الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربيةمعاوية بن أبي سفيانمقالات

معاوية بن أبي سفيان.. نظرة أخرى (2)

كيف تحول معاوية من داعية مساواة إلى حاكم ظالم؟!

كيوبوست

تيسير خلف♦

منذ أواسط القرن العشرين، ونتيجة اعتناق عددٍ من خريجي الحوزات الشيعية “الفكر الشيوعي” ظهرت قراءات مادية للتاريخ العربي الإسلامي، عممت الأنموذج الشيوعي المعياري لتطور المجتمعات البشرية على التاريخ الإسلامي، فكان معاوية خير ممثل، في وعيهم، للرأسمالية.

من أبرز اعتراضات المؤرخين الشيوعيين خصوصاً، ومن بعدهم دعاة التنوير في هذه الأيام، على سياسات معاوية؛ قضية ظلم الرعية والانحياز للأغنياء على حساب الفقراء. وهي دعوى فاسدة لا أساس لها في المظان الأصلية، بل لا تعدو كونها تخرصات لمؤرخين مؤدلجين قرأوا التاريخ الإسلامي وفق منهجية “المادية التاريخية”، فكان معاوية ممثلاً للرأسمالية الاستغلالية، وعلي ممثلاً لصوت الفقراء المظلومين، في حين أن النصوص التاريخية تؤكد حقائق أخرى معاكسة تماماً لما تم ترويجه خلال أكثر من نصف قرن مضى.

اقرأ أيضًا: كتاب.. الوجه الآخر للخلافة الإسلامية

الأسبقية والطلقاء

كانت الدعاية الهادفة إلى تحطيم صورة معاوية بن أبي سفيان، والتشكيك بمنجزه التاريخي قديماً شيعية في أساسها؛ تعتمد على فكرة الأسبقية، وهي فكرة تستند إلى قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة /100)، أما معاوية، بحسب هذه الدعاية، فهو من “مسلمة الفتح” في صيغة معتدلة، أو من “الطلقاء” في صيغةٍ مغالية. والطلقاء هم من أعتقهم الرسول (ص) بعد فتح مكة عنوة، بحسب أغلب الفقهاء (مالك وأبو حنيفة وأحمد) يستثنى من هذا الرأي الشافعي، ومن رأى رأيه.

النقش الموجود على سد معاوية

وقد بقيت مشكلة الأسبقية واحدة من منغصات عيش معاوية طوال حياته، وكانت تطل برأسها عند أي منعطف أو تحول سياسي يقوده. ويبدو أنه كان يدرك هذا الواقع، ويعيه جيداً، ولذلك لم يدَّعِ أنه الأحسن إيماناً، حيث أقر في خطبته الشهيرة عام الجماعة في المدينة المنورة بأن ثمة من هو خير منه (إيماناً وأسبقية)، ولكنه قدم نفسه بأن الأكثر نكاية في العدو، والأنعم ولاية والأحسن خلقاً، وهي صفات تؤهله، بحسب رأيه، لولاية الأمر، وهذه الحجة كما يبدو قد أقنعت المعترضين عليه، ففي سجله منجزات تدعم ادعاءه ذاك، ويمكن إضافة رأي الخليفة عمر به حين زاره في دمشق، وأقره على سياسته المخالفة لما درج عليه مسلمو ذلك العصر.

رؤية شيوعية

بقيت الاعتراضات على معاوية لقرونٍ طويلة محصورة في الشيعة، الذين يستندون إلى رواياتٍ عباسية سنية، يفسرونها بطرقٍ تخدم وجهة نظرهم، حتى وإن أضافوا إليها تفاصيل غير موجودة في الأصل. ولكن؛ منذ أواسط القرن العشرين، ونتيجة اعتناق عددٍ من خريجي الحوزات الشيعية، كحسين مروة وهادي العلوي للفكر الشيوعي، بدأت تظهر قراءات مادية للتاريخ العربي الإسلامي، حاولت أن تعمم الأنموذج الشيوعي المعياري لتطور المجتمعات البشرية على التاريخ الإسلامي، فكان معاوية خير ممثل، في وعي هؤلاء، للرأسمالية، في حين كان علي ومن معه ممثلين للبروليتاريا الثورية التي تدافع عن حقوق الفقراء في وجه المستغلين من الأغنياء.

حسين مروة

وهذه القراءات، للأسف الشديد، ساهمت في تضليل الناس سنواتٍ طويلة، بحيث باتت مقولاتها الجاهزة، غير المستندة إلى نصوص واضحة، عُدَّة الطاعنين بمعاوية ممن يوصفون حالياً بـ “التنويريين”. وربما من أشهر القصص التي يستندون إليها قصص أبي ذر الغفاري وعبادة بن الصامت مع معاوية، باعتبارهما نصيرين للفقراء، ومن دعاة المساواة التي كان معاوية يرفضها. ويمكن للمرء أن يطلع على مئات الدراسات والمقالات حول هذه الادعاءات.

