الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربيةمعاوية بن أبي سفيانمقالات
معاوية بن أبي سفيان.. نظرة أخرى (9)
معاوية في الوثائق والنقوش: نجح في الإدارة والتزم بقوانين الحرب

كيوبوست
تيسير خلف♦
مقالنا التاسع والأخير في هذه السلسلة؛ يتناول المعطيات الآثارية، والوثائق المكتوبة المتعلقة بمعاوية بن أبي سفيان، وماذا يمكن أن تضيف إلى معلوماتنا عن هذه الشخصية التاريخية التي يتفوق حضورها في المصادر المسيحية المعاصرة لحقبة صدر الإسلام، على حضور أية شخصية أخرى من العرب المسلمين.
في الإدارة
يقول البلاذري في فتوح البلدان إن القراطيس (أي ورق البردي) كانت تدخل بلاد الروم من أرض مصر.. فكان عبدالملك بن مروان أول مَن أحدث الكتاب الذي يكتب في رؤوس الطوامير من “قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ” وغيرها من ذكر اللَّه.
والحقيقة أن معاوية بن أبي سفيان هو الذي استن هذا التقليد قبل عبدالملك، والدليل على ذلك بردية عثر عليها في جنوبي فلسطين، في مدينة ألوسا القديمة، المعروفة باسم الخلصة. والطومار هو تعريب للكلمة اليونانية توماريوس؛ والتي تعني الجزء أو الفصل، ثم صار يعني الأوراق الرسمية التي تصدر عن الحاكم الأموي أو عماله في الأقاليم، وكانت ثمة ترويسة معينة من الصعب تزويرها، تتضمن آيات قرآنية واسم الأمير الأموي الحاكم، باللغتَين اليونانية والعربية.

فشل سك العملة
تذكر الحوليات المارونية أن معاوية “قام بسك عملات الذهب والفضة، ولم تقبل لعدم وجود صليب عليها”. وهذا الخبر يفسر جملة من المعطيات التي شغلت الباحثين والآثاريين، وحتى هواة الغرائب. في ما يتعلق بمتخصصي تاريخ المسكوكات، يفسر خبر الحوليات المارونية قصة العثور على الدينار الأموي الذهبي العائد إلى زمن معاوية بلا صلبان وعليه عبارة “لا إله إلا الله محمد رسول الله”. وفي هذا تأكيد فشل محاولة معاوية سك عملة إسلامية؛ بسبب الإعراض عنها، وعدم تداولها من جانب السكان المسيحيين.
وهذا الخبر يجلي أيضاً الغموض واللغط اللذين دارا حول الرموز الساسانية على العملات المنسوبة إلى معاوية والمسكوكة في الجزء الشرقي من الإمبراطورية الإسلامية؛ حيث شطح الخيال ببعض الباحثين والهواة إلى اعتبار أن هذه العملات قرائن لا يعتريها الشك على أن معاوية كان والياً فارسياً ساسانياً!

نقوش التشييد والترميم
تثبت نقوش التشييد والترميم التي يرد فيها اسم معاوية؛ أنه قام بأعمال إنشائية مهمة، من قبيل بناء سدَّين؛ واحد بشرقي المدينة المنورة عام 50 للهجرة، وآخر في الطائف عام 58 للهجرة، وكذلك ترميم حمامات جدارة في هضبة الجولان، وإنشاء عمارة عسكرية في موقع الأندرين قرب السلمية في البادية السورية.
بلغ طول سد المدينة المنورة ثلاثين متراً، وعرضه عشرة أمتار، وارتفاعه عشرين متراً. وموقعه الآن يبعد عن المدينة بأربعين كيلومتراً تقريباً، باتجاه الشرق في وادي الخنق. أما سد الطائف فيقع على بعد اثني عشر كيلومتراً جنوبي شرق الطائف؛ حيث بلغ طوله ثمانية وخمسين متراً، وعرضه أربعة أمتار، وارتفاعه ثمانية أمتار ونصف المتر.
وهذه السدود تؤكد عناية معاوية باستصلاح الأراضي وتنظيم الري وتشجيع الزراعة؛ وهي من أسس الاستقرار والعمران. أما ترميم حمامات جدارا في جنوبي الجولان، فهي تقع أيضاً في صنف الخدمات العامة التي يستفيد منها الناس، علماً بأن حمامات جدارا المعدنية كانت قد تخربت بفعل الزلازل منذ بدايات العصر البيزنطي، وهجرت بسبب معتقدات مسيحية بأنها كانت ترتبط بطقوس وثنية. وإعادة تأهيلها تؤشر على استقرار ورغد عيش لا شك فيهما.

نقش قبرص وقانون الحرب
عثر في الجزيرة قبل أعوام على نقش يؤكد أخبار الحملتَين اللتين وجههما معاوية إلى جزيرة قبرص، ويحدد النقش تاريخهما بعام 649 وعام 650 للميلاد؛ أي 28 و29 للهجرة، وهي تواريخ تتوافق مع الرواية الإسلامية والمسيحية، وتؤكد الأخبار التي وردت في التواريخ السريانية عن حملتَين؛ واحدة بقيادة معاوية، والثانية بقيادة أبي الأعور السلمي، بعد أن نقض القبارصة عهدهم لمعاوية.
وجاء في النقش الذي عثر عليه في مدينة سولوي شمالي غربي جزيرة قبرص، أنه في عام 649 ميلادية، حدثت الغارة على الجزيرة، التي تسببت فيها خطايانا؛ قُتل العديد من القبارصة، وتم اقتياد نحو 120.000 منهم كأسرى. في العام التالي، تعرضت الجزيرة إلى هجوم أسوأ من المرة الأولى؛ حيث مات أكثر بكثير من ذي قبل بالسيف، وتم اقتياد 50000 منهم كأسرى.
ويوضح كتاب تاريخ وضعه البطريرك السرياني ديونيسيوس التلمحري، الذي أخذ معلوماته من المؤرخ ثيوفيل الرهاوي، أن معاوية الذي جمع آلاف الجنود من الشام والإسكندرية، على متن 1700 سفينة، أوقف السفن في البحر، وأعطى الأمان لأهل الجزيرة؛ لكنهم امتنعوا، فأخذت الجزيرة عنوة؛ أي غنائم وأسرى. ثم يقول إن أهل الجزيرة أخلُّوا بالاتفاق، فعاد إليهم أبو الأعور السلمي وأخرج الأشخاص الذين استوطنوا بها، وهم من الجنود الروم، ونهب الجزيرة كلها.
وهذا النقش والخبر في المصادر المسيحية يؤكدان أن معاوية بن أبي سفيان، رغم القسوة الظاهرة في صيغة النقش، كان ملتزماً بقوانين الاشتباك والحرب الإغريقية والرومانية؛ وهي قوانين كانت سائدة في عموم منطقة حوض المتوسط منذ القرن الرابع قبل الميلاد، وتتلخص بما يلي: عدم الهجوم غيلة؛ أي منح المدينة التي تتعرض إلى الهجوم فرصة الاستسلام أو التسوية. وعند الرفض يتم الهجوم وتكون المدينة إن فتحت عنوة ملكاً مستباحاً للجيش المهاجم، وهو مَن يقرر العفو أو تطبيق القوانين.
♦كاتب سوري
لقراءة الحلقة السابقة: معاوية بن أبي سفيان.. نظرة أخرى (8)