الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة
مريم قلوز: نخوض صراعاً من أجل الاعتراف بمهنة الرقص
مديرة أيام قرطاج الكوريغرافية تؤكد أن المهرجان ليس نخبوياً وبه مساحة لمختلف أنواع الفنون الراقصة

تونس- فاطمة بدري
منذ القِدَم، كانت الفنون تنتصر دائماً على المحن والأزمات، تختزلها في لحنٍ شجي آسر أو أغنية عذبة أو رقصة متمردة ثائرة محلِّقة. اليوم، وبينما يعيش العالم على وقع جائحة خطيرة أرهقت كل الشعوب، ووضعتهم وجهاً لوجه مع الموت، تتسرَّب الفنون لتعلن انتصارها على هذا الشبح المخيف. وعلى طريقة محمود درويش حين قال يوماً “هزمتك يا موت الفنونُ جميعاً”، انتفض الرقص في تونس معلناً انتصاره للحياة، وتمرد الجسد المنطلق الحالم على الصعوبات، معلناً تنظيم دورة جديدة من أيام قرطاج الكوريغرافية. دورة رقمية انطلقت في الخامس من الشهر الجاري واستمرت حتى الـ12 منه، حافلةً بعروضٍ مختلفة أعلن الراقصون فيها تحديهم الفيروس الذي شلَّ حركة العالم، وأُهديت إلى روح الفنانة والصحفية والناشطة الحقوقية والمناضلة النسوية الراحلة زينب فرحات، إحدى المساهمات في تأسيس المهرجان. وإيماناً منا بأن الفن عموماً، والرقص خصوصاً، عنوان أبدي للحياة، التقى “كيوبوست” مديرة المهرجان الراقصة والباحثة والأكاديمية مريم قلوز، وتحدث معها حول أجواء هذه الدورة الاستثنائية وآفاق المهرجان وواقع الرقص والراقصين عربياً، فكان هذا الحوار…
كيف قررتم تنظيم دورة هذه السنة رغم الظروف الصحية الصعبة محلياً ودولياً؟
– كنا نتوقع أننا سنتجاوز الأزمة وتكون الجائحة وراءنا بحلول شهر يونيو من هذه السنة؛ لهذا باشرنا الاستعدادات، لكننا فوجئنا بالعودة القوية إلى الفيروس منذ شهر مارس، وإعلان السلطات الحجر الصحي، وحظر التجول في شهر أبريل. شعرنا بالخوف، وفهمنا أن الوضع الصحي غير مستقر، ولا بد أن نجد حلولاً خصوصاً بعد أن تأكدنا أنه لا مجال لتنظيم دورة دولية، واستقبال ضيوفنا العرب والأفارقة والأوروبيين؛ بسبب إجبارية الحجر الصحي سبعة أيام للقادمين إلى تونس. ولكن في نفس الوقت اتفقنا على أنه لا يمكن تأجيل أو إلغاء دورة هذه السنة أيضاً بعد إلغائها السنة الماضية؛ أولاً لأن في ذلك خطراً على مصير المهرجان الذي ما زال في دوراته الأولى، وفي حاجةٍ إلى أن يفرض وجوده. ثانياً لتضرُّر الفنانين عموماً؛ وخصوصاً الراقصين، من الجائحة؛ لا سيما في ظلِّ عدم توفر المهرجانات الخاصة بالرقص، فكانت على عاتقنا مسؤولية تجاه الراقصين التونسيين على الأقل، لتوفير فضاء يقدمون من خلاله أعمالهم الجديدة، ويكسرون جمودهم الذي فرضه الوضع الصحي.

