الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة

مدينة صعبة المراس .. بريدة شاغلة الناس

"مدينة تعشق القوة، القوة في المال والعلم، والدين أيضًا والتأثير الاجتماعي، شعلتُها حكر على الأقوياء، وحرام على الضعفاء والهزالى.. ولكي تعترف بك بريدة عليك أن تنتظر طويلًا، وكن حذرًا فقد تفقد كل مكاسبك في ساعة من نهار إذا استهنت بقواعد اللعبة".

بريدة: كيوبوست

“جمال هذه المدينة يكمن في أنها تتعافى سريعًا بعد أي حدث يمكن أن يصدر من واحد من أبنائها، فما تلبث أن تمتص هذا الحدث وتعود أشد ألقًا مما كانت؛ حيث تفيض محبةً وتسامحًا وولاءً لهذا الوطن وقيادته. أهلها لديهم إيمان عميق وقناعة راسخة بأهمية الاستقرار والأمن، ووعي راشد بمفهوم الدولة واستحقاقاتها، ولهذا فلا يمكن لأي انحراف أن يجد له امتدادًا أو حضورًا في العقل المجتمعي؛ بل سرعان ما يلفظ هذا الخطأ ويحاصر ثم تتنفس المدينة حياةً بروح جديدة وكأن شيئًا لم يكن”.

خالد أبا الخيل

هكذا يصف عميد كلية الشريعة بجامعة القصيم خالد أبا الخيل، مدينته بريدة. ينتمي خالد إلى واحدة من أعرق عوائلها التي حكم أحد فروعها بريدة في الفترة الهشَّة التي عرفتها نجد بين تضعضع ثم سقوط الدولة السعودية الثانية وقيام الثالثة.

انتقادات قاسية لأهالي القصيم

في شهر نوفمبر الماضي، انتشر مقطع فيديو لهند الدبيخي، وهي من أهالي بريدة، وحاصلة على الدكتوراه في التربية من بريطانيا، وجهت فيه انتقادًا قاسيًا إلى أهالي منطقة القصيم ومدينة بريدة خصوصًا، وتفاوتت التُّهم التي وجهتها إلى أهالي وإناث مدينتها بين الغدر وعدم الثقة والعنصرية والتفرقة بين أبناء القبائل وغيرهم وتقسيم الناس بين “القبيلي” و”الخضيري” الذي لا ينتمي أو ليس لديه ما يؤكد انتماءه إلى قبيلة معروفة، ولم تمضِ أربع وعشرون ساعة حتى أوقفتها السلطات، وبعد يومَين انتشرت رسالة صوتية قيل إنها لرجل من أقاربها احتوت تهديدًا بقتل كل مَن ينتقد هندًا، بعدها ألقت السلطات القبض على صاحب الرسالة وأصدرت بيانًا في ذلك، وأُطلق سراحه بعدها. أصدر القضاء في منتصف شهر يناير الماضي على هند الدبيخي حكمًا -مع وقف التنفيذ- بالسجن ثمانية أشهر وغرامة ثلاثين ألف ريـال، وأُشيع أنها غادرت البلاد.

اقرأ أيضًا: حفلة غنائية لمحمد عبده في “بريدة المُحَافِظة” تُسَجِّل ترندًا عالميًّا (الحلقة الأولى)

شخصية رجل العقيلات صنعت بريدة

صالح بن عبدالله التويجري، المدير العام السابق للتعليم في منطقة القصيم، وهو واحد من وجهاء مدينة بريدة ومثقفيها، تحدث إلى “كيوبوست”، مؤكدًا أنه “طيلة عمرها الزمني لم تعرف بريدة أي شكل من أشكال العنصرية، بشكل يؤثر على صورة المدينة أو يغلب عليها كصفة، وأنها كانت وما زالت خير مثال على انفتاح المجتمعات والتعاطي مع الجديد وقبول الوافد”.

