الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةرفوف المكتبة

مذكرات يهودي مصري

كيوبوست

عبد الرحمن النقبي♦

غلاف الكتاب

“وُلدتُ في عهد الملك فؤاد، وحضرت عصر الملك فاروق بأكمله، وعاصرت ثورة يوليو بدايةً من محمد نجيب، مروراً بجمال عبد الناصر وأنور السادات ومحمد مرسي وثورة 25 يناير، وصولاً للرئيس السيسي”.

هذه هي الكلمات التي كتبها الكاتب اليهودي المصري ألبير آريه في مستهل سيرته الذاتية التي سمّاها “مذكرات يهودي مصري”، والتي اعترف فيها بأنه غير نادم على أفكاره حتى لو تغيّرت بعض قناعاته على مر الزمن، خاصة السياسية منها، والتي علّمته حب مصر والتمسّك بها، ورفض أي محاولة للنفي منها.

تعود أصول ألبرت آريه إلى يهود إسبانيا أو الأندلس، أو كما يسمونهم السفارديم، والذين تمّ تهجيرهم قسراً بعد إصدار فرناند وإيزابيلا “مرسوم الحمراء” في 1492 الذي يقر بطرد اليهود الموجودين في إسبانيا وأقاليمها قبل 31 يوليو من نفس العام.

كان قد استقر الأمر بأجداد الكاتب الهجرة إلى أوروبا، والتي كانت تركيا آخر محطاتهم فيها، حيث قرر والده، في بداية القرن العشرين، مغادرة تركيا بسبب سوء أحوال العائلة المادية بعد وفاة جده، ولوجود بعض أقاربه في القاهرة، وعمل فيها فور وصوله إليها في قسم الحسابات بمحل “بلاتشي”.

أبصر الكاتب النور في 25 يونيو 1930 في شارع الفلكي في منطقة باب اللوق في القاهرة بعد شقيقته التي وُلدت قبله بستة أعوام. عند بلوغه الخامسة ألحقه والداه بمدرسة الليسيه الفرنسية حيث كانت الدراسة باللغة الفرنسية، مما اضطر والده إلى إحضار شيخ أزهري لتعليمه اللغة العربية التي كان يجد صعوبة في التحدّث بها.

  اقرأ أيضًا: مايك بومبيو… مذكرات مقاتل من أجل أمريكا (4-5)

بداية اهتمامه بعالم السياسة كانت مبكّرة، ولم يكن قد بلغ سن العاشرة في ذلك الوقت، حيث تولّد الشغف بالسياسة مع بداية الحرب العالمية الثانية التي تابع أحداثها ومعاركها بعقله ودمه، ولا غرابة في تسمية جيله “جيل 1945”. في هذه الفترة بدأ اطلاعه على مجريات الأحداث بقراءة جريدة “البورصة” بشكلٍ يومي، والتي كانت تصدر باللغة الفرنسية. كما كان مواظباً على سماع نشرات الأخبار وتطورات الأحداث عبر الراديو، حيث كان يستمع لإذاعة لندن الناطقة بالفرنسية التي كانت تبث خطابات الرئيس الفرنسي شارل ديجول الذي أعلن عن استمرار فرنسا في الحرب، وكانت والدته توبّخه بسبب سهره وتأخّره عن مواعيد المدرسة. وكانت شقيقته تشاطره ذات الشغف، حيث شاركت في حملة نشطة قام بها شباب يهود تدعو إلى مقاطعة البضائع الألمانية.

في تلك الفترة بدأ يسمع عن أسماء بارزة في الحركة اليسارية أمثال هنري كوريل الذي كان يمتلك مكتبة الميدان، كما بدأت الكتب التي تروّج للشيوعية بالانتشار، وظهرت كتب ماركس وإنجلز، وبدأ بعد ذلك انضمام الكثير من المصريين للحركة الشيوعية.

كارل ماركس – أرشيف

كما راج في تلك الحقبة سوق الروايات التي تُروّج للشيوعية، وذكر الكاتب بأنّ قراءته رواية “الأم” لمكسيم غوركي، التي أحضرتها شقيقته للمنزل، كانت البداية التي غيّرت مجرى حياته وأدخلته عالم الشيوعية، مثلما فعلت مع الكثيرين من رفاق دربه.

رحلته مع عائلته إلى فلسطين في يوليو 1944 كانت هي تجربته الأولى في السفر إلى خارج مصر، حيث كانت تجربة مهمة لمعرفة ما يجري على أرض الواقع في الأراضي الفلسطينية من توسّع عمليات الاستيطان الصهيونية، والصراعات القائمة بين اليهود والعرب والانجليز. كان العداء والصراع الحقيقي في ذلك الوقت بين الإنجليز و”التنظيمات الصهيونية الإرهابية” مثل عصابة شتيرن وعصابة الأرجون، حيث كان عمل العصابتين يتمثّل بعمليات تخريب وقتل الإنجليز. وقام الكاتب وعائلته في ذات الرحلة بزيارة لدمشق، وبيروت، والأراضي الفلسطينية.