ورغم تنظيم الدورة رقمياً هل كان هناك إقبال على المشاركة في المهرجان سواء من راقصين تونسيين أو أجانب؟
– وردتنا أعداد كبيرة من الملفات من راقصين؛ خصوصاً تونسيين، تجاوز عددها تلك التي تلقيناها في الدورتَين الأولى والثانية؛ وهذه إن دلت على شيء فتدل على أن الراقصين رغم الجائحة، وما رافقها من تحديات؛ فإنهم رغبوا في المشاركة في فعاليات المهرجان.
شاهد: فيديوغراف.. رنا جرجاني المتصوفة التي تعلم الرقص في أوروبا
في الأزمات والفترات الحالكة كان دائماً الفن رغم كل شيء هو النافذة التي تمرر رسائل تفاؤل، إلى أي مدى كان الرقص حاضراً للقيام بهذه المهمة خلال الجائحة؟
– تتذكرين في فترة الحجر الصحي الأول في مارس 2020 كيف قام عدد مهم من الراقصين التونسيين بنشر فيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي تصور رقصاتهم داخل بيوتهم أو فوق أسطح منازلهم وحدائقها؛ هذه الخطوة أحدثت طاقة إيجابية كبيرة وبثَّتِ الكثير من البهجة داخل البيوت في فترة دقيقة وصعبة. وهذا جوهر الرقص، هو عنوان بهجة؛ فرؤية جسد راقص تجعلك ترى نمطاً جمالياً آخر، وعلاقة مختلفة بالواقع والحياة.
المهرجان أخذ على عاتقه منذ البداية مسألة الدفاع عن كرامة الجسد، لو تشرحين لنا أكثر هذه الفلسفة التي يقوم عليها المهرجان؟
– منذ البداية كان شعار المهرجان “لا رقص دون كرامة جسدية”؛ لأننا ندرك أن الرقص ما زال مهمشاً، وأن هناك أحياناً احتقاراً ونظرة دونية إلى مهنة الرقص؛ ولهذا فنحن في صراع، خصوصاً مع المؤسسات؛ من أجل الاعتراف بمهنة الرقص ودعم الراقصين. مثلاً تونسياً عندما نقارن الميزانيات المخصصة للسينما والمسرح والموسيقى والفضاءات المتاحة لها والمهرجانات العديدة المبرمجة لهذه الفنون، وما يقدم إلى فن الرقص، نجد أن هناك بوناً شاسعاً بينهما؛ بل إنه حتى الآن لا توجد إدارة خاصة بالرقص في بلادنا، والحال أن الوضع يقتضي وجودها في ظل إقبال الجيل الصاعد على الرقص؛ خصوصاً رقص “الهيب هوب” “urbain danse”؛ وهذه الأجيال تحتاج إلى أن نوفر لها الإمكانات لتمارس الرقص، وهذه الكرامة التي نعنيها هي أولاً احترام الجسد الراقص، وتوفير الإمكانات كي يبدع وكي يشعر أنه يحظى. وثانياً، الراقص يحتاج إلى السفر؛ سواء لتطوير تكوينه الأكاديمي أو لتقديم عروضه، ولكن يواجه صعوبات كثيرة للقيام بذلك؛ خصوصاً في مسألة منحه الفيزا بسبب أنه عربي أو إفريقي، وهذا أيضاً يمس من كرامة الفنان، ويدخل في كيفية تعامل المؤسسات المحلية والأجنبية مع الراقصين؛ وهو ما نسعى لتلافيه من خلال المهرجان.

المهرجان يهتم أساساً بالرقص المعاصر، ألا تخشون الاتهام بتهميش الرقص الشعبي أو الرقص الشرقي؟
-صحيح أن توجهنا الأساسي منصبٌّ حول الرقص المعاصر؛ ولكن منذ الدورة الأولى كان هناك حضور للرقص الشعبي، والرقص الشرقي. ما يهمنا أساساً هو الإبداع؛ لا نريد أن نبقى حبيسي الفلكلور، وبالتالي فما دام الراقص يقدم إبداعاً كوريغرافياً فهناك إمكانية لبرمجته في المهرجان، حتى إذا لم يكن رقصاً معاصراً. مثلاً في الدورة الأولى حضر معنا الراقص اللبناني ألكسندر بوليكيفيتش، مع أنه راقص شرقي؛ ولكن رؤيته الفنية الكوريغرافية فيها رؤية فلسفية وإبداع، ولم يكن مجرد عرض لرقص شرقي، وتكرر ذلك مع أسماء أخرى في الدوة الثانية. أيضاً في الدورة الأولى قُمنا بتخصيص درسٍ مفتوح للرقص حول الشعبي التونسي بقيادة الأستاذة خيرة عبيد الله، وهذه السنة خصصنا حفلاً بساحة المسارح بمدينة الثقافة مفتوحاً في الخامس من يونيو، مع درس في الرقص الشعبي التونسي مع الفرقة الوطنية للفنون الشعبية، والتي قامت بتقديم أيضاً عرض بعنوان “زوايا” ضمن فعاليات المهرجان، فضلاً عن استضافتنا أحد رموز الفن الشعبي الراقصة سعيدة الخضراء، والتي وضعناها في الهوية البصرية للمهرجان، وكانت لحظة تاريخية أن تكون خيرة عبيد الله، التي تمثل الرقص الشعبي للفرقة الوطنية للفن الشعبي وتابعة لوزارة الثقافة، وسعيدة الخضراء، التي تمثل الرقص الشعبي الميداني، تلتقيان وترقصان معاً ضمن فعاليات المهرجان.
اقرأ أيضاً: محمود رضا.. موثق فن الرقص الشعبي في مصر
ولكن رغم ذلك؛ فإن هناك تركيزاً كبيراً على الرقص المعاصر، ألا تخشون أن يوصف المهرجان بالنخبوي؟
– نخشى ذلك؛ ولكن هذا اختيارنا، وقد يسميه البعض نخبوياً، ولكن أستطيع القول إنه أكثر احتراماً للجمهور؛ بمعنى أنني أردت أن تكون للمهرجان معايير فنية واضحة، تحاكي بقية مهرجانات الرقص في العالم. وأقول مجدداً إن المهرجان لا يقدم فقط عروضاً للرقص المعاصر؛ قد يكون راقصاً شرقياً ويكون حاضراً ضمن المهرجان، لكن شرط أن تكون هناك رؤية فنية متميزة ومختلفة. مثلاً في الدورة الثانية للمهرجان، كان هناك عرض للراقص اللبناني بشار أبو ذياب، حول الدبكة وبخطوات الدبكة أيضاً؛ ولكن برؤية جديدة أعتبرها رقصاً معاصراً، أي أن ما يعنينا هو أن يكون العرض ملتزماً بمعايير فنية وركحية معينة، وذات جودة.

ما مدى حاجة الراقص العربي إلى مهرجانات خاصة بالرقص؛ مثل أيام قرطاج الكوريغرافية؟
– ما نلاحظه اليوم هو عدم وجود الرقص في السياسات الثقافية؛ ولهذا فإن وجود مهرجان مثل أيام قرطاج الكوريغرافية يتطلع لأن يكون شبكة تواصل للإبداع والمبدعين العرب والأفارقة؛ من شأنه أن يخلق سوقاً وصناعة ثقافية… من شأنه أن يقول ما دامت هناك مشكلات عديدة تواجه الراقص كالسفر وغيره، فدعنا نجتمع كمبدعين عرب، ونتحد ونخلق شبكة تواصل قادرة على أن تخلق سوقاً عربية للكوريغرافيا.
اقرأ أيضاً: الرقص التاهيتي.. كيف يؤثر الاستعمار على ثقافة المكان؟

ألا تعتقدين أن تهميش الرقص أيضاً مرتبط بالنظرة العربية الدونية إلى الجسد؟
– لا أوافق على هذه الفكرة؛ لأنني لا أتصور أن هناك نظرة عربية واحدة إلى الجسد والرقص؛ أعتقد أن الأمر مرتبط بالبيئة والعائلة. الرقص كان دائماً موجوداً عربياً، ولو أني كأكاديمية وجدت صعوبات كثيرة في إيجاد كتب قديمة حول تاريخ الرقص عربياً؛ ولكن هذا لا يلغي وجود الرقص حتى فقهياً، مثلاً في الصوفية الرقص موجود. هناك فكر عربي محافظ حول الجسد نعم؛ ولكن هذا فكر موجود على صعيد دولي، والذي يضع الجسد الراقص فقط في دائرة الإثارة. وأريد أن أوضح شيئاً مهماً حول تاريخ الرقص الشرقي؛ إذ نتوقع أن النظرة الدونية لجسد الراقصة العربية هي “عربية”، في حين أن البحوث التي أشتغل عليها في هذا الموضوع تقول إن المسألة كولونيالية استعمارية؛ هي في الحقيقة نظرة المستعمر لجسد المرأة العربية المسلمة، والذي جعلها محور إثارة وتسلية هو خطاب استعماري تم تسويقه لا غير.