الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربيةمجتمعمقالات

مشاكلة الناس لزمانهم وما يغلب عليهم في كل عصر

د. عبدالرحمن بن عبد الله الشقير♦ 

 

تقديم للكتاب بصوت د. عبدالرحمن بن عبد الله الشقير

 

 

يأتي التعريف بهذا الكتاب النادر الذي يتضمن تحقيقًا لنص الكتاب مع دراسة في النظريات الاجتماعية المتوافقة مع مضمونه، بوصفه من نفائس التراث العربي في الفكر الاجتماعي، التي تبحث في تاريخ الأفكار وتأثير ثقافة النخب واهتماماتهم على سلوك الناس العاديين في حياتهم اليومية، ويؤصل لأفكار الإنسان العادي وممارساته وهواياته ومتابعته للتقاليد والاهتمامات. ويدلنا هذا الكتاب على مصادر نشأة الأفكار وقوانين تغيُّرها في المجتمع؛ إذ تتبع مؤلفه المؤرخ أحمد بن إسحاق اليعقوبي (المتوفى عام 202 هـ/ 905م) ظاهرة انتشار القيم والعادات والتقاليد والاهتمامات والموضة، أو ما يشيع بين الناس عمومًا، وتوصل إلى تسلسل أسبابها، وهرمية انتشارها، فهي وَفق ملاحظته تبدأ من الخليفة، ثم يقلّده كبار رجال دولته؛ مثل ولاته ووزرائه وعماله، ثم يقلّدهم مَن تحتهم حتى تصير عادة منتشرة في المجتمع؛ فالخلفاء كانوا رمزًا اجتماعيًّا ومصدرًا أساسيًّا لتوجيه أفكار الناس واهتماماتهم. يقول اليعقوبي في مقدمة كتابه: “فأما ملوك الإسلام، فإن المسلمين في كل عصر تبع للخليفة، يسلكون سبيله، ويتبعون مذهبه، ويعملون على قدر ما يرون منه، ولا يخرجون عن أفعاله وأخلاقه وأقواله”.

ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان
منذ 2015 يمكن اعتباره الملهم الأول للشباب السعودي، حتى في اللباس.

تتبع اليعقوبي هذه الظاهرة عبر ثلاثة قرون، وبدراسته الدقيقة للتاريخ الاجتماعي لواحد وثلاثين خليفة؛ شملت الخلافة الراشدة والعصرَين الأموي والعباسي الأول. لاحظ أمورًا انتشرت مجتمعيًّا؛ مثل ملاحظته سماحة عثمان بن عفان وزهد أبي بكر الصديق وعمر بن عبد العزيز، وعناية الوليد بن عبد الملك بالعمارة.. وانعكاس هذه السمات الشخصية على الحياة اليومية في المجتمع.

الأمير فيصل بن فهد آل سعود
كان رئيساً لرعاية الشباب، ابتدع المرزام المقلوب في الغترة والشماغ، وقلده الشباب السعوديون.

وتكتسب ملاحظة اليعقوبي قوتها الاجتماعية، من وضوحها، وتكاملها؛ لذلك لا يمكن التقليل من شأن ملاحظاته الاجتماعية. وتؤكد ملاحظة اليعقوبي أن التفاعل الاجتماعي أقوى تأثيرًا من المهام الرسمية؛ فجميع الخلفاء مهمتهم الرئيسة هي إدارة الدولة سياسيًّا وعسكريًّا وإداريًّا وماليًّا، ولكن سماتهم الشخصية وتفاعلهم الشعبي مع المجتمع هو الذي يترك الصورة الذهنية عنهم، وهو الذي يتأثر به رجالهم؛ بوعي منهم، أو بلا وعي.

وقد تبين من ملاحظة اليعقوبي أن السمات الشخصية للخلفاء الراشدين والأمويين وبعض العباسيين تركز على الاستهلاك الثقافي المتمثل في التسامي بالذات والبناء الحضاري والفكري والعلمي، في حين بدأت ظاهرة الاستهلاك المظهري مع بعض الخلفاء العباسيين، ويبدو أن سبب ذلك هو توسع الفتوحات وزيادة دخل الدولة وبروز ظاهرة دخول العناصر التركية في المناصب العليا للدولة.

محمد ناصر الدين الألباني عالم دين سوري كان كبير علماء الحديث في القرن العشرين. ترك بصمته على مئات من طلابه حول العالم الذين كانوا يحاكونه في طريقة حديثه وكتابته ومفرداته وسخريته.

إن ملاحظة اليعقوبي الاجتماعية للخلفاء تتكرر في كل زمان ومكان في الملوك والرؤساء والوزراء، ولكنها تقل نسبيًّا في العصر الحديث، خصوصًا في الدول التي تعلي من شأن الديمقراطية، كما أن الإعلام الجديد انتزع هذه الميزة من السياسيين، وأخرج للمجتمع مشاهير جددًا، وأكثرهم إما من رموز الفن والرياضة، وإما من المعنيين بمخاطبة الشباب والمراهقين، وإما مشاهير تصنعهم شركات التسويق لهدف محدد ثم يختفون، أو حتى الترويج لسلعة أو الترويج لموضة.

ويمكن أن يجد الباحث الاجتماعي والمؤرخ قضايا اجتماعية كثيرة في الكتاب؛ حيث نجد مادة تاريخية خام لظاهرة تحقيق المكانة الاجتماعية، والمحاكاة والتقليد، وتتبع الموضة، والقيادة “الكارزمية”، وانتشار الأفكار في المجتمع.

قبر الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز
كان أمير الموضة في المدينة المنورة وملهم شبابها قبل أن يتولى الخلافة، وبعد توليه الحكم بقي مثالاً يحتذى في الزهد والتقوى.

كما يتضح من موضوع هذا الكتاب والإسقاطات التي استدل بها اليعقوبي لتدعيم فكرته، أنه لا يرى استقلالية الوعي، بل يرى أن الوعي الجمعي ظاهرة اجتماعية. ومن ثَمَّ فإنه لا يكفي أن نثبت ظاهرة “الناس على دين ملوكهم” تاريخيًّا واجتماعيًّا دون فحص لماهية هذه الظواهر التي تتغير مع كل خليفة.

مارلين مونرو.. أيقونة الجنس والإغراء على مستوى العالم، على الرغم من رحيلها منذ 57 عامًا، وحتى الآن يقلدها الفتيات في ملابسها وتسريحة شعرها، وتعيد بيوت الأزياء العالمية تصميمات فساتينها الشهيرة

بدا واضحًا أن الشعوب التقليدية كانت تمثل القوة المحركة لتجانس المجتمع، من خلال بحثها عن الرمز والولع بتقليد نمط حياته في اللبس والاهتمامات، ومحاكاته. أما في العصر الحديث فقد تمايز الأفراد في إنتاج المعرفة وتقديم الذات في الحياة اليومية من خلال سيادة الروح الفردانية. ومن ثَمَّ فإن مصادر تلقي القيم والعادات الجديدة والموضة، لم تعد حكرًا على القادة السياسيين؛ حتى لو امتلكوا وسائل الإعلام في مجتمعهم، إذ تغير الوضع مع العولمة، وعصر تدفُّق المعلومات، ووسائل التأثير القوية التي تمتلك أساليب بثّ القيم الجديدة من خلال الآداب والفنون والسينما والثقافة؛ إذ صارت الأفكار تنتشر بطريقة شبكية معقدة، وليست عمودية من أعلى إلى أسفل الهرم الاجتماعي، كما هي الحال في السابق، وعامة وليست محتكرة.

السندريلا.. سعاد حسني، قلدتها فتيات زمنها في بساطتها، وكانت ملابسها بمثابة “الكاتالوج” المتغير الذي تنتظره الفتيات كل فترة لمعرفة ماذا سيرتدين

يقول ابن الطقطقي (660- 709هـ) في كتاب “الفخري في الآداب السلطانية”: “واعلم أنّ للملك أمورًا تخصّه يتميّز بها عن السوقة؛ فمنها: أنه إذا أحبّ شيئًا أحبه الناس، وإذا أبغض شيئًا أبغضه الناس، وإذا لهج بشيء لهج به الناس إمّا طبعًا أو تطبُّعًا، ليتقربوا بذلك إلى قلبه، ولذلك قيل: الناس على دين ملوكهم. فانظر كيف كان زيّ الناس في زمن الخلفاء، فلما ملكت هذه الدولة -أسبغ الله إحسانها وأعلى شأنها- غيّر الناس زيّهم في جميع الأشياء، ودخلوا في زيّ ملوكهم بالنطق واللباس، والآلات والرّسوم والآداب، من غير أن يكلّفوهم ذلك أو يأمروهم به أو ينهوهم عنه، ولكنهم علموا أن زيّهم الأوّل مستهجن في نظرهم، منافٍ لاختيارهم؛ فتقرّبوا إليهم بزيّهم، وما زال الملوك في كلّ زمان يختارون زيًّا وفنًّا، فيميل الناس إليه ويلهجون به، وهذا من خواصّ الدولة وأسرار الملك”([1]).

أشار المؤرخ ابن كثير (701- 774هـ) إلى هذه الظاهرة بوصفها ملحوظة شعبية دون أن يعلق عليها، إذ يقول في ترجمة الوليد بن عبد الملك: “وقالوا: وكانت همة الوليد في البناء، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول: ماذا بنيت؟ ماذا عمرت؟ وكانت همة أخيه سليمان في النساء، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول: كم تزوجت؟ ماذا عندك من السراري؟ وكانت همة عمر بن عبد العزيز في قراءة القرآن، وفي الصلاة والعبادة، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول: كم وردك، كم تقرأ كل يوم؟ ماذا صليت البارحة؟”([2]). 

محمد صلاح.. نجم ليفربول، الذي حقق ما لم يحققه لاعب عربي من قبل، حتى أن مشجعي ليفربول صنعوا له نشيدا خاصا.. يقلده الشباب في تسريحة شعره وفي حركاته وعندما ظهر وهو يقرأ في كتاب، أعيد طبع الكتاب ونفذت نسخه فور نزولها

لا يختلف الإنسان العادي في مجتمع العصر الإسلامي الأول عن إنسان اليوم في ممارسة حياته اليومية، وفي سعيه لتحسن تقديم ذاته من أجل تحقيق المكانة الاجتماعية أو الاعتراف به من خلال محاكاة النخب والمشاهير؛ إذ إن متابعة الموضة اليوم هي إعادة إنتاج لفكرة “الناس على دين ملوكهم”، من حيث أن الإنسان العادي يبحث عما يحقق له المكانة الاجتماعية في تقليد رموز المجتمع ومشاهيره في عاداتهم ولبسهم وهواياتهم. والموضة بمفهومها الواسع تشمل كل فكرة متجددة موسميًّا، أو مؤقتًا في جميع المجالات التي يتعامل معها الإنسان؛ مثل: اللبس والأثاث والتصميم والعادات، وتكتسب قوتها من اهتمام المشاهير والنخب بها، وتفقد أهميتها إذا أهملوها؛ إذ إن المشاهير والنخب يملكون عنصر “الثقة” في لبسهم وفي اهتماماتهم واستخداماتهم للأشياء اليومية. ويترتب على ذلك تقليد الآخرين لهم.

ومن أبرز قوانين منطق التقليد التي فككها تارد، منطق انتقال العادات من الطبقات العليا إلى الطبقات الدنيا، وهي في صميم موضوع هذا الكتاب، إذ يقول: “ويكفي أن نعرف في أي اتجاه يسير التيار الرئيسي لنماذج التفكير والسلوك؛ لكي نحدد مركز السلطة الحقيقية، ولا شيء أسهل من هذا التحديد إذا كانت الدولة تقوم على نظام أرستقراطي؛ إذ نلاحظ دائمًا وفي كل مكان أن النبلاء يقلدون الملوك والحكام، وأن الشعب يقلد النبلاء بمجرد أن يصبح هذا التقليد في إمكانه، وقد حدث ذلك في فرنسا أيام لويس الرابع عشر (1638- 1715م)، ووصف سان سيمون تلك الظاهرة بقوله: إنها جرح لا يلبث حين يتغلغل في الجسم أن يصبح سرطانًا يسري بين الأفراد؛ وذلك لأنه ينتقل إليهم سريعًا من البلاط إلى باريس، ثم إلى الأقاليم، ثم إلى مجموعات الشعب”([3]). ويتوقف تارد عند هذه الملاحظة ليؤكد تسلسلها من أعلى إلى أدنى، وأنها شاملة، وليست منحصرة على سلوك محدد: “إن الدور الرئيسي الذي كانت تلعبه طبقة النبلاء، وسمتهم المميزة هي أنهم كانوا يمثلون طابع المبادأة أو على الأقل تيار الاختراع، وقد ينبع الاختراع من بين صفوف الشعب، ولكنه لكي ينتشر يحتاج إلى قمة اجتماعية ينحدر منها، كما ينحدر الماء من المسقط ليفيض بعد ذاك في الأنهر والقنوات. وفي كل زمان ومكان كانت الطبقة الأرستقراطية هي الطبقة المتفتحة لتلقي كل جديد من الخارج، كما كان وضعها يؤهلها لاستيراده”([4]). ويربط تارد نظرية التقليد بأنها تنتقل من المركز إلى الأطراف، وتبدأ من العواصم لتنتقل إلى القرى.

من هنا يمكن القول إن مشاكلة الناس لزمانهم اليوم لا تزال ظاهرة مستمرة، ولكن المجتمع يعيد إنتاجها حسب الإمكانات المتاحة في كل عصر، وقد اتخذت اليوم شكلًا جديدًا مختلفًا عن زمان الأمس، وصار طابع المشاكلة يتغير بصفة دورية وسريعة متضمنة توفير بدائل للمشاكلة في الموضة والعادات، ولكنها بدائل خاضعة لسيطرة الشركات القائدة والموجهة لسلوك الأفراد.

 باحث في علم الاجتماع وتاريخ الجزيرة العربية والخليج الحديث، وراصد للتحولات الاجتماعية

________________

([1]) محمد بن علي بن طباطبا المعروف بابن الطقطقي. الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية، بيروت: دار صادر، (د. ت)، ص 26

([2]) إسماعيل بن كثير (أبو الفداء). البداية والنهاية، تحقيق مجموعة من العلماء والباحثين، دمشق: دار ابن كثير، ط 2، 2010، ج 9 ص 354

([3]) السيد محمد البدوي. قوانين التقليد لجبريل تارد، مجلة تراث الإنسانية، مصر، مج3 ع 6 سنة 1965 ص 457

([4]) السيد محمد البدوي، المرجع السابق، ص 477

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة