الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربيةمقالات
حكايات عربية.. مروان بن محمد في أواخر أيام دولته

أحمد بن سليمان المطرودي ♦
تقديم المقالة بصوت الكاتب
“جلس مروان بن محمد، وقد أحاطت به جيوش العباسيين، وعلى رأسه خادمٌ قائم.. فقال مروان لبعض مَن يخاطبه: ألا ترى ما نحن فيه؟
لهفي على أيدٍ ما ذُكِرتْ، ونَعَمٍ ما شُكِرتْ، ودولة ما نُصِرتْ.. فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين مَنْ ترك القليل حتى يكثر، والصغير حتى يكبر، والخفيُّ حتى يظهر، وأخَّرَ فعل اليوم إلى غَدٍ حلَّ به هذا وأكثر.. فقال مروان: هذا القول أشدُّ عليَّ من فَقْدِ الخلافة”.
سأضرب صفحًا عن محاولات ردم فجوات هذا النصّ، الذي أورده ابن كثير في “البداية والنهاية”، وهي فجوات يحملها النص في أحشائه، وتسهِّل عملية إسقاط رواية النص وسنده ونسبته؛ فهذا النصّ يبقى عندي نصًّا في كل أحواله؛ بل هو نص قد يكون رُكِّبَ ليوائم تلك اللحظة التاريخية، التي تقوّضتْ فيها دولة بني أميّة، وقامت دولة بني العبّاس.. وسأغضُّ طرفي وعينيَّ عن نسبة تلك الحِكَمِ التي جاد بها الخادم، دون المستشارين المرافقين لذلك الخليفة في تلك اللحظات؛ دون أن يأذن له الخليفة، الذي توشك خلافته على الاندثار… وهي حكاية من حكايات شعبية تستحضر حضور مثل هؤلاء المهمّشين، وتعكس حضور مكوِّنٍ ثقافي في كل حال.
اقرأ أيضًا: مشاكلة الناس لزمانهم وما يغلب عليهم في كل عصر
وفي القول: “من ترك القليل حتى يكثر…” دلالةٌ على أن الحزم لو كان حاضرًا من البداية لما آلت الأمور إلى ما آلت إليه، وهذا جانب مشرق يبرز لِيْنًا، يضمره النص، ويحتاج منّا إلى تنقيب يُعطي هذا الخليفة حقَّه، ويبرز سماته، وشجاعته، وحسن إدارته؛ خلافًا لما يبدو من النص للوهلة الأولى.
لَحْظُ ذلك الخليفة كان يرقب دعائم دولته التي تهاوت، ولم يرقب ميلاد إمبراطورية عباسية عربية، حملت في ما بعد أجمل حياة، ونقلت لنا وعنّا أجمل صورة، ما زالت حاضرة في أذهاننا، وما زلنا نفاخر بها، وبمنجزاتها.
واستفزازًا لمنطوق ذلك النص، قد نتساءل قائلين: ماذا عن الظروف الأخرى المحيطة بهذا النص في تلك اللحظة التاريخية؟
وماذا عن الجهود التي بذلها مروان بن محمد في أواخر أيام دولته؟
عُرِفَ أبو عبد الملك مروان الثاني بن محمد، بمروان الحمار، بعد أن خلع على نفسه ذلك اللقب، أو مروان الجعديّ؛ نسبةً إلى مؤدِّبه الجعد بن درهم.. والتشبيه بالحمار هنا سمة مدح لا ذمّ، كما قد يتبادر إلى الذهن؛ فقد اعتمد ذلك التشبيه على أخذ صفتَي الصبر والتحمُّل من الحمار، دون الغباء والبلادة؛ فيقال: أصبر من حمار.. وقد تكون هذه التسمية مأخوذة من قول العرب: كل مئة سنة حمار، وقد قارب ملك بني أمية مئة سنة في تلك الحقبة التاريخية. وعمومًا فإن اللقب (الحمار) ينبئ عن تلك الجهود التي بذلها مروان هذا، ويعكس جانبًا من تلك الحروب والمعارك التي خاضها هذا الخليفة في محاولة معالجة تلك الانكسارات التي قضت على دولة بني أمية.
اقرأ أيضًا: هل سمعت من قبل بالاحتلال الإسباني الحالي للمدن المغربية؟
وقد تدرَّج هذا الخليفة في العمل السياسي؛ إذ كان واليًا على إقليم أرمينيا وأذربيجان، وقد أظهر كفاية وقدرة في إدارة شؤون ولايته، بعد معارك كبيرة؛ أخمد فيها ثورات كانت تنهش أطراف الدولة آنذاك.. وهذا يعطينا صورة أخرى جميلة تقابل تلك الصورة السلبية التي رسمها نص ابن كثير، وأحاط بها مروان بن محمد. وقد بدا من أعماله التي أوردنا شيئًا منها رباطة جأش بقيت ملازمة له؛ حتى آخر يوم في حياته، بعد أن توّج نجاحاته خليفةً قرابة ست سنين؛ لكنّ تلك السمات غابت في نص ابن كثير وأخفاها!
وانطلاقًا مما مضى من تبيان لمجمل ملامح وسمات شخصية هذا الخليفة قد نساير ذلك الخليفة، وننطلق من منطلقاته، ونرى الأمور بعينه فنعتبر فشله في تلك اللحظة كان وقودًا لنجاح استبطنه عبد الرحمن الداخل في تدشين دولته الأندلسية، التي اتحفتنا بابن حزم وابن رشد وابن خلدون.. وهذا يحتاج إلى شيء من التجوز، أو القفز ومسايرة وقبول فكرة الانتقال الثقافي عبر عرق، أو ثقافة خاصة.
وقد نمتد بذاكرتنا فنرقب بحسرة بالغة ما آلت إليه الدولة العباسية بعد قرون من سقوط موجع، وجرح لا يزال ينزف، مصطحبين قول الله تعالى: “وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس“، مترقِّبين أيامًا تعود فيها أمّتنا إلى الواجهة.
♦ مختص باللغويات التطبيقية وعلم اللغة الحاسوبي