حقيقة المشكلة مع أبي ذر

من أشهر القصص التي يُستشهد بها قديماً وحديثاً للطعن في معاوية؛ قصته مع أبي ذر الغفاري حول كنز المال، وقد جاء الخبر في صحيح البخاري عن زيد بن وهبٍ، قال: مررت بالرَّبذة، فإذا أنا بأبي ذرٍّ رضي الله عنه فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشَّام، فاختلفت أنا ومعاوية في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (التوبة/ 34).

قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا، وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها، فكثر عليَّ النَّاس حتَّى كأنَّهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت فكنت قريباً. فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمَّروا عليَّ حبشيّاً؛ لسمعتُ، وأطعتُ.

من الواضح أن أبا ذر، وهو إنسان بسيط، لا يعرف شيئاً عن أمور الحكم وسياساته، وخزينة الدولة ووظيفتها، فكل شيء من هذا القبيل، بحسب وعيه البسيط، هو كنز للمال لا يجوز شرعاً. وثمة قصة أخرى مشهورة يرويها الطبراني في معجمه الكبير توضح طبيعة فهم أبي ذر لعلاقة المسلمين بأهل الذمة من المسيحيين واليهود، ففي أثناء قسمة غنائم قبرص على ساحل طرطوس، وبسبب المشاركة الفاعلة للبحارة المسيحيين الأقباط، قرر معاوية توزيع الغنائم على ثلاثة أسهم “سهم للسفن فإنها مراكبكم، وسهم للقبط فإنكم لم يكن لكم حيلة إلا بهم، وسهم لكم”. فقام أبو ذر فقال كلا والله لا نقسم سهامنا على ذلك أتقسم للسفن وهي مما أفاء الله علينا وتقسم للقبط وإنما هم خولنا (أي أتباعنا وعبيدنا)، وهذا الخبر يوضح أن أبا ذر لا يدرك أن السفن بحاجة إلى صيانة وترميم بعد المعركة، ولا يؤمن بالمساواة بين رعايا الدولة مسلمين ومسيحيين، بل يعتبر المسيحيين أتباعاً ورعايا، وأشبه بالعبيد عند المسلمين.

سد معاوية بن أبي سفيان ويقع في وادي الخنق

أموال أهل الذمة

ومثل هذه النتيجة توصل إليها معاوية في مجادلته للثائرين المعترضين على ولاة عثمان، ومنهم مالك الأشتر، فبعد أن حاورهم عدة أيام  في اعتراضاتهم، توصل إلى أن أحد اعتراضاتهم على الولاة هي سياسة المساواة بين المسلمين وأهل الذمة من المسيحيين واليهود، وهذه قضية تخص ولاة الشام والعراق ومصر، ففي هذه البلدان رعايا مسيحيون يفوقون في أعدادهم أعداد المسلمين، حيث كتب معاوية للخليفة عثمان، بحسب رواية سيف بن عمر: “قدم علي أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أثقلهم الإسلام وأضجرهم العدل لا يريدون الله بشيء، ولا يتكلمون بحجة إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة… إلخ”.

وتعبر قصة معاوية الشهيرة مع عبادة بن الصامت، وهو من الأنصار السابقين، عن هذه المعضلة بشكلٍ جلي، فقد أنكر عبادة على مسيحيي دمشق بيع الخمر، وقام بتمزيق قطارة خمر بشفرة في السوق، فطلب معاوية من أبي هريرة أن يتدخل لدى عبادة لأنه “بالغدوات يغدو إلى السوق فيفسد على أهل الذمة متاجرهم، وأما بالعشي فيقعد بالمسجد ليس له عمل إلا شتم أعراضنا وعيبنا”. وكان جواب عبادة مثل جواب أبي ذر، وهو أنه بايع الرسول الكريم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهكذا نرى أن الاعتراضات على معاوية تتعلق بالفهم الحرفي للنصوص، في حين كان معاوية رجل دولة اجتهد في حدود صلاحياته، مغلباً المصلحة العامة على الرؤية الضيقة التي تؤدي إلى خلق فتن بين رعايا الدولة على أساس تمييزي. وهذه أمور لا تعني للمعترضين المعاصرين على سياسات معاوية شيئاً، لأنهم بكل بساطة أصحاب غايات كما يبدو.

لقراءة الحلقة السابقة: معاوية بن أبي سفيان.. نظرة أخرى (1)

♦كاتب سوري

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

تيسير خلف

كاتب سوري

مقالات ذات صلة