الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربيةمقالات

مسلسل “رسالة الإمام”.. استعادة متعجلة لمآثر الشافعي

يفتقد المسلسل تدقيق بعض المعلومات؛ ومنها أشعار الشافعي، وهي مسألة لم يكن من الصعب تداركها؛ خصوصاً أن ديوانه مطبوع في كل مكان، وموجودة نسخ إلكترونية منه؛ يسهل تحميلها وقراءتها أو طباعتها.

كيوبوست

عمار علي حسن♦

يبدو الإمام الشافعي أكثر فقهاء المسلمين صلاحية وقابلية للاستعادة في مواجهة الكثير من تصاريف زماننا وقضاياه، وذلك إن كان الناس حقاً في طلب دائم ولحوح على تصورات الفقه القديم ومقولاته، ربما إجلال لكل ما مضى ورفع منزلته فوق المتداول الآن أو قريباً منا في الزمن، من منطلق المقولة الذهبية “المعاصرة حجاب”، أو بسبب أن كثيرين يرون أن الساحة الإسلامية الراهنة ليس فيها فقهاء كبار، يمكن أن يتوزع الناس عليهم، مثلما حدث مع الشافعي وأبي حنيفة ومالك وابن حنبل، رضي الله عنهم جميعاً.

وتعود أسباب صلاحية محمد بن إدريس الشافعي للاستعارة، بفقهه وسمته وصورته وسيرته، وليس بجسده بالطبع، إلى ما يلي:

1ـ المرونة؛ فهو كان يدرك جيداً اختلاف طبائع الناس، وأحوال زمانهم، والبيئات الاجتماعية التي تحيط بهم، أو يعيشون فيها، وتؤثر فيهم، وذلك من منطلق أن “الإنسان ابن عوائده”. لهذا كان الشافعي يفتي في المسألة نفسها بالعراق غير ما يفتي به في مصر، وحين يُسأل عن سبب هذا كان يسند حجته إلى اختلاف طبائع الناس في البلدَين.

ولم يكن الشافعي في الحالتَين يخرج عن مقاصد الشرع؛ إنما كان يتلمس ما فيه من مساحات شاسعة للعفو والمباح، وينهل منها في فتاويه المربوطة بالمصلحة التي هناك مَن يقر أنها “أينما كانت فثم شرع الله”. وقد ساعده في أن يبني تصوره هذا أنه كان كثير الأسفار والترحال، فرأى وسمع ما جعله يتأكد من وجود هذا الاختلاف بين المسلمين في الطباع والثقافات، رغم وحدة الدين.

اقرأ أيضًا: دراما رمضان 2023.. اجتماعية وكوميديا وأكشن وأعمال تاريخية

2ـ المزج بين العلم والفن؛ فالشافعي كان شاعراً متمكناً إلى جانب كونه فقيهاً مقتدراً. وأعطاه الشعر ومكنه في المقاربة بين “الحقيقة” و”المجاز” أو المطابقة بينهما أحياناً في صناعة التصور الديني؛ ما يجعل هذا المسلك حاملاً فسحة من فهم، في وجه أولئك الذين يباعدون بين الدين والفن دوماً، أو يعتقدون أن المجازات المتداولة في حياة الناس تمثل نوعاً من الكذب.

 فالشافعي كان يوظف جانباً من قريحته الشعرية في خدمة مشروعه الفقهي، وكأنه بهذا قد صنع غرضاً محدداً للشعر، لا يقتصر على الحكمة، التي وجدناها في شعر أبي تمام مثلاً، إنما يضيف إليها ترجمة “الرؤية الشرعية” إلى أبيات أو قصائد.

3ـ كان الشافعي يمتلك فضيلة الاعتراف بغيره من الفقهاء، ويقدرهم؛ فهو حين نزل إلى مصر، تحدث مع المصريين عن الليث بن سعد، وكان يراه أفقه من مالك؛ لكن تلاميذه ضيعوا جهده وعلمه، حين لم يهتموا به، ويجمعوه، وينشروه بين الناس. كان الشافعي يدرك آفة أن “زامر الحي لا يطرب”؛ فكشف للمصريين الغطاء عن فقيه عظيم كان بينهم، ولم يدركوه جيداً أو يعطوه ما يستحق من مكانة.

ورغم أنه أيام الشافعي لم تكن هناك حدود بين دول العالم الإسلامي، وكان الراكب يسير من غانا إلى فرغانة فلا يسأله أحد عن شيء، فإن ما فعله الشافعي مع الليث، قد يخدم واقعنا الراهن؛ إذ صار لكل دولة إسلامية علماؤها وفقهاؤها ومَن يصدرون الفتوى في أهلها، وصار حكام كل بلد يضيقون ذرعاً بأي تصور ديني يأتيهم من الخارج يتناقض مع تصوراتهم للمصلحة العامة أو القضايا العليا أو ما يقدرونه على أنه “الأمن القومي” لبلدانهم.

ورغم أن هناك مشتركات في الإنسانية والدين بين المسلمين جميعاً؛ فإن هناك خصوصيات تتعلق بتفاصيل حياتية، يناوشها الدين من بعيد، أو يقتحمها اقتحاماً، ويكون أهل القرار في حاجة دائمة إلى مؤسسات دينية محلية تراعي السياق والظرف ومقتضى الحال.

غلاف “مسند الإمام الشافعي”

4ـ كان الشافعي محباً لآل بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؛ لأنه منهم، فهو يلتقي مع الرسول محمد في الجد “عبد مناف بن قصي”، وكان هناك مَن ينظر إليه على أنه ابن عم الرسول، وقيل إنه ممن تحرم عليه الصدقةُ من ذوي القربى الذين لهم سهم مفروض في الخُمس.

 وجعل هذا الشافعي، وهو الفقيه السُّني، يمثل جسراً متيناً، بين السُّنة والشيعة، ويسمو فوق الخلاف بينهما، الذي صنعته السياسة في الأساس.

 وأعتقد أن هذا المسلك يخدم الوضع الراهن في العالم الإسلامي؛ حيث يتصاعد الخلاف المذهبي، ويتم توظيفه سياسياً على نطاق واسع وبعمق، الأمر الذي يهدد مصلحة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

غلاف كتاب “الرسالة” للإمام الشافعي

5ـ كانت رؤية الشافعي عابرة للأنواع داخل الحقل الديني؛ فهو، إلى جانب كونه مؤسس علم أصول الفقه، أيضاً كان ضليعاً في علمَي الحديث والتفسير؛ حتى قال عنه الإمام أحمد: “كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس”، ويصفه الفخر الرازي بأنه كان “عارفاً بآداب النظر والجدل قوياً فيه، وكان فصيحَ الكلام، قادراً على قهر الخصوم بالحجة الظاهرة، وآخذاً في نصرة أحاديث رسول الله، وكل مَن أورد عليه سؤالاً أو إشكالاً أجاب عنه بأجوبة شافية كافية، فانقطع بسببه استيلاءُ أهل الرأي على أصحاب الحديث”.

وزاد الشافعي على هذا أنه ربط العلم بالواقع، حين عمل قاضياً، وشهد له الناس بالحذق والنباهة والعدالة، وهذا محك مهم لاختبار علم العالم أو فقه الفقيه؛ فكثير من أهل العلم حين تحركوا ليعملوا به في الواقع، ظهر للناس بون شاسع بين ما يقوله العلماء وما يفعلونه.

6ـ كان الشافعي يحترم الرأي المخالف ولا يسفهه، حتى لو لم يعجبه؛ فهو خالف آراء الإمام مالك، لكن دون قدح فيه، أو عمل على تزييف أقواله، كما كان يفعل آخرون. وحتى حين بلغه أن هناك مَن صار يقدس مالكاً وآثاره، انتقد هؤلاء نقداً واضحاً، لأن مالكاً بشر، يخطئ ويصيب؛ وهو هنا عاب على الناس، ولم يحمِّل مالكاً أياً من أوزارهم.

ربما كانت هذه الأسباب الستة في رأس الذين اختاروا أن يخرجوا لنا مسلسلاً تليفزيونياً عن الإمام الشافعي تحت عنوان “رسالة الإمام”، وأن يختاروا ممثلاً موهوباً، هو خالد النبوي؛ للقيام بدوره. لكن المقصد وحده، وإن كان نبيلاً، ليس كافياً لصناعة عمل فني جيد، إنما يجب توافر شروط الفن نفسها في المقام الأول؛ وأولها إعداد سيناريو محكم، يكون صاحبه قد درس جيداً المنجز الذي تركه الشافعي، من فقه وشعر وتفسير، أو جاء بمَن يعينه على هذا، ويكون قد عرف البيئة الاجتماعية، أو الظروف الزمانية والمكانية، التي كان يتحرك فيها الرجل الذي عاش بين (150ـ 204ه/ 767ـ 820م) أيام كانت فيها الخلافة الإسلامية في أوج قوتها العسكرية، بينما كان الصراع يشتد بين “الأيديولوجيات الإسلامية”، بعد سقوط الأمويين وقيام العباسيين، وكانت تباشير الانفتاح على الثقافة اليونانية قد بدأت مع الخليفة المأمون الذي انفتحت في عصره آفاق الترجمة من الفلسفة اليونانية وغيرها إلى اللغة العربية.

مشهد من المسلسل

ويفتقد المسلسل كفايةً من القصص الجانبية المصاحبة، التي يُطلق عليها “التوالد الحكائي” مثلما رأينا في مسلسل “هارون الرشيد” الذي كتب السيناريو له القدير عبدالسلام أمين، وقام ببطولته الفنان نور الشريف. فمثل هذه القصص تعطي المسلسل جاذبية، وتساعد على رسم ملامح العصر أو “دنيا الناس” جيداً. فالبطل، حتى لو كان الإمام الشافعي، هو إنسان من لحم ودم، له حياة يتحرك فيها، وتجري على ضفافها حيوات أخرى، تمسه ولو من بعيد، وتقتحم عينَيه، ولا يستطيع لها إهمالاً ولا إغفالاً.

كما يفتقد المسلسل تدقيقَ بعض المعلومات؛ ومنها أشعار الشافعي، وهي مسألة لم يكن من الصعب تداركها؛ خصوصاً أن ديوانه مطبوع في كل مكان، وموجودة نسخ إلكترونية منه، يسهل تحميلها وقراءتها أو طباعتها.

في كل الأحوال، كان كثيرون يتوقون إلى “دراما دينية” في رمضان، حسبما اعتادوا، وبرع مصريون في صناعتها عبر عقود من الزمن. واستملح الناس اختيار الإمام الشافعي ليكون بطل عمل درامي هذه السنة، وهو اختيار رائع بالطبع؛ لكن يبدو أن الاستعجال والاستسهال قد جعلا العمل لا يكافئ تطلعات الذين يجلسون أمام الشاشات الزرقاء، ليقفوا جيداً على فحوى “رسالة الإمام”.

♦روائي، وباحث في علم الاجتماع السياسي

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

عمار على حسن

روائي، وباحث في علم الاجتماع السياسي