الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربيةمجتمعمقالات

مطاردة “الساحرات”… لماذا تتوحش جرائم العنف في المجتمع المصري؟

كيوبوست

هالة الحفناوي♦

هالة الحفناوي

في العصور الوسطى، كان إذا حلَّت بأوروبا الأزمات قام المجتمع بإلقاء اللوم على “الساحرات”، حيث كان رجال السلطة والدين يحملهن مسؤولية البلاء الذي حلَّ بالبلاد، ويتم تعبئة المجتمع وتحويل غضبه لينصب نحو الساحرات، وبدلاً من أن يعالج المسؤولون والمجتمع الأسباب الحقيقية وراء أزماتهم، كانوا يطاردوا الساحرات في كل مكان، في ظاهرة عرفت حينها بذات الاسم “مطاردة الساحرات” Witch-hunt واعتبروا أن الانتقام منهن، ومعاقبتهن، واجباً قومياً وإنجازاً اجتماعياً، على أمل أن التخلص منهن سوف يؤدي بالضرورة إلى استقامة المجتمع، وإنهاء أزماته، والحفاظ على قيمه الدينية، وضمان رضا الرب الذي ستحل مباركته على الأرض المتطهرة من الساحرات!

وكان يكفي أن تقوم المرأة بأي سلوك مخالف أو متمرد أو أن تثير حفيظة من هم في السلطة أو من في أيديهم زمام الأمور على اختلاف مستوياتهم حتى يُطلق عليها صفة “الساحرة”، ويذهبوا بها إلى محاكم الساحرات، ثم التخلص منها حرقاً أو قتلاً أمام جماهير المجتمع الذين يهللون فرحين بانتصارهم الزائف للدين المسيحي الكاثوليكي، آنذاك.

اقرأ أيضًا: لماذا يتهم المجتمع المصري المرأة بالمسؤولية عن العنف ضدها؟

وبينما نتصور أن هذه الممارسات اللا منطقية تنتمي لعصور الظلام، وأن الإنسان المستنير “نظرياً” الموجود الآن لا يمكن خداعه، وحمله على القيام بمثل هذه الممارسات، وإن تمت، فتكون الاستثناء الذي سيتصدى له الجماهير المستنيرة، فإن ما يحدث ويتكرر في المجتمع المصري يشير إلى العكس من ذلك، وينذرنا بمدى الظلام العقلي الذي نعيش فيه.

فحادثة قتل فتاة المنصورة لا تُعتبر حادثة عارضة تتكرر في مجتمعاتٍ كثيرة، بل حادثة تنتمي لما يطلق عليه بـ”الحوداث الكاشفة”، التي لا تقف عن الفعل ذاته، بل تمتد لما كشفت عنه من معالجة المجتمع للحادثة، وما أوضحته التفاعلات حولها في المجال العام.

وتطرح هذه الحادثة عدة أسئلة: لماذا توحشت ممارسات العنف ضد المرأة في المجتمع المصري؟ ولماذا لا يتعاطف المجتمع مع المرأة بل يميل إلى شيطنتها وإضفاء الشرعية على الجرائم التي تمارس ضدها؟ لماذا يطارد المجتمع “الساحرات” ويعتبر أن التخلص منهن إنجازٌ ديني واجتماعي؟ هل تُحل الأزمات الاجتماعية بقمع المرأة أو كتم صوتها أو إخفائها في المنازل؟ هل يستقيم الرجال عندما تُترك لهم المدن والشوارع والمدارس والجامعات والأعمال حتى لا تغويهم “الساحرة”؟

نيرة أشرف ضحية المنصورة

في هذا الإطار، يسعى هذا المقال إلى مناقشة أسباب تكرار هذه الممارسات الوحشية التي لا تُرتكب فقط ضد المرأة، وإن كانت الأكثر تعرضاً لها، والوقوف على واقع المجتمع والعوامل التي أدت لهذه الأوضاع.

تشريع “تطرف السلطة الذكورية”

حاول علماء علم النفس الاجتماعي فهم سلوك التعذيب والوحشية الذي قد يمارسه “الفرد العادي” ضد الآخر، وكانت فكرة “التلذذ بامتلاك السلطة” من الأسباب المهمة التي خلص لها بعضهم. ففي التجربتين النفسيتين الأشهر في علم النفس الاجتماعي، تجربة ميلغرام، وستانفورد، دليلٌ على مدى العنف الذي قد يصل له الإنسان العادي، ما أن يخوِّله المجتمعُ نوعاً من السلطة على مجموعة أو فئة اجتماعية.

قامت تجربة ميلغرام على إعطاء الفرد المتطوع “العادي” السلطة في تعذيب تلاميذ لم يجيبوا عن أسئلته بصورة صحيحة، وكلما أخطأوا في سؤال يتم تصعيد التعذيب الذي كان يتم (فرضاً) بالصعق الكهربائي. وعلى الرغم من أن الافتراضات الأولية قبل التجربة بأن 25% فقط من الأفراد سيصلون إلى المراحل المتقدمة من التعذيب حتى الموت، فإن التجربة انتهت إلى قيام 65% من العينة بالتمادي في التعذيب حتى مع سماعهم لصراخ وتوسل الضحايا، والوصول بهم إلى القتل.

 اقرأ أيضًا: “ردَّة حضارية”.. تنامي ظاهرة التحرش في مصر

وكان الهدف من التجربة، في الأصل، هو دراسة طاعة الأوامر بالتعذيب، إلا أنها استخدمت أيضاً في تفسير مدى التطرف في التعذيب الذي قد يصل له الفرد العادي لمجرد أن لديه السلطة. فلم يكن المعذِّبون في التجربة مجرمين أو قاموا بأعمالٍ يستحقون عليها تحت أي منطق التعذيب حتى القتل، هم فقط لا يعرفون الإجابة الصحيحة، إلا أن القائم على التجربة أعطى الفرد الحق في تقييم الفرد، وسلطة الانتقام منه وتعذيبه، وتم إقناعه بأنه يقوم بمسئوليته المجتمعية لرفع قيم المعرفة والتعليم في المجتمع.

فعند منح السلطة، وإضفاء الشرعية على ممارسيها، من الصعب التزامهم بالحد الأدنى منها لتحقيق أهدافهم المزعومة، بل يصبح بقاؤها في أيديهم هدفاً في حد ذاته، وأمراً له جاذبيته، ويتم الدفاع عن أي تجاوزات عنيفة والتذرع بالشرعية لممارستها والإبقاء عليها.

بنفس المنطق، أعطت الثقافة الشعبية والخطاب الديني لمدة سنوات طويلة السلطة للرجال على النساء، وأضفت عليها الشرعية، واعتبرت أن سلوك النساء بالضرورة أعوج، ولذلك للرجل القوامة لتعديل هذا الاعوجاج، واستغل كثيرون سواء من الأفراد العاديين أم من المحسوبين على رجال الدين الفرصة لتوسيع مجال سلطتهم على النساء، فأصبحت المقولات الشعبية التي تدعم ذلك التوجه، مثل “اكسر للبنت ضلع يطلع لها 24″، أو التفسيرات الدينية المشكوك في أمرها، “مثل حق ضرب النساء”، هي الأكثر انتشاراً، والأعلى صوتاً، ويتم ترديدها عبر شرائح واسعة من المجتمع ليس فقط بين الذكور بل بين الإناث أيضاً.

تحاول المرأة مقاومة العنف ضدها

وتم إغفال أي أحاديث دينية أو مقولات ثقافية قد تدين الرجال أو تلقي عليهم بأي مسؤولية، واتسع مجال السلطة الذكورية الذي تخاذل الجميع عن وضع حدٍّ له، حتى أصبح من واجب أي رجل أن يمارس سلطته على أي امرأة، بغض النظر عن صفته أو صلته بالمرأة، أو إلمامه بالدين من عدمه، سواء كان لديه قدر من الأخلاق أم لا، حتى وإن كان “بلطجياً” يكفيه أن يكون ذكراً، حتى يمتلك الحق في ممارسة سلطته.

ولذلك، فلا عجب من أن نرى هذا التعليق الذي تداولته وسائل الإعلام الذي صدر من جار الجاني في مقتل فتاة المنصورة، يصفه بأنه “على خلق ولا يسمع له صوت إلا عند ضرب أمه وإخواته”. أو أن يطل علينا رجل دين يطالب النساء بزي معين إذا أردن العيش، أو عشرات التعليقات حول سلوك الفتاة وزيها. أو نرى من قبلهم من يحمِّل المرأة مسؤولية تعرضها للتحرش أو الاغتصاب والآن القتل.

وفي المقابل، تأتي محاولات الخطاب الديني الرسمي في إعادة الأمور إلى نصابها، ولكن على الرغم من استنارة الخطاب الديني الرسمي، فإنه خطاب حذر وهادئ، لا يميل إلى الراديكالية التي يحتاجها الموقف، ومعدل تكرار تلك السلوكيات المتطرفة.

بيان جامعة الأزهر للرد على التصريحات حول مطالبة النساء بزي معين

انتكاس مؤسسات الضبط الاجتماعي “غير الرسمية”

قال ابن خلدون في مقدمته “إن الاجتماع للبشر ضروري ولا بد لهم في الاجتماع من وازعٍ حاكم يرجعون إليه”، ويعرف علماء الاجتماع مفهوم الضبط الاجتماعي بكونه الطريقة التي تنظم بها المعايير، والقيم، والقوانين، والمؤسسات وهيكل المجتمع السلوك البشري، وهي أساس النظام الاجتماعي، ولا يمكن أن تستقر المجتمعات دون إيجاد آلية للسيطرة وضبط سكانها.

مقدمة ابن خلدون

وفي واقع الأمر، يقوم الضبط الاجتماعي -في الجزء الأكبر منه- على الأساليب غير الرسمية، والتي تزرع القيم المجتمع ونسق معتقداته عبر عملية التنشئة الاجتماعية التي يتشارك فيها العديد من المؤسسات والأفراد، بدءاً من الأسرة والمؤسسات التعليمية، والأصدقاء، والمؤسسات الثقافية الأخرى مثل الإعلام والأعمال الفنية وغيرها.

أما الأساليب الرسمية للضبط الاجتماعي؛ فتتمثل في مؤسسات إنفاذ القانون، والتي تمارس القوة في الضبط الاجتماعي. وعادة ترتكن المجتمعات على الأساليب غير الرسمية لتحقيق الضبط الاجتماعي، والتي يكون لها فاعلية حتى أكثر من قوة المؤسسات الأمنية الأخرى. فعلى سبيل المثال، مازالت الأعراف والتقاليد الاجتماعية في المجتمعات القبلية لها سلطة أكثر من القوانين والمؤسسات النظامية.

وفي السياق العربي بصفة عامة، والمصري بصفة خاصة، كانت قنوات الضبط الاجتماعي غير الرسمية تتمتع بفاعلية وتأثير كبير، فكان مفهوم “العيب” ذلك المرجعية المجتمعية كلمة رادعة، وكان هناك إجماع عليها وعلى حدودها، وذلك حيث كان الأفراد يتعرضون لخبرات مشابهة في غالبية الأحيان، فالمعايير واحدة تقريبا في المؤسسات التعليمية المختلفة، والقيم التي توجه إليهم عبر وسائل الإعلام متسقة معها، والخطاب الديني كان يعزِّز القيم العليا للمجتمع، ولذلك كان من السهل أن نجد ونفهم ما يعرف بالتيار العام للمجتمع.

اقرأ أيضًا: لا تحاولي التكتم.. طرق مُثلى لمواجهة التحرش الإلكتروني والمباشر

على النقيض، أدى تراجع تلك المؤسسات وعدم قيامها بمسؤولياتها الاجتماعية إلى تفتت التيار العام، وأصبح لدينا مجتمعات منعزلة عن بعضها، تعيش في نفس الحيز الجغرافي صحيح ولكن لا يربطها ذلك الرباط القيمي المقدس. فالثقافات والقيم الفرعية وأنماط العيش المختلفة تغلبت على كتلة المجتمع، وأصبح لكل جزء من المجتمع مؤسساته التي تدعم ثقافته الفرعية، واتسعت الفجوات بين الأجزاء، وتحول التعايش بينهم إلى صدام واستبعاد واستنكار، خاصة مع محاولة كل جزء السيطرة على باقي المجتمع، والاستعلاء عليه. فتزدحم مواقع التواصل الاجتماعي بالصدامات بين السيدات الليبراليات والمتدينات، وكل فريق منهم يحاول إقصاء الآخر وإثبات أحقية طريقته في العيش، بينما في الظروف الاعتيادية من الطبيعي أن يضم كل مجتمع أنماطاً متعددة يمكنها التعايش معاً في إطارٍ من الاحترام المشترك والقيم المتفق عليها، والتوقعات المتبادلة.

تداعيات تآكل الطبقة الوسطى:

عندما عبَّر العديد من المتخصصين والباحثين وعلماء الاجتماع عن انزعاجهم من تآكل الطبقة الوسطى، وحاولوا تسليط الضوء على خطورة ما تتعرض له تلك الفئة من المجتمع، لم يلتفت الكثيرون خاصة من متخذي القرار إلى هذا الأمر، وذلك حيث يظن الغالبية بأن الطبقة الوسطى وما تتعرض له من اختلال يقف عند حد الأوضاع المادية، حيث تسحبهم الصعوبات الاقتصادي إلى الطبقة الأدنى من المجتمع، وتم اختزال وتسطيح تداعيات تآكل الطبقة الوسطى عند الاعتقاد بأنه سيكون لدينا طبقة وسطى ولكن فقيرة.

بينما في واقع الأمر، لا تعبِّر الطبقة الوسطى عن مكانة مادية أو مقدرة مالية فحسب، بل أنه مفهوم أعمق من ذلك، ووظيفتها (أي الطبقة الوسطى) في المجتمع أهم من تلك النظرة السطحية لها. فمفهوم الطبقة الوسطى في أبسط تعريفاته ودون الدخول في جدال نظري، يتضمن ثلاثة أبعاد، واحد منها فقط يتمثل في البعد الاقتصادي، بينما تتضمن أيضاً المكانة التعليمية والمهنية، فضلاً على العامل الثقافي، وهو المرتبط بالاتجاهات والقيم وأسلوب العيش والتفاعل.

أعطت الثقافة الشعبية والخطاب الديني لمدة سنوات طويلة السلطة للرجال على النساء

فالطبقة الوسطى في أي مجتمع هي عامل التوازن بالنسبة له، وهي الحامية لثقافته والحاضنة لقيمه والمصونة لها، خاصة وأنها في أي مجتمع يفترض أن تمثِّل غالبيةَ السكان، حيث يقع في هذه الفئة في الظروف الطبيعية ما يقرب من ثلثي السكان، أي من 70-75%. فالطبقة الوسطى هي التي تحمي المجتمع من الوقوع في القطبية بين طرفي النقيض، والتطرف يميناً أو يساراً.

وما حدث في المجتمع المصري، على مدار سنوات طويلة، ليس فقط بفعل الأزمات الاقتصادية، بل بسبب انسداد آفاق الحراك الاجتماعي، وعدم وضوح عوامله، فقديما كانت معايير التعليم والمهنية ومنظومة القيم المرتبطة بالإنتاجية من أهم عوامل الحراك الاجتماعي، أما الآن فلا توجد معايير واضحة أو منظومة قيم مرتبطة بالحراك الاجتماعي. وهذه العوامل وغيرها أدت إلى تآكل الطبقة الوسطى، واختلال توازنها، وبالتالي واختل معها توازن المجتمع كله. وتُرك المجتمع للممارسات المتطرفة واللا معيارية التي تطل علينا من فترة لأخرى بأنماطٍ متوحشة من الجرائم أو ظواهر غريبة على سياقنا الاجتماعي.

اقرأ أيضًا: قصة الأخوات الثلاث اللاتي رسّخَ اغتيالهن لليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة

في الختام، مرت المجتمعات العربية منذ أحداث 2011 بتحولاتٍ عاصفة، وبينما توجه أنظار الباحثين ومتخذي القرار نحو التداعيات السياسية والاقتصادية وإعطاء الأولوية لهما، لا توجد جهود كافية لفهم التغيرات الجارية في عمق المجتمعات ومآلاتها، وكأن المجتمعات تتفاعل بمعزل عن التحولات السياسية والاقتصادية، سواء الدولية أو الداخلية، أو أنه تم تجميدها على نفس أوضاعها لحين حل الأزمات الأخرى.

وتنذرنا الظواهر الاجتماعية غير التقليدية والحوادث الوحشية والممارسات اللا معيارية، بأن ثمة تحولاً في حاجة إلى دراسةٍ وفهم وسياسات للتحرك والاحتواء.

♦باحثة متخصصة في علم الاجتماع السياسي

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

هالة الحفناوي

باحثة متخصصة في علم الاجتماع السياسي

مقالات ذات صلة