الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربيةمعاوية بن أبي سفيانمقالات

معاوية بن أبي سفيان.. نظرة أخرى (7)

كارثة خلقيذونية بين تخاذل يزيد وغضب الرب

كيوبوست

تيسير خلف♦

تغيب عن السرديات التاريخية العربية الإسلامية أخبار “حملة خلقيذونية”؛ التي أعد لها معاوية بن أبي سفيان طويلاً، وأرادها أن تكون معركة حاسمة لفتح القسطنطينية ووضع حد للإمبراطورية البيزنطية. مقابل غنى بتفاصيلها في المصادر السريانية والرومية والأرمنية، يسمح لنا ببناء تصور شبه كامل لهذه الحملة وما حصل لها من كارثة مروعة.

أمير متخاذل وحمى!

جميع المعلومات حول حملة خلقيذونية في المصادر العربية الإسلامية تستند إلى بيتَين من الشعر منسوبَين إلى يزيد بن معاوية، يقول فيهما:

إذا اتكأت علي الأنماط في غرف       بدير مران عندي أم كلثوم

فلا أبالي بما لاقت جموعهم         بالقرقذونة من حمى ومن موم

والقرقذونة المذكورة هنا هي الصيغة المعربة لخلقيذونية؛ هذه المدينة البيزنطية الشهيرة المواجهة للقسطنطينية من جهة الساحل الآسيوي، والتي تحولت في أيامنا هذه إلى حي من أحياء إسطنبول يُعرف باسم قاضي كوي (Kadıköy). فاهتمام المصادر العربية انصب هنا على اتكاء يزيد على الأرائك في قصره، بين نسائه وجواريه، بينما كان الجيش يعاني في القرقذونة. وقد شكَّل هذان البيتان مادة دسمة للمؤرخين العباسيين، ومن اقتبس منهم، للطعن بيزيد، حتى لو كان هذا الطعن على حساب تفاصيل حملة بحرية كبرى، تعرضت إلى كارثة ذهب ضحيتها عشرات الألوف من الجنود.

اقرأ أيضًا: معاوية بن أبي سفيان.. نظرة أخرى (1)

أنواء ونار إغريقية

يمكن تتبع أخبار هذه الحملة في كتاب ثيوفيلوس الرهاوي، الذي اقتبس عنه البطريرك التلمحري السرياني، ومطران الروم الأرثوذكس أغابيوس المنبجي. ومن الواضح أن اقتباس التلمحري أكثر تفصيلاً من اقتباس المنبجي؛ حيث يقول إنه في بداية ملك قسطنطين بن قسطاس وإخوته، دخل المسلمون إفريقيا، وهذا الحدث وقع في عام 50 للهجرة، ثم يقول في العام التالي؛ أي 51 للهجرة، سبت قوات معاوية لوقيا، جنوبي غربي تركيا الحالية. ثم يقول إنه عاد بعد فترة إلى لوقيا، ويحدد المنبجي ذلك بعام 14 لمعاوية؛ أي 54 للهجرة، ويقول إن قواته حطت رحالها في مدينة على الساحل لم يُسمها (هي خلقيذونية كما سنرى)، فتصدى لها ثلاثة بطارقة من الروم وانتصروا عليها، وسقط من العرب 30 ألفاً. وكذلك عانت الأنواء، واستخدام الروم للمرة الأولى النار في هذه الحرب.

كنيسة آيا تريادا في حي كاديكوي الذي يحتل موقع مدينة خلقيذونية القديمة

معجزة الإمبراطور

يضيف المؤرخ الأرمني سيبيوس، إلى هذه المعركة تفاصيل ذات مسحة إعجازية، ويضعها بعد سلسلة حملات بحرية كانت تقوم بها القوات البحرية العربية الإسلامية؛ إذ يقول: “إن معاوية أمير الجيش الذي كان يقيم في دمشق، جهَّز السفن الحربية من الإسكندرية ومن جميع المدن الساحلية، وملأ المراكب بالجنود والآلات الحربية. كان لديه ثلاثمئة سفينة كبيرة للغاية؛ تحمل كل واحدة منها ألفاً من الفرسان المختارين للغاية. كما أمر معاوية بصنع خمسة آلاف قارب خفيف على متن كل واحد 100 مقاتل؛ بحيث ينزلقون بسرعة فوق أمواج البحر المحيطة بالقوارب الكبيرة جداً. ثم أرسلهم معاوية عبر البحر. وأخذ الجيوش التي معه وذهب إلى خلقيذونية. عندما اقترب خضع له جميع سكان كل أرض، وسكان الشاطئ، وسكان الجبال، وسكان السهول”.

لا شك في أن سيبيوس يتوهم بأن معاوية قاد بنفسه حملة برية لتلتقي السفن؛ فلا مصدر آخر غيره أكد ذلك. ويتابع بأن معاوية احتل خلقيذونية وجعلها مقر قواته، وفر البيزنطيون منها إلى القسطنطينية لحمايتها. ويضيف أن معاوية أرسل رسالة إلى قسطنطين يطلب منه الاستسلام قبل أن تصل السفن الكبيرة.

وبعد ذلك يخبرنا أن الإمبراطور قسطنطين تسلم الرسالة ودخل بيت الله واستجار به، وأعلن بعد ذلك صوماً على طريقة نينوى، وهو الصوم المنسوب إلى النبي يونان، ومدته ثلاثة أيام.

اقرأ أيضًا: معاوية بن أبي سفيان.. نظرة أخرى (2)

ويضيف سيبيوس أن الرب استجاب له، وكان ذلك مع وصول السفن الكبيرة من الإسكندرية، وقبل أن يتوجهوا نحو القسطنطينية بآلات الحصار والمنجنيقات. وفي ذلك يقول: “تم الكشف عن قوة الرب الرهيبة؛ لأنه أعطى إشارة، وتسبب في هبوب رياح هوجاء، تحولت إلى عاصفة عظيمة، حركت أعماق البحر وصعدت إلى السطح، وخلفت موجات بارتفاع قمم الجبال، قرقرت الهاوية وسقطت الأبراج، ودُمرت السفن والآلات، وغرقت أعداد كبيرة من القوات في أعماق البحر.. في ذلك اليوم رفع الله يده عن المدينة؛ بسبب صلاة الإمبراطور التقي قسطنطين، ولم ينتهِ عنف الرياح وخفقان البحر لمدة ستة أيام”.

خلاصة

لم تكن كارثة خلقيذونية تقتصر على إصابة جنود المسلمين بالحمى فقط، كما توحي قصيدة يزيد؛ بل بما هو أدهى من ذلك، إذ تعرضت سفنهم إلى إعصار بحري، وفوجئوا باستخدام النيران، حسب المصادر المسيحية، في حين غابت تفاصيل هذه الحملة عن المصادر العربية الإسلامية؛ بسبب تركيزها على قضية هامشية، هي تخاذل يزيد وتخلفه عن المعركة بسبب مكوثه في قصره مع زوجته أم كلثوم، وهو أمر بالنسبة إلى هذه المصادر أهم من معركة كبرى. ولكن؛ رغم فداحة الخسارة يعود معاوية لتجميع قواته مرة أخرى، ويرسل يزيد على رأسها، مهدداً إياه بنزع ولاية العهد منه، فيقوم بالمهمة، كما سنرى في الحلقة القادمة.

لقراءة الحلقة السابقة: معاوية بن أبي سفيان نظرة أخرى (6)

♦كاتب سوري

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

تيسير خلف

كاتب سوري

مقالات ذات صلة