الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربية
محمد عبد الحي الكتاني.. إجماع على علمه وخلاف على خياراته السياسية
"كان الكتاني صاحب فكرٍ إصلاحي يروم تحديث الدولة المغربية، ولعلّ ما يؤكد علو كعبه كأحد رجالات المغرب المعاصر، كثرة من ترجموا سيرته الفكرية، وأثنوا على منجزه العلمي"

كيوبوست
يحظى الراحل محمد عبد الحي الكتاني، بإجماعٍ منقطع النظير، فيما يتعلق بمنجزه العلمي والفكري والشرعي، وخاصةً في علوم الحديث، باعتباره أحد أبرز رواد هذه العلوم والمعارف في تاريخ المغرب، غير أن الكتاني نفسه، كان مثار جدل واختلاف بين كثيرين حول خياراته السياسية.
ولد الكتاني في مدينة فاس عام 1305 هـ، الموافق لسنة 1888م، وتوفي في مدينة نيس الفرنسية عام 1382 هجرية، 1965م.
اقرأ أيضاً: هذه حقيقة الزوايا الصوفية في المغرب
وإذا كان العلامة الكتاني صوفي النشأة -باعتبار أنه تربّى في كنف الزاوية الكتانية الشهيرة في المغرب، بل إنه صار شيخ هذه الطريقة سنة 1333 من الهجرة، أي وهو شاب في عمر الثامنة والعشرين- فإن سعة اطلاع الرجل، وأسفاره ورحلاته في مشارق الأرض ومغاربها، ولقاءه بالعلماء من مختلف الأصقاع، جعلته متصوفاً “معتدلاً” غير موغل في التصوف، بل كان يُشهد له بالدعوة إلى اتباع السنة، وهناك من اعتبره أحد مصلّي الفكر الصوفي بالمغرب.
أحد “أساطين العلم”
في محاولة الإحاطة بحياة ومسار هذا العالم، اتصل موقع “كيوبوست” بالمؤرخ والأكاديمي المعروف، الدكتور إبراهيم القادري بوتشيش، الذي قال إن “شخصية محمد عبد الحي الكتاني تثير الكثير من الجدل والاختلاف حول مواقفه السياسية، وبالتحديد من الدولة المغربية، والحماية الفرنسية، لكن بالمقابل ثمة إجماع على ما يتمتع به الرجل من مكانةٍ علمية مرموقة، وما أضافه إلى الحقيبة الفكرية المغربية من إضافات نوعية خلال القرن العشرين.

ويضيف بوتشيش “كان الكتاني صاحب فكر إصلاحي يروم تحديث الدولة المغربية، ولعلّ ما يؤكد علو كعبه كأحد رجالات المغرب المعاصر، كثرة من ترجموا سيرته الفكرية، وأثنوا على منجزه العلمي، حتى أن ابن سودة وصفه في (إتحاف المطالع) بأنه أحد “أساطين العلم المبرزين بالمغرب”.
وفقا لبوتشيش، يمكن اختزال إسهامات محمد عبد الحي الكتاني في النهضة الفكرية المغربية خلال القرن العشرين في خمسة محاور؛ الأول، غزارة التأليف، إذ على الرغم مما يقال عن المغاربة بأن ثقافتهم شفهية ولا يكتبون إلا نادراً، فإن محمد عبد الحي الكتاني يثبت عدم صحة هذه المقولة، إذ فاقت مؤلفاته من كتب ورسائل المائتين، لعلّ أهمها وأكثرها تداولاً كتاب “التراتيب الإدارية”، و”فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات”، وكتب كثيرة شملت الفقه والحديث والتاريخ والسير والتراجم وأصناف الفنون كافة، مما جعله مثقفاً متفاعلاً مع ثقافة عصره، مساهماً في تطويرها كمّاً ونوعاً.

إثراء الدراسات الحديثية والتاريخية
المحور الثاني في إسهامات وجهود الكتاني، إثراؤه الدراسات الحديثية والتاريخية، إذ إنه من بين العلوم الإسلامية التي كان له فيها باعٌ طويلٌ، علوم الحديث، حتى أن القيطوني وصفه بأنه أعجوبة الدهر في الحفظ والاطّلاع، وأنه كان إماماً في الحديث، بصيراً بمعانيه وفقهه، عارفاً برجاله وتواريخهم وأحوالهم من تعديل وتجريج، وقد ألف العديد من الكتب في هذا المجال، من بينها على سبيل المثال لا الحصر كتاب “إثبات ابتداء تدوين الحديث القرن الأول الهجري”.
يقول المؤرخ بوتشيش في هذا الصدد “بلغ تبحر الكتاني في علوم الحديث ما جعله يُعَيَّن بظهيرٍ سلطاني (قانون من ختم السلطان) سنة 1902 بمعية كبار العلماء، ويكلّف بمسؤولية قراءة الحديث الشريف بالضريح الإدريسي، وهو لا يزال في إهاب شبابه، كما أنه بفضل مكانته في علوم الحديث، كان محط عناية لتدريسها في الأقطار الإسلامية التي رحل إليها.
اقرأ أيضاً: جامع الزيتونة.. منارة معرفة صمدت رغم تقلبات الحضارات
أما بالنسبة للمؤلفات التاريخية، فقد أسهم الكتاني بنصيبٍ وافر في دراسة تاريخ الحقبة النبوية من خلال كتاب “التراتيب الإدارية” الذي يؤرخ للدولة الإسلامية زمن النبي (ص)، ويلقي الأضواء على تركيبتها الحضارية، ونظمها السياسية والاقتصادية والتعليمية والادارية والدبلوماسية، وعلى رجال الإدارة من الصحابة، والوظائف التي قاموا بها لبناء الدولة الإسلامية، وذلك رداً على بعض المستشرقين الذين سعوا إلى إرجاع كل إبداع حضاري إسلامي إلى الأصل الفارسي أو البيزنطي.
وألّف العلامة الراحل كتاب “ماضي القرويين” الذي يؤرخ لهذه المنارة العلمية بفاس، ويعد كتابه “فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات”، تعريفاً بتاريخ رجالات المغرب الفكرية، وكتبهم وأسانيدهم؛ وبفضل هذه المؤلفات وغيرها، أسهم الكتاني في تشكيل الوعي التاريخي، والتعريف بأهم أعمدة الحركة الفكرية بالمغرب.
جمع المخطوطات وتأسيس المكتبات
وأما المحور الثالث البارز في مسار الكتاني، يردف بوتشيش، فهو جمع المخطوطات وتأسيس المكتبات، فقد كان مهووساً بالمخطوطات، وبذل كل ما في وسعه لجمعها وتصنيفها، ولو كلفه ذلك الارتحال إلى الأماكن القاصية التي توجد فيها، ومن هناك كان يجلبها إلى مكتبته الشهيرة المعروفة باسم المكتبة الكتّانية التي لا يزال طلاب العلم ينهلون منها إلى اليوم بعد أن ألحقت بالخزانة العامة بالرباط، وتتضمن نفائس وذخائر نادرة، ويرمز لمخطوطاته برمز حرف الكاف.
“اكتسب محمد عبد الحي الكتاني نتيجة لذلك خبرة واسعة في هذا المجال حتى أصبح على علم ودراية كبيرة بالكتب ومؤلفيها، وبأنواع الخطوط العربية والإسلامية، وهذا جانب يحسب له في مساهمته في الحركة الفكرية بالمغرب لأنه وضع أسس مكتبة متميزة، وأغنى المكتبة المغربية بالكتب التي جلبها من مكتبات خارج الوطن” كما يورد المؤرخ بوتشيش.
اقرأ أيضاً: دعوة للتفكير… لماذا ابتعد العالم العربي عن العلم؟
وفي المحور الرابع المتعلق بالرحلات العلمية والتدريس خارج المغرب، أفاد بوتشيش بأن الرجل عُرف بشغفه بالرحلة العلمية، واستثمارها لنشر العلم والتدريس، فقد جاب بلدان المغرب والمشرق وعدداً من دول أوروبا، ودرّس في الحرم المكي جميع مصنفات الحديث، والكتب الصحاح، كما زار مصر ودرس في الأزهر، ورحل إلى الشام وألقى دروسه في المسجد الأقصى، والمسجد الأموي، والتقى هناك العديد من العلماء وأخذ من علومهم، وانتُخب عضواً في المجمع العِلمي في دمشق.
وكان الكتاني يستغل وجوده في بلدان أجنبية للبحث عمّا تزخر به مكتباتها من كتب ومخطوطات، ونذكر في هذا السياق بحثه المضني عن مخطوطة “تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية” للخزاعي التلمساني من علماء القرن 8 هـ/ 14م، حيث نقّب عنها كثيراً حتي عثر عليها في مكتبة جامع الزيتونة بتونس، وكانت هي الأصل في تأليفه لكتاب “الترتيبات الإدارية”.

النقاش الفكري والسياسي
وفي الجانب الخامس المرتبط بالمشاركة في النقاش الفكري والسياسي حول دولة ونظام الحكم في الإسلام، فإن المرحلة التاريخية التي عاش فيها محمد عبد الحي الكتاني اتسمت باحتدام النقاش بين التيارين الإسلامي والعلماني، عقب سقوط الخلافة العثمانية، حول موضوع العلمانية، وإلى أي مدى يعتبر الإسلام ديناً ودولة ونظام حكم.
يقول بوتشيش: “في هذا السياق جاء كتاب “الترتيبات الإدارية” الذي ألفه ليبين أن الإسلام ليس مجرد دين روحي، بل هو صالح ليكون نظام حكم أيضاً، وعلى الرغم من أن الرجل كان صوفياً وشيخاً للزاوية الكتانية، فإنه بسط النظر في هذا الكتاب بانفتاحٍ كبير، كما تضمن الكتاب أفكاراً إصلاحية حول تحديث الدولة، وإقرار العمل بدستور ومجالس نيابية”.

ولفت الأكاديمي المغربي نفسه إلى أنه “لا يمكن كذلك إغفال مساهمة الكتاني في الإصلاح السياسي للدولة المغربية، والتصدي لما كان يحدق بها من أخطار استعمارية، فألف في هذا الصدد كتاب “النصيحة للسلطان المولى عبد الحفيظ” للتصدي لمحاولات التسرب الأجنبي للمغرب”.
ولعل محط الجدل المثار حول المواقف السياسية للكتاني، كونه -بحسب رواياتٍ متفرقة- لما نحّى الاحتلال الفرنسي السلطان الراحل محمد الخامس في سنة 1953، ونصّب محمد بن عرفة ملكاً للمغرب، اختار الكتاني مبايعة هذا الأخير، وهو ما جرّ عليه وابلاً من الانتقادات والتهم بالخيانة، وغير ذلك، قبل أن يعود السلطان إلى بلده وعرشه، ليجد الكتاني نفسه مضطراً للهجرة إلى فرنسا، حيث توفي فيها سنة 1382 هجرية، الموافق 1965م.