بعدها بأشهر قليلة تعرّف إلى هانز بينكاسفلد، وهو مدرس نمساوي يُدرّس في إحدى المدارس الحكومية وبدأ بإقناعه بالانضمام إلى الشيوعية. بعد ذلك بأشهر قليلة، سافرا معاً إلى فلسطين للتعرّف عن قرب على الكيبوتزات (المستوطنات) التي كانت نقاط ارتكاز يتم عبرها احتلال الأرض، ثم يتم تأسيس نوع من أنواع المجتمعات الزراعية العسكرية التي تُدار بشكلٍ تعاوني. هذا الرحلة أعطته الفرصة للتعرّف على الفكر الصهيوني، الذي لا يؤمن به، عن قرب، وأكّدت له “أنّ إسرائيل هي عبارة عن كيان مغتصب للأرض بغرض فرض نظام عسكري”.

ألبير آريه في شبابه

بعد عودته من فلسطين، بدأ أولى الخطوات الفعلية والرسمية لدخوله عالم الشيوعية، حيث بدأ بحضور حلقات دراسية تُلقيها سيدة مصرية يهودية من أصل سوري اسمها بوليت سيتون، حيث كانت الاجتماعات في ذلك الوقت تقتصر على دراسة للماركسية، ويقرأون فيها كتب ماركس ولينين.

أخذ الحماس آريه وزملاؤه وأنشأوا ما أسموه فرع الشباب لرابطة قدامى طلبة مدرسة الليسيه، وكانت الأنشطة التي يقومون بها ثقافية تعليمية أكثر منها سياسية.

بعد دخوله عالم الشيوعية في ذلك الوقت، 1946، بدأت تتكشّف له الحياة السياسية في مصر والأحزاب الأخرى، مثل حزب الوفد وجماعة الإخوان المسلمين الذين كان لهم دور في تخريب الحركة الوطنية. حدثت أول ضربة نوعية للبوليس ضد الشيوعيين في 1946 وتمّ إغلاق كل الأندية الشيوعية عدا اليونانية، ولأول مرة يتم الزج بالشيوعيين في السجن.

تمّ بعد ذلك تعيينه مسؤولاً عن خلية من المرشحين، بحيث يقوم بتدريسهم الماركسية دون ذكر اسم التنظيم. في عام 1947 أصبح عضواً في الحركة الوطنية للتحرّر الوطني (حدتو)، وتحديداً في مكتب الدعاية التابع لقسم الأجانب.

حدثت بعد ذلك تكتّلات داخل الحركة الشيوعية، وتعرّض منزله للمداهمة والتفتيش من قبل عناصر شيوعية منشقّة، وبسبب هذه التكتّلات تمكّن البوليس من اختراق التنظيم. داهم البوليس بعدها منزل ألبير في غيابه بحثاً عنه بعد انكشاف أمر انضمامه للحركة الشيوعية للبوليس، ونصح أحد الضباط والده بأن يعمل معه في محله لكي يبقى تحت مراقبته، واستمر الوضع لفترة وجيزة من الزمن.

بعد إعلان قيام دولة إسرائيل ودخول الجيوش العربية في حرب فلسطين، بدأت حملة اعتقالات لأفرادٍ من جميع التيارات بما فيها الشيوعية. وأُدخل العديد من الشيوعيين السجون والمعتقلات حيث أُقيم معتقل في جبل الطور، وآخر في الإسكندرية في أبو قير. دخل بعدها ألبير مرحلة جديدة في نشاطه السياسي، وانتقل من الأبحاث والأرشيف إلى العمل السري، وأصبح مسؤولاً عن تأمين المختبئين من الحزب الشيوعي.

آخر صورة للراحل ألبير آريه

بعد ثورة يوليو واستيلاء الجيش على الحكم، كانت ردّة فعل الشيوعيين متحفظة على الانقلاب العسكري كما هو ديدنهم. تمّ العفو عن المساجين السياسيين الذين قاموا بعملياتٍ ضد الانجليز باستثناء الشيوعيين بحجة أن الشيوعية جريمة اجتماعية.

في 15 يناير 1953 أعلن مجلس قيادة الثورة إلغاء الأحزاب وإلغاء الحياة النيابية، وفي نفس اليوم تم اعتقال الشيوعيين، ونقلهم إلى معتقل جبل الطور. وأصبح نشاط الحركة الشيوعية بعد ذلك أكثر سرية وكانت الكثير من الاجتماعات تُعقد في سيارة ألبير.

أخيراً تمّ القبض على ألبير آريه في منزله في 3 نوفمبر 1953 بعد مداهمة عناصر الشرطة وعثروا خلالها على منشورات تُثبت تورّطه في الحركة الشيوعية، وتم الزجّ به في السجن الحربي لبضعة أشهر قبل ترحيله إلى سجن مصر (قره ميدان) حيث وُجهت إليه، وإلى رفاقه، تهمة تكوين جبهة وطنية ديمقراطية، وإدارة وتنظيم الحركة الديمقراطية للتحرّر الوطني. بعد أشهر قليلة صدر عليه الحكم بالسجن ثماني سنوات مع الأعمال الشاقّة، وكانت رؤية والديه له في السجن وحول قدميه القيود الحديدية مؤثرة جداً وهو الأمر الذي جعله يبكي بحرارة في زنزانته بعد مغادرتها.

تمّ بعدها ترحيله إلى سجن ليمان طرة الذي كانت إحدى ميزاته السماح بإدخال الكتب. بعد محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في 1954 تمّ الزج بالبعض من جماعة الإخوان المسلمين في السجن ذاته الذين تعرّضوا فيه إلى معاملة قاسية، وكان من ضمن المسجونين مهدي عاكف الذي أصبح بعد ذلك مرشداً عاماً للجماعة خلال حكم مبارك، وكانت علاقته معه في السجن جيدة بشكلٍ عام.

سجن ألبير آريه مع محمد مهدي عاكف المرشد الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين

في يونيو 1955 تم ترحيلهم إلى سجن الواحات الجديد لإفساح المجال للقادمين الجدد لسجن ليمان طره حيث تم حشرهم في عربات نقل المواشي الملحقة بالقطار، ونُقلوا إلى سجنهم الجديد حيث كانت زنازينهم عبارة عن خيام في وسط الصحراء وبلا كهرباء وقاموا بتربية الدجاج من أجل الحصول على البيض.

استطاع آريه ورفاقه إدخال راديو إلى السجن أحضره والده بالتعاون مع أحد السجّانة، وبفضله استطاعوا معرفة ما يدور من أحداث خارج أسوار السجن، حيث كانوا يستمعون لآخر الأخبار والتطورات، خاصة السياسية منها، لمدة 5 ساعات يومياً. من الجدير بالذكر دور زوجات المساجين المهم في إيصال أخبارهم إلى التنظيم العالمي الذي أثار قضيتهم ومعاناتهم، وأسهم في تحسين معاملتهم والإفراج عن بعضهم.

بعد العدوان الثلاثي، تمّ طرد رعايا فرنسا وإنجلترا وتمّ القبض على اليهود من جنسياتٍ أخرى، وكانت بداية الهجرة المنظّمة لليهود.

محمود السعدني

في 1957 تم نقله إلى سجن مصر من أجل تلقّي العلاج، وبعد عامين، في 1959، بدأت حملة اعتقالات كبرى للشيوعيين، وكان من ضمنهم محمود السعدني ولويس عوض، وهي السنة التي حدثت له واحدة من أكبر الصدمات في حياته، وهي وفاة والده.

في إبريل 1964 تمّ الإفراج عنه وخروجه من السجن بعد أن قضى 11 سنة خلف القضبان. بعد ذلك بعام، هاجرت والدته إلى فرنسا لزيارة ابنتها، وأُجبرت على التنازل عن جنسيتها المصرية مقابل السماح لها بالسفر وهو ما قامت به.

اقرأ أيضًا: موسوعة الجماعات والتنظيمات والحركات والفرق “الإسلامية”

بعد ذلك ربطته علاقة حب بسهير وهي فتاة مصرية من أسرة مسلمة، ورغب في الزواج منها واضطر من أجل ذلك إلى ترك ديانته اليهودية، واعتناق الإسلام. وبالفعل أصبح مسلماً وتزوج من سهير التي أنجبت له سامي وهاني.

بعد النكسة، تم اعتقال جميع اليهود البالغين في مصر والزج بهم في السجون، حيث تعرّضوا لمعاملة قاسية، وبعدها تم نفيهم خارج مصر، وأُجبر من يحمل الجنسية المصرية على التنازل عنها ومغادرة البلاد.

على الصعيد المهني، عمل آريه في تجارة تصدير الزهور والخضروات التي درّت عليه ما يوفّر له حياة كريمة.

ميدان التحرير في مصر أثناء ثورة 25 يناير

ربما يكون آخر وأهم حدث سياسي عاصره الكاتب هو ثورة 25 يناير التي كانت مفاجأة بالنسبة له وللكثيرين. على الرغم من احترامه وتقديره للتضحيات التي قدّمها الشباب المصري في الثورة إلا أنه يرى، من وجهة نظره، بأنها لم تُغيّر الأوضاع السياسية والاجتماعية على عكس ثورة يوليو 1952 حيث حدث تغيير جذري في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ما حدث في يناير أشبه ما يكون بانتفاضة شعبية لم يُتوقع لها النجاح.

“في النهاية أحب أن أقول إن شهادتي هذه ليست شهادة على تاريخ مصر، بقدر ما هي شهادة على أشخاص، مصريين وغير مصريين، عاشوا فيها وخارجها”.

بهذه الكلمات اختتم ألبير آريه مذكراته القيّمة، والتي كان فيها شاهداً على جزء من تاريخ المجتمع اليهودي في مصر، وبذل في سنواته الأخير جهده في سبيل الحفاظ على التراث اليهودي، وهو الأمر الذي ورّثه بعد ذلك إلى ابنه الأكبر سامي.

المؤلف: ألبير آريّه

الناشر: دار الشروق

تاريخ الصدور : 2023 

♦كاتب وباحث مهتم بالشأن الاجتماعي والسياسي، حاصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال

اتبعنا على تويتر من هنا

 

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات