الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربيةمعاوية بن أبي سفيانمقالات
معاوية بن أبي سفيان نظرة أخرى (5)
معركة ذات الصواري بين الروايات الإسلامية والمسيحية

كيوبوست
تيسير خلف♦
تعد معركة فونيقا البحرية، أو “ذات الصواري” في تسميتها الإسلامية، مثالاً ممتازاً على انحياز الرواية التاريخية العباسية ضد معاوية بن أبي سفيان، وسعيها الحثيث لتجريده من هذا المنجز العسكري الكبير، عن طريق محو اسمه تماماً من سجل المعركة، ونقل موقعها إلى سواحل إفريقيا قرب الإسكندرية؛ بل وجعل هدفها دفاعياً وليس هجومياً كما هو في حقيقة الأمر. ولكنَّ مصدرَين مسيحيَّين مهمَّين، (هما من حيث الأقدمية؛ أقدم من أقدم مصدر إسلامي)، يعرضان رواية أخرى بطلها معاوية بن أبي سفيان، وقائده البحري أبو الأعور السلمي، ويحددان مكانها على سواحل ليقيا إلى الجنوب الغربي من تركيا المعاصرة، ويعرضان أسبابها الحقيقية؛ وهي الاستعداد لغزو القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية.
الرواية الإسلامية
لنذكر أولاً الرواية الإسلامية التي ينقلها الطبري عن محمد بن عمر الواقدي (747- 823م)، هو راوية كثر الطاعنون بنزاهته من علماء الجرح والتعديل.
وتذهب رواية الواقدي إلى أن سبب المعركة هو ما أصابه المسلمون في إفريقيا (تونس الحالية)، أي أن الروم حشدوا أسطولهم لاستعادة إفريقيا، وليس لأي سبب آخر، وأن عامل مصر، عبدالله بن سعد بن أبي سرح، هو الذي تصدى لهم وهزمهم. ولا ذكر لمعاوية بن أبي سفيان في هذه المعركة البحرية لا من قريب ولا من بعيد؛ بل تجده يتحدث عن غزوة برية متزامنة مع ذات الصواري، يقودها معاوية في بلاد الروم من دون أن يربط بين المعركتَين!
ويكرر ابن عبدالحكم، صاحب كتاب “فتح مصر وأخبارها”، تلك المعلومة؛ أي أن عبدالله بن سعد بن أبي سرح هو قائد المعركة، وأنها وقعت بسبب حشد هرقل (الصحيح قسطس بن هرقل) ألف مركب، من دون أن يحدد مكان المعركة.

وسيراً على خطى معلمه الطبري، لا يذكر ابن الأثير الجزري في كتابه “الكامل في التاريخ” مكان المعركة أيضاً، ويربط وقوعها بما أحرزه المسلمون من نصرٍ في إفريقيا بالذَّات، ويتحدث عن عبدالله بن سعد بن أبي سرح، من دون أدنى إشارة إلى معاوية. والأمر نفسه مع ابن كثير في كتابه “البداية والنهاية”.

ونتيجة لهذا الغموض في المصادر الأصلية، يجزم عدد من الكتاب الإسلاميين المعاصرين؛ مثل الداعية علي الصلابي، والكاتب شوقي أبو خليل، بأن المعركة كانت بقيادة ابن أبي سرح، وأن موقعها كان بالقرب من الإسكندرية، ويستدل أبو خليل على كلامه بمصدرَين من الفترة المملوكية المتأخرة (!) هما ابن تغري بردي وابن خلدون، ومن أجل ذلك تجده يجعل موقع فونيقا، الذي قرأه في بعض المصادر الأجنبية، قرب الإسكندرية بطريقة متكلفة تفصح عن نزعته الرغبوية؛ حيث إنه لم يشأ أن يشكك في المصادر التاريخية الإسلامية حتى لو اضطر إلى نقل موقع مدينة فونيقا من سواحل ليقيا في تركيا الحالية إلى الإسكندرية!

الروايتان المسيحيتان
ولنأتِ الآن إلى الروايات المسيحية، بشقَّيها السرياني والبيزنطي؛ وهي روايات تعتمد على شهود عيان، مثل المؤرخ السرياني سرجي بن يوحنا الرصافي، الذي يعتمد على رواية والده يوحنا القائد في جيوش البيزنطيين أثناء الفتوح الإسلامية، وكذلك رواية ثيوفيلوس الرهاوي (695–785م)؛ وهو مؤرخ ماروني ولد في خلافة عبدالملك بن مروان، وعمر طويلاً حتى أدرك الخليفة العباسي المهدي.

تتحدث الروايتان المسيحيتان عن سلسلة فتوحات قام بها معاوية بن أبي سفيان لجزر البحر المتوسط الرئيسية: قبرص، ورودوس، وكوس. وخلافاً للرواية الإسلامية التي تجعل غزو قبرص مجرد معركة هدفها أخذ الجزية والعودة، ترصد الرواية المسيحية ملامح خطة للسيطرة على سلسلة جزر استراتيجية، تشكل محطات طريق نحو القسطنطينية، احتفظ بها معاوية، ورتب عليها مواقع استطلاعية ومخافر، ووظفها جيداً في معركة فونيقا (ذات الصواري)، والتي تحدد الروايتان المسيحيتان موقعها على الساحل الجنوبي الغربي لمقاطعة ليقيا اليونانية، بين جزيرتَي رودوس وكوس.
ويؤكد المصدران المسيحيان أن معاوية بن أبي سفيان كان يبني أسطولاً كبيراً لغزو عاصمة الروم، القسطنطينية، ولكنَّ اثنين من “المسيحيين الغيورين” ابنَي شخص يُدعى بوقنطر، كانا في خدمة العرب في ميناء طرابلس الشام؛ حيث كان ثمة حوض لبناء الأسطول، أطلقا سراح الأسرى المسجونين في ليلة معينة، وأحرقا معدات السفن وهربا بالقوارب إلى منطقة الروم، وكان ذلك في عام 34 هجرية.

ويتفق المصدران المسيحيان على أن معاوية استشاط غضباً لدى سماعه بما حدث، وعبأ جيشاً كبيراً وغزا بيزنطية وملاطية في الأناضول، وسبى 100 ألف، وهيأ سفناً قادها أبو الأعور، فوصلوا إلى مدينة فونيقا على ساحل ليقيا؛ حيث التقوا الملك قسطس وأخاه ثاودوس، ووقعت معركة كبيرة انتهت بانتصار المسلمين وخذلان الروم. ويؤكد المصدران أن المسلمين أوشكوا أن يقبضوا على الملك، لولا تدخل ابن بوقنطر الذي قفز إلى سفينة الملك ونقله إلى سفينة أخرى، وبقي هو في السفينة الملكية.
ويضيف المصدر السرياني أن ابن بوقنطر قُتل في المعركة التي اشتدت حتى قيل إن رمل اليابسة تصاعد أكثر من الأبخرة بين السفن. وعلى أثر اندحار الروم؛ هرب الملك قسطس إلى صقلية التي اتخذها مقراً له، وبعد أن هدأ القتال، أمر أبو الأعور قائد المسلمين، أن تجمع الجثث الطافية على الماء كالقفف، فبلغ عددها نحو عشرين ألفاً.
ويذكر المصدر السرياني أن المسلمين بعد انتصارهم في فونيقا تأهبوا للتوجه إلى العاصمة القسطنطينية، فالتقاهم فطولومس، وتعهد بدفع الجزية سنوياً عن بلاد الروم. ويشير المصدر البيزنطي إلى أن الخليفة عثمان قُتل في بيته في المدينة من جانب الثائرين عليه في هذا الوقت، وهو ما يرجح أن قبول معاوية بالهدنة لمدة ثلاث سنوات كان لهذا السبب. وأن ملك الروم أرسل ابن أخيه غريغوريوس رهينة إلى معاوية؛ لضمان المعاهدة.

نتيجة
يتضح مما سبق أن رواية الواقدي التي تشكل المصدر الوحيد لجميع الروايات الإسلامية حول معركة ذات الصواري، أخفت بشكل متعمد المعلومات المتعلقة بدور معاوية بن أبي سفيان وأمير البحر أبي الأعور السلمي، وجعلت مكان المعركة بعيداً عن الشام وبيزنطة في سواحل إفريقيا، وعزا سببها إلى كونها رداً بيزنطياً على فتوح إفريقيا؛ لتثبيت فكرة أن قائد المعركة هو عبدالله بن سعد بن أبي سرح. بينما كانت المصادر المسيحية واضحة ومحددة؛ إذ وضعت المعركة في مكانها وسياقها المنطقي، وهو غزو القسطنطينية بحراً على يد معاوية بن أبي سفيان.
لقراءة الحلقة السابقة: معاوية بن أبي سفيان نظرة أخرى (4)
♦كاتب سوري