الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربيةمعاوية بن أبي سفيانمقالات
معاوية بن أبي سفيان.. نظرة أخرى (8)
حصار القسطنطينية تتويج لمسيرة مظفرة أم دعاية للوريث؟!

كيوبوست
تيسير خلف♦
يمر خبر حصار قوات معاوية بن أبي سفيان القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، في المصادر العباسية، مرور الكرام؛ فهو لا يستحق من جانب المؤرخ خليفة بن خياط العصفري (777م- 855م)، أكثر من سطر واحد: “وفيها غزا يزيد بن معاوية أرض الروم، ومعه أبو أيوب الأنصاري”. وبينما يتجاهله الواقدي (747- 823م)، واليعقوبي (820- 897م)، يذكره الطبري (839- 923م) بسطرَين لا أكثر؛ حيث يقول في أحداث سنة 49 هجرية: “وفيها كانت غزوة يزيد بن معاوية الروم؛ حتى بلغ قسطنطينية، ومعه ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري”.
ويظهر هذا الحدث الكبير والمفصلي في باقي المصادر التاريخية والأدبية العباسية كتفصيل صغير في ترجمة الصحابي أبي أيوب الأنصاري الذي توفي في القسطنطينية أثناء الحصار، ودفن بالقرب من إحدى بواباتها، حسب تأكيد جميع الذين وثقوا لحياته.
ويعد كتاب تاريخ أبي زرعة الدمشقي (المتوفى سنة 895 ميلادية)، على اختصاره، المصدر العربي الوحيد الذي تناول هذا الحدث بشيء من التفصيل، وذكر تأريخاً دقيقاً لبدء الحملة، نقلاً عن محدث كبير وثقة هو سعيد بن عبدالعزيز التنوخي الدمشقي، (709- 780م)، المعاصر لنهايات الدولة الأموية وبدايات الدولة العباسية؛ حيث يقول: “فأغزا معاوية الصوائف وشتاهم بأرض الروم، ست عشرة صائفة تصيف بها، وتشتوا، ثم تقفل وتدخل معقبتها، ثم أغزاهم معاوية ابنه يزيد في سنة خمس وخمسين، في جماعة من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في البر والبحر، حتى جاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها، ثم قفل”. وخبر سعيد بن عبدالعزيز هذا يتفق مع معظم المصادر غير الإسلامية التي حددت تاريخ بدء الحصار ومدته بين خمس سنوات وسبع.

عند أبواب القسطنطينية
في كتاب المؤرخ البيزنطي ثيوفانيس (752-818م)، تفاصيل مهمة في أحداث عام 674 التي تتوافق مع عامَي 54 و55 الهجريَّين؛ إذ يكتب أن الأسطول العربي الذي غادر قواعده من شرقَي بحر إيجة ودخل بحر مرمرة، قد رسا في شهر نيسان/ أبريل على شاطئ تراقيا (أي الساحل الأوروبي من بحر مرمرة) بالقرب من الهيبودروم، (وهي المنطقة التي تُسمى الآن بكركوي من أحياء إسطنبول). ويقول إنهم اشتبكوا مع البيزنطيين حتى شهر أيلول/ سبتمبر، بقتال يومي بين كر وفر، من الصباح حتى المساء، عند البوابة الذهبية للمدينة، (تقع اليوم في حي سماطيا، من أحياء إسطنبول)، وعند بوابة كيكلوبيون، (في الحي المعاصر المسمى حالياً “زيتون بورنو”، في أقصى غرب القسطنطينية القديمة داخل السور)”.
ويقول ثيوفانيس إن العرب اتخذوا جزيرة سيزيكوس مقراً لهم، وأقاموا فيها معسكراً دائماً لقضاء الشتاء طوال مدة الحصار. وجزيرة سيزيكوس هي الآن جزيرة متصلة بالبر، وربما تسببت بذلك الزلازل، وهي تقع في منتصف شاطئ مرمرة الأناضولي.

الحوليات المارونية
وتعد مخطوطة الحوليات المارونية المكتوبة بالسريانية المصدر الأعلى قيمة في أخبار هذه المرحلة، كونها كتبت أثناء وقوع الأحداث، وزودتنا بتفاصيل مهمة عن الحصار والاشتباكات بشكل يوحي بأن كاتبها أحد شهود العيان. وتقول هذه المخطوطة: “صعد يزيد بن معاوية مرة أخرى بجيش عظيم نزل في تراقيا، وهناك تفرق العرب بغرض النهب، تاركين أجراءهم وأبناءهم لرعي الماشية وأخذ أي شيء في طريقهم. ولما رآهم الجنود المرابطون على الأسوار خرجوا وأغاروا عليهم وقتلوا عدداً كبيراً من الشبان والأجراء وبعض العرب أيضاً. ثم انتزعوا الغنائم منهم ودخلوا إلى المدينة”.
وتضيف الحوليات المارونية: “في اليوم التالي، اجتمع كل شباب المدينة سوياً، جنباً إلى جنب مع الذين أتوا للاحتماء بالمدينة، وعدد قليل من الرومان، وقالوا: (دعونا نغير عليهم). لكن الملك قسطنطين قال لهم: لا تفعلوا، ليس هجومكم السابق معركة انتصرتم فيها؛ فكل ما فعلتموه هو عملية سطو عادية. لكنهم رفضوا الاستماع إليه. وبدلاً من ذلك، خرج عدد كبير منهم مسلحين يرفعون لافتات ورايات عالية على طريقة الرومان. وفور خروجهم أغلقت البوابات، ونصب الملك خيمة على السور؛ ليتمكن من مراقبة ما يجري. قام العرب باستدراجهم متراجعين لمسافة بعيدة عن السور؛ كي لا يتمكنوا من العودة سريعاً عند هروبهم. وجلسوا على الأرض. وعندما وصلوا إليهم، نهض العرب على أقدامهم وصاحوا بلغتهم الله أكبر. وعلى الفور انهزموا فارين. وطاردهم العرب حتى أدركوهم فقتلوهم وأسروا مَن بقي منهم حتى حد المكان الذي كانت منجنيقات الأسوار تصل إليه”. وتقول الحولية المارونية: “من شدة غيظه منهم تردد الملك قسطنطين في فتح البوابات لهم؛ مما أدى إلى قتل بعض هؤلاء بسهام العرب”.
خلاصة
لا تزال مسألة حصار القسطنطينية موضع تنازع بين الطوائف الإسلامية المتقاتلة على التاريخ وشخصياته. ففي حين يرى بعض دعاة السُّنة أن هذا الحصار هو تحقيق لبشارة الرسول الكريم بفتح القسطنطينية، في محاولة منهم لرفع شأن معاوية وابنه يزيد من الناحية الدينية، نجد أن دعاة من السُّنة وجميع دعاة الشيعة يقللون من شأن هذا الحصار، ويعدونه حدثاً استعراضياً لا قيمة له، هدفه تسويق صورة يزيد بوصفه وريث والده في الحكم. وهذا النزاع المتشنج بعيد كل البعد عن الجهود الأكاديمية الغربية، التي تحاول اليوم قراءة تلك المرحلة اعتماداً على المصادر المبكرة من جهة، والمكتشفات الأثرية الجديدة من جهة أخرى؛ وهو ما سنناقشه في الحلقة القادمة والأخيرة من هذه السلسلة.
♦كاتب سوري
لقراءة الحلقة السابقة: معاوية بن أبي سفيان.. نظرة أخرى (7)