الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة

مشهدٌ عصريّ من خورفكان

مصطفى سعيد

إنها خورفكان يا سادة؛ تلك المدينة الساحلية المطلة بشاطئها الرملي الحريري نعومةً، ومرسى سفنها المرسوم من الطبيعة على خليج عمان، المحاطة بالجبال الرواسي كالأوتاد شاهقةً عامرةً بالخير قلعةً تحميها من غدر الزمان تسند ظهرها إليه في عزٍّ وشموخ؛ إنّها تلك المدينة التي عَرفت تعدين النحاس وتصنيعه منذ العصر النحاسي قبل ألوف السنين، وعرفت قبله النقش على الأحجار في العصر الحجري السابق عليه. إنها تلك المدينة الشاهدة على حضارات البحر والبر منذ نشأة المجتمعات، الشاهدة في تاريخها على عديد من الصراعات والوفاق والخلاف والسلم والحرب، وفي حاضرها شاهد عيانٍ على وحدةٍ نرجوها لكل أمتنا؛ فهي الواقعة بإمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة.

على شاطئ خورفكان، جماعةٌ يغنّون السامري غناءً جماعيًّا؛ نغمهم أصواتهم، وإيقاعهم تصفيق أيديهم بديع الانتظام، يغطِّي على صوت نغمٍ إفرنجيٍّ عربي(Franco-Arab) ، يبدو أنه مسجلٌ في تركيا والمعروف عند جماعة منهم بـ”الأربسك”، خارجٌ من سمّاعات منتشرة بطول الشاطئ؛ جماعة السامريّ يركبون أفخم المركبات، يلبسون أحسن ثياب، مجامرهم معهم يخرج منها أطيب العبير، إذا حدّث أحدهم أجنبيًّا فلغته الأجنبية ذات مستوى جيد جدًّا، وإذا حادثوا بعضهم بعضًا في معاني ما يغنّون، بدوا مطَّلعِين على غريب “العربية” ومعانيها؛ بل يشيرون إلى المصادر والمعاجم في غريب المعاني. تُطفأ السماعات ذات الأربسك ويخلو الجو للسامري.

اقرأ أيضًا: رحلة في مقامات “المالوف” الأندلسي (فيديو)

في السوق طفل.. أمامه بعض الحلوى.

“مَن صنع هذه؟”.

الطفل: “ستّ الكلّ، أُمِّي”.

“ربّي يخلّيكم لبعض، أحسنت الوصف يا بُني ودُمت بهذا الحماس. من أين أنت؟”.

“من هنا، من الخور”.

ثمّ يلتفت لمساعدة أُمِّه إلى جواره ويطلب منها أن تُذِيقَنِي من هذه الحلوى.

هاتفه يصدح منه تقسيم عود جميل عرفته، هو الذي يسبق دور “شربت الصبر” لعبده الحامولي الذي غنّاه الأستاذ رياض السنباطي، في جلسة خاصة أوائل ستينيات القرن العشرين، فلمّا سألت الطفلَ إن كان هذا هاتفه أم لغيره، أجاب بأنه له، وأنه يحب صوت العود كثيرًا.

في السوق لا يوجد صخب إلكتروني، لا نسمع نغم التكنو والسيكادِلِك المنتشر في أغلب أسواق بلادنا هذه الأيام صرعةً جديدةً كعادة أُمَّتنا منذ ما يزيد على قرن مع الصرعات المعروفة بالمودة!

اقرأ أيضًا:زرياب.. والأساطير في الموسيقى مع مصطفى سعيد (فيديو)

ليس في السوق شيءٌ من هذا، فإن سُمِعَت نغمةٌ من متجر فهي نغمة جميلة لعود أو فرقة أو نغمة شعبية.

في محلّ رقاق، الملفوظ محليًّا “رْگاك” أدخل للإفطار، المكان هادئ.. بعد قليل يدخل زبائن المطعم، لهجتهم محلية، في غاية اللطف والأدب، ينتقل هذا الأدب كابرًا عن كابر إلى أطفالهم، ينكسر صمت المكان بصوت عودٍ مسجّل، أسترجع ذاكرتِي، هذا الصوت أعرفه، التسجيل يبدو من أواخر تسجيل الأقراص78  لفّة، لهجة العود من ساحل الخليج، ثمّ يأتي صوت حارب حسن! المطرب الذي سجَّل مع دبيّفون مطلع خمسينيات القرن العشرين، أعرف صوته، مَن يذكر حارب حسن؟ لا يعرفه إلا المهتمون بالنغم.. في لحظة التفكير هذه يسكت الجميع ينصتون إلى حارب، وإذا انقطع الصمت انقطع بترديد كلام الأغنية المؤثّر. الجلوس أغلبهم في عمري أو أصغر منّي. القوم هنا غير القوم في العاصمة. هنا عصريّةٌ أرجوها لكلّ أُمَّتِي، يعرفون أسباب التقدّم، يحبُّون حضارتهم ولا يريدون أن يستبدلوا بها غيرها، يعرفون لسان أقوام أُخرى، لكن لا يريدون نسيان لسانهم والتبرّؤ منه. يعتزون بنغمهم ولا يظنون أنه أقلّ شأنًا من أنغام الترِنْد.

الاستفادة من خبرة كلّ الحضارات ليست تعني التقليد. وإيجاد أسباب العصريّة لا تعني الانسحاق تحت ثقافة الاستيراد والنسخ المُعلَّبة. هذا المشهد دليلٌ على أن العصرية لا تعني هدم بناءٍ شُيِّد نورًا وعلمًا وإنسانيةً، وأن حفظ ثقافتنا ممكنٌ وأجمل بالاستفادة من خبرة كلّ الحضارات بالحبّ والتكافؤ لا بالتناحر والتقليد والتنافر.

هل يأتي يومٌ ينتج فيه هذا الطفل نغمًا يكمل فيه نغم الحامولي وعود رياض وحيوية فنّ السامري وصوت حارب؟

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة