباح اليوم التالي في عدن وعمان والجزائر؛ ما جعل عبدالناصر يبدو كأنه رجل خارق يستطيع، بخطاب واحد، أن يجعل العالم العربي بكامله يتحرك بناءً على طلبه.

وبعد الثورة اليمنية عام 1962، انضمت إذاعة صنعاء إلى الجوقة ببث برامج موجهة بشكل رئيسي إلى عدن وجنوب شبه الجزيرة العربية، وبحلول أوائل الستينيات كانت معركة كسب القلوب والعقول من خلال الموجات الإذاعية محتدمةً على قدم وساق. وحتى هذه اللحظة كانت إذاعة القاهرة (المعروفة رسميًّا باسم هيئة البث من الجمهورية العربية المتحدة) تبث برامجها بـ31 لغة، على الرغم من أن برنامجها الرئيسي ظل هو “إذاعة صوت العرب” الذي يبث على الموجة المتوسطة 604 كيلوهرتز.

وبحلول أوائل الستينيات، بلغ القلق البريطاني من البث الإذاعي للقاهرة وصنعاء مستويات شبه جنونية. وجرى رصد البث الإذاعي وتوزيع تقارير الرصد على المسؤولين الرئيسيين؛ فعلى سبيل المثال في 19 فبراير 1964، أبلغ كينيدي تريفاسكيس، المفوض السامي في عدن، وزير الدولة للمستعمرات، أن إذاعة “صوت العرب” (شجبت في 11 فبراير، في تعليق لها “الأنشطة الإجرامية” لاتحاد جنوب الجزيرة العربية وقالت إن “الرجال الأحرار” مصممون على “استعادة حقوقهم المغتصبة بقوة الحديد والنار”). وبعد ذلك ببضعة أيام، ذكر في تقرير مماثل أن “إذاعة القاهرة وإذاعة صنعاء واصلتا هجماتهما الشخصية على رئيس الوزراء وعلى أحد كبار الأعضاء العرب في الفرع الخاص، كما كثفتا من تحريضهما العام على العنف”.
حاولت الحكومة البريطانية المقاومة، ليس فقط من خلال التشويش على إذاعة “صوت العرب” وتعزيز بث هيئة الإذاعة البريطانية باللغتَين الإنجليزية والعربية؛ ولكن أيضًا من خلال إنشاء محطات إذاعية في المنطقة، أولًا في عدن ثم في الشارقة. وقد تحقق أكبر تقدم لها بافتتاح محطة التتابع الشرقية مع جهاز إرسال بطاقة 1500 كيلوواط في جزيرة مصيرة بسلطنة عُمان في 1 يونيو 1969. كما استحوذت هيئة الإذاعة البريطانية في ذلك الوقت على عدة أجهزة إرسال جديدة تعمل على الموجات القصيرة في قبرص.

وفي الخليج، أسَّس البريطانيون إذاعة “صوت الساحل” عام 1966، كجزء من استراتيجية “التصدي لاختراق الجامعة العربية لمنطقة الساحل المتصالح”. وعلى الرغم من أن عبدالناصر كان يجسد الخطر الذي يهدد المصالح البريطانية في جنوب الجزيرة العربية وعدن؛ فإنه تم النظر في دول الخليج المتصالحة إلى هذا التهديد على أنه يأتي من جامعة الدول العربية. وقد بدأت جامعة الدول العربية في هذه الفترة تبدي اهتمامًا بالمنطقة، ووعدت بتقديم المساعدة الاقتصادية لتطوير ممالك المشايخ.
اقرأ أيضًا: قبل عبدالناصر بسنوات طويلة.. كيف ومتى نشأت القومية العربية؟
وبمجرد انسحاب البريطانيين من الخليج في ديسمبر 1971، لم تعد للإذاعة مهمة سياسية؛ لكن ظلت لسنوات عديدة مصدرًا للترفيه للجمهور الخليجي. في الواقع أن قصة البث الإذاعي بالنسبة إلى شبه الجزيرة العربية في الستينيات تشكل جزءًا لا يتجزَّأ من قصة نهاية الحقبة البريطانية في المنطقة. وكان ذلك في وقت بلغت فيه أهمية الإذاعة كوسيلة للاتصال ذروتها؛ ليحل محلها التليفزيون بعد فترة وجيزة.
د.دينيس ساموت: مدير مؤسسة لينكس (للحوار والتحليل والبحوث) ومراقب ومعلق متخصص في الشؤون الخليجية.
للاطلاع على الدراسة كاملة باللغة الإنجليزية يُرجى الضغط هنا