وذكر التويجري أن مردّ ذلك راجع إلى الاحتكاك المبكر بالثقافات الأخرى المتاخمة للجزيرة العربية؛ كالعراق والشام وفلسطين ومصر، وكذلك بجوارها الخليجي. ويعتبر التويجري وهو ابن لأحد رجالات العقيلات أن شخصية رجل العقيلات أثرت في عقلية المدينة وشكَّلتها؛ خصوصًا إذا عرفنا أن سبعين في المئة من أهلها هم أحفاد العقيلات، وهذا ما جعلها مهيئة لقبول الآخر، ومن طبيعة المجتمعات التي يزاول أهلها التجارة والترحال المستمر ذوبان أي تمايز بين شرائحها.

صالح التويجري

“عُرفت مدينة بريدة بأنها مهد تُجار العُقيلات الذين وضعوا بصمتهم على المدينة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وانعكس تأثيرهم واضحًا في الثقافة والاجتماع والتحالفات السياسية ونمط العمران والبناء والعادات الغذائية والمحاصيل الزراعية، ورسَّخوا علاقات واسعة ممتدة خارج الجزيرة العربية؛ من الهند حتى مصر والسودان، مصحوبةً بالانفتاح والاقتباس من عادات وتقاليد المجتمعات العربية والإسلامية وغيرها شرقًا وغربًا”.

بريدة هي عاصمة منطقة القصيم وسط السعودية شمال غرب الرياض، وتضم القصيم قرابة مليون وأربعمئة ألف نسمة. ويمثل سكان بريدة الغالبية بنسبة تقارب الـ60%، مقارنةً بباقي مدن المنطقة، واقتصاديًّا تكاد تحتل المرتبة الثالثة في الحركة التجارية على مستوى السعودية، وعُرف أهلها بالادخار وحُسن التدبير والنفور البالغ من الكسل ونبذ المتبطلين. ومنذ عشرينيات القرن الماضي/ أربعينيات القرن الماضي الهجري، تعرَّضت المدينة إلى تجذير منهجي لترسيخ التعاليم الدينية الأكثر محافظةً، كان من أسبابها تضعضع مدرسة ابن جاسر التي كانت أكثر انفتاحًا؛ ولكن خياراتها السياسية المترددة مع صعود نجم الملك عبدالعزيز أثارت الشكوك حول ممثليها وأتباعها في حقيقة ولائهم، وتسببت حزمة من المواقف والخلافات مع علماء الرياض في تقهقر هذا التيار وتراجعه لصالح التيار الأكثر تشددًا.

مدينة التمور في بريدة

بريدة الانفتاح المتعقل

في شارع عثمان بن عفان شمال بريدة، يعج مقهى “جاما” بالشباب من الجنسَين نهارًا، وعلى بُعد خطوات من المكان تقف سيارة شرطة تحرس المكان. يقول عبد الرحمن، رجل خمسيني، وهو يقود سيارته قريبًا من المكان: “إن الشرطة موجودة لحماية الإناث في المقام الأول ولضبط السلوك”. في هذا المقهى يجلس الشباب مقابل الصبايا من دون عازل. وإذا كنت عند الحادية عشرة صباحًا تقود سيارتك قريبًا من “جاما”، فعليك أن تقود حذرًا بسبب الزحام؛ حيث يعجّ المكان بالمرتادين من الطلاب. الشعور بالأمان هنا منبعه شيء واحد هو غياب هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يمكن أن تشاهد سيارات الهيئة في شارع البخاري على بُعد كيلومترَين إلى الغرب من جاما؛ هذا الشارع المزدهر يعج بالمقاهي والمطاعم، وتقف سيارة الهيئة قبالة المطاعم التي تزدحم بالجنسَين. وخلافًا لسابق عهدهم، فإنه لا يحق لأعضاء الهيئة التهديد أو توقيف أحد أو إبداء ملاحظات على سفور البنات أو تعنيفهن لفظًا، يمكن للهيئة فقط التواصل مع الشرطة عند أي خرق للقانون وقواعد السلوك العام. قبل أربع سنوات خضعت هيئة الأمر بالمعروف لعملية إصلاح جذرية، قلَّمت مخالبها وحجَّمت دورها، وجعلتها تحت الرقابة والمحاسبة الصارمة. هذا الإصلاح التاريخي تراه القيادة السعودية ضروريًّا لتهيئة المجتمع للمستقبل، ولفتح البلاد للسياحة وَفق رؤية 2030.

شاهد: لمحة تاريخية عن بريدة- د.عبدالسلام الوايل

مدينة تجافي الدعة والكسل

يمكننا اعتبار هذا المشهد إحدى علامات التحول الوطني وانعكاسًا لمسيرة الانفتاح التي يقودها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان؛ ولكن هذه ليست هي السمة الأبرز للمدينة، فبريدة مدينة جادة تجافي الدعة والكسل والميوعة. تستيقظ فجرًا لتعيش تحديًا مع المستقبل محافظةً على مكانتها كواحدة من أكثر مدن الشرق الأوسط ازدهارًا. “إنها تختزل قصة أولئك المصلين المؤمنين، الذين يقضون صلاتهم فجرًا، بقلوب مرهفة، وألسنة رطبة، وحين يتجاوزون عتبات المسجد يشمرون عن سواعدهم منذ الغلس؛ ليضربوا في الأرض وينافسوا كبار العقول الاقتصادية في عالمنا، إنهم أبناء واحة في قلب الصحراء استثمروا حذرهم وخوفهم من الطبيعة وخبرتهم في أحزانها وقسوتها وحكايات رجال عقيل من الأجداد والأسلاف المتغربين، وغريزة البقاء والتشبث بالحياة؛ ليجعلوا منها بؤرة تنبض بالازدهار والابتكار والتحدي”. في تعبير شاعري حسب واحد من أبنائها.

أحد مساجد بريدة القديمة

يقول ناصر، وهو باحث اجتماعي: “قبل سنوات قليلة كان المتر على شارع البخاري لا يزيد على مئة وثمانين ريالًا، الآن لن تجده بأقل من أربعة آلاف ريـال. هو عنوان ازدهار هذه المدينة التي أحببتها منذ نعومة أظافري، من حين انتقل أبي من البكيرية غرب بريدة، في أواخر ستينيات القرن الماضي”. يؤكد ناصر أن الإناث الآن يتمتعن بوعي كبير بحقوقهن وحريتهن، وهو أمر أحدث بعضًا من الارتباك لدى الجنسَين، تسبب في بعض الحوادث العائلية التي تعبر عن عدم القدرة على الانسجام مع التحول الذي تعيشه البلاد.

في أواخر شهر يناير الماضي، كانت مجموعة من رجال الأعمال الشباب تتبادل الآراء وتناقش مستقبل العقار في المدينة.. يقول سلمان، وهو عقاري في الثانية والثلاثين: “هناك ازدهار ونهوض، بعد ضخ الدولة الأموال في مشروعات الإسكان، تحرك كل شيء نحو الأفضل. المشكلة أن عمالة البناء في تناقص مع سياسة السعودة الصارمة، وسعر المتر يزيد. بالمقارنة بأسعار أوائل العام الماضي، فإنها الآن قفزت إلى الضعف”. وعلى بعد 18 كيلومترًا في خب حويلان في الريف الغربي لبريدة، كان خمسة من رجال الأعمال تتفاوت أعمارهم بين الخامسة والعشرين ومنتصف الأربعين، يؤكدون أن الأوضاع الآن مواتية للاستثمار. يقول سامي، وهو مالك مصنع أغذية: “بعد التصحيح والإصلاح الاقتصادي في الأعوام الثلاثة الماضية، فإن الذين صمدوا في 2019 هم الأكثر حظًّا للفوز بكل فرص 2020، أصحاب المصانع هم الأكثر حظًّا؛ لأن الحكومة تدعم هذا القطاع بتشجيع التصنيع وإسقاط رسوم العمالة التي أنهكت التجار”، كما يؤكد عبدالله الرشيد، وهو صاحب مصنع للبسكويت شرق بريدة، يعمل فيه مئة وثلاثون عاملًا.

شاهد: العليقي: من تاريخ بريدة الجميل

متى تغيَّرت معالم شخصية بريدة؟

الدكتور عبدالرحمن المشيقح، عضو مجلس الشورى السابق وواحد من أعيان مدينة بريدة، ذكر في حديثه إلى “كيوبوست”، أن قوافل العقيلات (منذ بدايات القرن التاسع عشر حتى عشرينيات القرن العشرين) أكبر حركة تجارية في الجزيرة العربية في وقتها، انطلقت من بريدة. يقول المشيقح: “هذا أكبر دلالة على سعة أفق هؤلاء الرجال وبُعدهم التام عن الانغلاق في وقت كان فيه المسافر إلى الخارج يؤثم ويفسق”.

ويستطرد المشيقح: “من بعد ضم حجيلان بن حمد (بلدة الشماس) المندمجة في مدينة بريدة الآن، ومعالم شخصية المدينة تغيَّرت وتحوَّلت؛ إذ بدأ بالاستقطاب الحر لكل صاحب مهنة أو حرفة، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى غير المهارة والإبداع، ويمكن أن نقول إن مدينة بريدة أول مدينة اهتمت بالصناعة قبل 70 سنة أو أكثر، وفيها شارع من أصل المدينة وفي عمقها التجاري يُعرف باسم (شارع الصناعة). وعلى الرغم من النظرة التقليدية لأبناء القبائل لبعض المهن؛ فإن بريدة استوعبت ذلك وقبلت كل العاملين بالمهن بلا استثناءات أو تمييز، إلا الكفاءة والاجتهاد”.

عبدالرحمن المشيقح

ويقول المشيقح: “إن ما ينفي أي سبب لوجود العنصرية بشكل يطغى على الجو العام للمدينة، هو كونها لم تؤسس على عائلة أو قبيلة كغالب المدن؛ فهي خليط وأجناس مختلفة تعايشت في ما بينها وَفقًا للمشتركات الإنسانية”.

المدينة المألوفة

نوال بنت عبدالله العجاجي، مديرة إدارة التعليم الأهلي والأجنبي بتعليم القصيم سابقًا، ونائبة رئيس جمعية حرفة التعاونية، وصفت مدينتها بريدة بأنها صديقة روحيًّا للإنسان، والتي يألفها القادم إليها وتألفه بمجرد انخراطه في تفاصيل المدينة.

وتذكر الناشطة الاجتماعية العجاجي، أنها تتفاجأ أحيانًا بالنظرة المشوهة إلى كل مَن يزور المدينة؛ سواء من السعوديات من خارج المنطقة، أو من غير السعوديات؛ سواء العرب أو الأجانب، حيث تنشط العجاجي في استضافة عديد من زوار المدينة؛ لتعريفهم بها وبثقافتها وتراثها. “مردّ الفهم المغلوط لبريدة خصوصًا والقصيم عمومًا، ناجم عن تعميم النظرة من خلال موقف، أو حادثة عابرة، يردها المئات من المواقف التي تعبر عن مدى نبالة الإنسان القصيمي، ولا أدلّ على ذلك من الحكايات التي تُروى عن أجدادنا العقيلات، إن عملية التكافل والتكاتف الاجتماعي أبرز الصفات التي تميز المجتمع القصيمي”.

اقرأ أيضًا: مئة عام من التحولات جعلت “بريدة” مدينة استثنائية (الحلقة الثانية)

المدينة صعبة المراس

وأصبحت بريدة منذ مئة عام هي الأكثر إنتاجًا للفقهاء والقضاة، بعد العاصمة الرياض. وسياسيًّا عُرفت بالولاء للحكم السعودي منذ الدولة السعودية الأولى؛ ولكن مع سجية صاحبت المدينة لا تزال إلى عهد قريب تمثل إحدى ميزاتها وهي صعوبة المراس، وبنزوع طاغ للفخر والشعور بالتمايز عن مثيلاتها من المدن في المملكة، وإصرار لا يكل على المطالبة المزمنة بتحسين الخدمات وتوفير المرافق.

يقول الروائي والمؤرخ موسى النقيدان: “أهل بريدة لا يتوانون عن التجمع وركوب سياراتهم والاتجاه إلى العاصمة الرياض؛ لمتابعة احتياجات مدينتهم من مرافق وغيرها”.

يقول أحد الباحثين: “عليك أن تأخذ في الحسبان أنهم يتعصبون لمدينتهم وليس للقبيلة أو العشيرة. إنها واحدة من أكثر مزايا الحواضر المتمدنة”.

موسى النقيدان

وشهدت مدينة بريدة منذ أربعينيات القرن الماضي/ ستينيات القرن الهجري الماضي، موجات من الهجرة إليها على مدى الأعوام الثمانين الماضية، المدينة التي جعل منها الأب المؤسس حجيلان بن حمد، في أواخر القرن الثامن عشر حتى الربع الأول من القرن التاسع عشر، الواحة الأكثر ازدهارًا في وسط الجزيرة العربية؛ بفضل الهجرة القائمة على الانتقاء.

وفي عام 2015، ذكرت دراسة خاصة رفعت إلى وزارة الداخلية أن بريدة تشهد صعودًا لشرائح اجتماعية كانت شبه مغيبة لعقود طويلة، ولأول مرة في تاريخ المدينة؛ حيث ازدهرت الملتقيات والصالونات الثقافية التي ينظمها أبناء القبائل ممن اعتبروا لعقود من الوافدين على أهلها. وفي لقاء في عام 2015 لصالح الدراسة، يشير عضو المجلس البلدي ببريدة ومدير فرع هيئة الرقابة والتحقيق في مدينة المجمعة بدر بن جزاء الفهيدي الحربي، إلى أن والده الراحل عمدة حي النقع، كان من أوائل مَن طالبوا بتعليم البنات في حي النقع شرق بريدة، وأن لديه خطابات تؤكد ذلك. كما شهدت بريدة منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي موجة هجرة كبيرة شجَّعت عليها الدولة، متزامنة مع تأسيس مؤسسات حكومية ومعاهد عسكرية وكليات وجامعة تعد واحدة من كبرى جامعات المملكة.

بدر جزاء الفهيدي الحربي

إلا أن المؤرخ والنسابة محمد بن ناصر العبودي، في كتابه “معجم أسر بريدة”، ذكر في مقدمته أنه لا يذكر في كتابه مَن استقر في المدينة بعد الأربعينيات الميلادية من القرن الماضي، معللًا ذلك بأن أهالي بريدة هم مَن كانوا يسكنونها قبل هذا التاريخ ضمن حدودها الجغرافية القديمة، مستثنيًا مَن تلاهم.

هل هذه النزعة المتحفظة التي عبرت عنها قاعدة العبودي تنم عن تصلُّب وتمنُّع من المدينة من أي اندماج وترحيب بالقادمين من خارجها؛ حتى ممن مضى على استقرارهم في المدينة ثمانون عامًا؟!

عبدالله الرواف، أحد وجهاء مدينة بريدة ومثقفيها، قال لـ”كيوبوست”: “ثمة صورة نمطية متجزئة من سياق عام، فصلت عن السياق الزمني والثقافي ثم عممت على السياق كله مرة أخرى، وقلبت الصورة الإيجابية عن بريدة وإنسان بريدة”، ويذكر الرواف أن أبرز صور التكافل والتسامح الاجتماعي ستجده في بريدة، ونظرًا لندرة الحوادث النشاز وغرابتها اشتهرت مواقف قليلة تعد بالآحاد، والتي حدثت قديمًا وعممت لتأخذ مساحة كبيرة في ذهن كل مَن لا يعرف بريدة على حقيقتها؛ فبريدة تعيش أجواءً من التكافل والتعاون بين كل أطياف المجتمع، بلا أي فواصل أو فروقات، ويتضح ذلك جليًّا من مسح بسيط أوَّلي للمناشط الاجتماعية في بريدة، والمبادرات التنموية، ومَن يقودها، أو ينشط فيها، من النساء والرجال”.

عبدالله الرواف

شهدت بريدة في ستينيات القرن الماضي/ ثمانينيات القرن الهجري الماضي، أولى مراحل الاندماج في الأحياء بين عوائل بريدة المتحضرة وأبناء القبائل من البادية والهجَّر الذين نزحوا إلى المدينة مع توسعها وتركز المؤسسات الحكومية والكليات والمعاهد العسكرية وتحولها إلى عاصمة جاذبة، كان ذلك في أطراف المدينة الجنوبية، ومع السبعينيات عرف شرق بريدة وشرقها الشمالي اندماجًا آخر، تبعه شمالها الغربي؛ ولكنه كان على الدوام على أطرافها “تجاورًا وليس اندماجًا” -حسب تعريف واحد من أبنائها- وبلغت ذروة الاحتكاك نهاية العشرية الأولى من الألفية، على حدود حي سلطانة والعُليَّا؛ مما تسبب في شكاوى وانزعاج انبجست تبعاته في المدارس، ثم تم إخماده وطمره.

اقرأ أيضًا: رشيد الخيون: بريدة بين مدرستَين.. التشدد والضد

حمد، وهو رجل أعمال شاب في الرابعة والثلاثين من أهالي بريدة، لديه محلات تجارية وأراضٍ عقارية، يذكر أن بعض المكاتب العقارية شمالي بريدة، تتعمَّد تظليل بعض المربعات على المخططات أو تضع دائرة لا يدرك معناها إلا الخبير العارف.. “إنه يقول لك جارك عن شمالك من الجماعة؛ لكن جارك على اليمين منهم”، وحين تسأله “مَن هم الـ(منهم)؟” يجيبك: منهم، ويترك لك ولفطنتك معرفة ما يقصده.

محمد العبودي

  “لقد حافظت بريدة عبر أكثر من مئتَي عام تقريبًا على شخصيتها الحضرية البالغة الصرامة، وخلافًا لبعض حواضر القصيم ونجد فلم تكن لها باديتها التي يمكنها الاعتماد عليها كحليف في الحروب، كانت جيوشها وسراياها تقريبًا تتشكل من الحضر الخلص إلا ما ندر؛ ولكنها في سبيل تحولها إلى واحدة من أكبر حواضر الجزيرة العربية ازدهارًا كانت في حاجة إلى توسعها وزيادة عدد سكانها، وكان لذلك شروطه؛ فانفتحت على المهاجرين، وأدمجتهم داخل جدرانها واحتضنتهم “جمشتها”، وشجعت أصحاب الحرف والمهن والصناعات على القدوم إليها؛ ولكنها كانت في الآن نفسه تفرز القادمين إليها، وتتقبل الوافدين العازمين على الاستقرار ضمن حدود صارمة ركيزتها الخضوع لشروط المدنية وصفات المدينة، والانسجام مع “نواميس” جماعتها وأميرها، ومع ذلك تزعزعت هذه السجية فيها عبر عقود من الزمن، وكانت بريدة أقل ليونةً مع الغرباء من منافستها مدينة عنيزة، ومن الرس ثالث أكبر مدن القصيم. فهي مدينة تعشق القوة؛ القوة في المال والعلم، والدين أيضًا والتأثير الاجتماعي، شعلتُها حكر على الأقوياء، وحرام على الضعفاء والهزالى، لهذا كان الضعفاء من أبنائها حين يجرّون أذيال الخيبة والفشل، يلجؤون إلى الابتعاد، وحين يصلب عودهم ويشتد أزرهم ويثبتون نجاحهم لا يمكنهم مقاومة سحرها، فيأرزون إلى جحرها، ولو في أرذل العمر. ولكي تعترف بك بريدة عليك أن تنتظر طويلًا، وكن حذرًا فقد تفقد كل مكاسبك في ساعة من نهار إذا استهنت بقواعد اللعبة”، كما يؤكد أحد مثقفي مدينة بريدة في تعليق لـ”كيوبوست”.

في عام 1903، كتب عبدالله المغيري إلى السلطان العثماني تقريرًا بالغ الأهمية عن منطقة القصيم، عن مدينتَي بريدة وعنيزة بالتحديد، كان التقرير استجابًة لرغبة الباب العالي في يقظة متأخرة لكسب ود أبناء نجد وجزيرة العرب.

اقرأ أيضًا: “الجنازة” والناجي الأخير من مذبحة “الحواشيش”

الأستاذ المشارك في كلية الشريعة بجامعة القصيم عادل العُمري، يؤكد لـ”كيوبوست”: “لم تكن بريدةُ في يومٍ من الأيام تجمعًا عشائريًّا أو قبليًّا أو مجتمعًا متفاخرًا بنسبٍ وشرف، نعم وُجد مَن يمارسُ ذلك؛ لكنه لا يمثِّل إلا نفسَه”.

عادل العمري

ويضيف العمري: “لا زلتُ أتذكر قبل انتشار فكر الصحوة وموجة الأيديولوجيات الدينية، وفي أثناء طفولتي، جمالية حارتنا الرائعة في بريدة الواقعة في حي (التغيرة)، وتحديدًا بشبابها وأطفالها وشيبها؛ فقد كانوا في غاية التداخل والاندماج، لم أسمع في تلك الحقبة -أوائل الثمانينيات ميلاديًّا- مَن يفتخر بقبيلةٍ أو نسب، أو يتحدث عن شيعة وسُنة وصوفية، كان كثير من شباب بريدة منشغلين بمدارسهم وتعليمهم ورحلاتهم البرية وحبهم للفنون والرياضة، ودائمًا ما أقفُ على جدالاتهم الرياضية: (نصر وهلال واتحاد وأهلي ورائد وتعاون)، أو اهتماماتهم الفنية: (أم كلثوم وعبدالحليم وفريد وعادل إمام وحسين عبدالرضا وفهد بن سعيد وطلال مداح ومحمد عبده)، وكل ذلك قبل انتشار فكر ما يُسمى بالصحوة المنبثقة من جماعة الإخوان والثورة الخُمينية، أعتقد أننا نقسوا على بريدة كثيرًا”.

   يمكننا أن لا نأخذ كلام أعيانها عنها على علاته، فبريدة تحوي عيوب المدن الكبيرة، وبعض مما تنبز به من تعالٍ وصلف وشيء من التعصب ضد الأغراب هو حقيقي، ولكن ذلك يبقى نصف أو شطر الحقيقة، وشطر الحقيقة مشوِّه ومضلِّل، وربما كاذب. فعنفوانها الطاغي الذي تنبض به الاستراحات والصالونات التي ترتطم في جنباتها عزائم أبنائها تكمن فيه تلك النزعة الطموحة من الموسرين والأغنياء من أبنائها، إلى سد فاقة المعوزين، وستر عورات المعدمين، والسعي الدؤوب إلى ردم الهوة التي تتسع يومًا بعد يوم بين أغنيائها وفقرائها، متجسدةً في تتبع أحوال المساجين الموقوفين في الديون والمتعسرين عن سداد التزاماتهم.

 سعي بريدة نحو الصدارة هو واحدة من ميزات منطقة القصيم التي جعلت منها قدوة ومحل غيرة من المدن الأخرى؛ ما جعل واحدًا من صانعي القرار يعاتب وفدًا قدم عليه من منطقة أخرى، طالبين الدعم لذواتهم ومتلمسين لـ”الشرهة”، قائلًا لهم: “تعلموا أن تكونوا مثل القصمان، لا يطلبون إلا لمصالح ديرتهم”. وفي شهر ديسمبر الماضي، قال وزير الطاقة السعودي في مؤتمر مستقبل الاستثمار: “إننا سنحتذي ما يفعله أهل القصيم، سنستفيد من كل مواردنا”.

شاهد: بريدة في ذاكرتهم: الشيخ محمد بن عثمان البشر

قبل وفاته بسنوات، كان رئيس تحرير جريدة “الرياض” الراحل تركي السديري، يتحدث عن أهل القصيم، قائلًا: “إن الملك المؤسس عبدالعزيز كان معجبًا بأهل القصيم ومأخوذًا بعزيمتهم”.

لهذا، فإن تهويدة أهالي بريدة في غربتهم كانت على الدوام: “يا حول يا للي ماله بريدة!”.

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة