الواجهة الرئيسيةترجماتثقافة ومعرفةمرايا الشعر
محاربات من صدر الإسلام
كيف تمكن عدد قليل من النساء المحاربات من التأثير على سنوات الإسلام الأولى؟

كيوبوست- ترجمات
كيفين بلانكينزشيب♦
كثيراً ما نسمع في وصف المرأة تعابير مثل “الجنس الأضعف” أو “الجنس اللطيف”، ويعترف حتى عتاة مناصري حقوق المرأة ودعاة المساواة بأنها أضعف جسدياً من الرجل؛ إلا أن التاريخ يذكر مواقف وبطولاتٍ لنساء في ساحات المعارك، وفي قيادة الجيوش والدول، تفوقن فيها على الرجال.
أستاذ اللغة العربية في جامعة بريغام يونغ؛ كيفين بلانكينزشيب، هو أحد الغربيين القلائل الذين كتبوا عن مقاتلات عربيات تَرَكْنَ بصماتهن على تاريخ الحرب والأدب في فترة صدر الإسلام. ويستعرض في مقالٍ نُشر على موقع “نيولاينز”، بعض بطلات التاريخ المشهورات في مختلف حضارات العالم القديم؛ بدءاً بالملكة بوديسيا، ملكة قبيلة سلتيك إيسيني البريطانية، التي قادت حرباً هائلة ضد الحاكم الروماني غايوس بولينوس، عندما حاول غزو الساحل الغربي لويلز، وقُتل في هذه الحرب سبعين ألف رجل. والملكة أرتيميسيا، ملكة مدينة هالكيرناسوس اليونانية القديمة، التي حاربت زركسيس الأول ملك الفرس؛ دفاعاً عن الممالك اليونانية قبل الميلاد بخمسة قرون.
ثم ينتقل الكاتب إلى قصصٍ من الشرق الأدنى القديم تروي حكايات بطلات؛ مثل سميراميس الآشورية، أرملة الملك نينوس، أو الملكة توميريس التي تغلبت على كورش الكبير عام 530 قبل الميلاد. ويقول إن خيوط هذه القصص اليونانية والفارسية والسورية تشابكت مع رمال شبه الجزيرة العربية لتخلق نمطاً فريداً من الملحمة الشعبية. في السياق العسكري أنشدت النساء العربيات قبل الإسلام قصائد عُرفت بالمراثي، تغنيْنَ فيها بفضائل قتلاهن في الحروب بين القبائل، وكانت الخنساء أشهرهن، وقد أثار رثاؤها المرير لشقيقَيها صخر ومعاوية عشاقَ الشعر لمئات السنين. ويُقال إن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بكى عندما سمع شعرها.
اقرأ أيضاً: مرايا الشعر مع سهام الشعشاع.. المتنبي
إلى جانب الرثاء، اعتادتِ النساء العربيات على مرافقةِ الرجال إلى الحروب؛ لبثِّ الشجاعة في قلوبهم وحضهم على القتال، وقد صور هذه العادة عمرو بن كلثوم في معلقته التي قال فيها:
ذَا مَا رُحْـنَ يَمْشِيْنَ الهُوَيْنَـا كَمَا اضْطَرَبَتْ مُتُونُ الشَّارِبِيْنَـا
يَقُتْـنَ جِيَـادَنَا وَيَقُلْنَ لَسْتُـمْ بُعُوْلَتَنَـا إِذَا لَـمْ تَمْنَعُـوْنَـا
وَمَا مَنَعَ الظَّعَائِنَ مِثْلُ ضَـرْبٍ تَـرَى مِنْهُ السَّوَاعِدَ كَالقُلِيْنَـا
كَـأَنَّا وَالسُّـيُوْفُ مُسَلَّـلاَتٌ وَلَـدْنَا النَّـاسَ طُرّاً أَجْمَعِيْنَـا

كانت هند بنت عتبة إحدى النساء الشهيرات اللاتي رافقت الرجال إلى الحروب، وهي من قبيلة قريش التي قاتلت الرسول في مكة، ودفعته للهجرة إلى يثرب (المدينة المنورة حالياً)؛ حيث حارب قريشاً لسنواتٍ عديدة انطلاقاً منها. ومن معاركه، كانت معركة أُحد [هكذا وردت في النص الأصلي، بينما الأبيات تتحدث عن معركة بدر- المترجم] التي هُزم فيها المسلمون، وانتصرت قريش. كانت هند ترافق رجال قريش، وبعد المعركة نزلت مع نساءٍ أخريات إلى ساحة القتال لتشويه جثث المسلمين، وجدعت أنوفهم، وقصت آذانهم؛ لتصنع منها قلائد تتزين بها. ويُقال إنها انتزعت كبد حمزة عم النبي، وأكلته، ثم صعدت على صخرةٍ عالية، وأنشدت:
نحن جزيناكم بيوم بدرٍ والحرب بعد الحرب ذات سعر
شفيت نفسي وقضيت نذري شفيتَ وحشي غليل صدري
وعُرفت هند بعد ذلك بلقبها “هند الهند آكلة الكبود”.
اقرأ أيضاً: مرايا الشعر مع سهام الشعشاع.. عنترةُ بنُ شدَّاد
ثم يمر الكاتب على الأدب الشعبي من قصص (ألف ليلة وليلة)، ويذكر حكاية الأميرة البيزنطية اليونانية إيبريزا، التي تتحدى بطلاً مسلماً مرّ بجوارها وتدعوه إلى نزال مرير انتهى بقصة حب طويلة؛ ولكن أعمق حكايات النساء المحاربات هو ما يُعرف بـ”السير”، حيث كانت تروى القصص الملحمية شفاهةً قبل أن يتم تدوينها في وقتٍ لاحق. وتشكِّل هذه السير بحراً شاسعاً من رواية القصص العربية. ويروي بعض هذه السير حياة النبي محمد وفتوحاته. غالباً ما تدور أحداث السير حول بطلٍ من التاريخ الغابر؛ كالفارس العربي عنترة بن شداد في «سيرة عنترة»، أو السلطان المملوكي بيبرس في «سيرة الملك الظاهر بيبرس». وفي جميع السير يلبس السرد أحداثاً يفترض أنها حقيقية، ويروي مآثر البطل ورفاقه. وعلى مدى قرونٍ عديدة، امتهن أشخاص محترفون في الشرق الأوسط رواية السير أمام المستمعين، إلى أن تقلصت هذه المهنة أمام الراديو والتليفزيون.

ثم يتحدث كاتب المقال عن الشخصية التي تمثلها المرأة في السيَرِ، ويقول إن الملحمة العربية التقليدية تظهر المرأة تقوم بدورها في أسرة سعيدة، وتربي أولادها وبناتها، وتحيطهم بعناية الأم، وتتمسك بالنظام الأبوي. وفي الملاحم كثيراً ما تبشر الأحلام أو غيرها من العلامات بولادة بطلة تكتسب، كما هي الحال مع عنيتيرة، مصارعة الذئاب في «سيرة عنترة»، مهاراتٍ قتالية من خلال التدريب كصبي. وعندما تكبر الفتاة المحاربة فإنها تواجه مختلف أنواع الأعداء؛ مثل الأميرة غمرة في «سيرة عنترة» التي تعلن أنها ستوافق على الزواج من الرجل الذي يهزمها في القتال.
ولكن لا تتوافق كل السير مع هذا السيناريو الجميل؛ فسيرة الأمير حمزة البهلوان، ترسم صورة سلبية للمرأة المحاربة؛ فهي ممنوعة من المشاركة في القتال الذي يُعتبر مهمة الرجل وحده. وكذلك في «سيرة الظاهر بيبرس»؛ حيث لا تتلقى النساء “اللبوات” تدريباً قتالياً، ولكنهن يستخدمن الخداع والسموم والسكاكين لتحقيق مآربهن. ولكن في معظم الحالات وفي جميع العصور التاريخية يتندر وجود النساء المحاربات اللاتي يقمن بالأعمال البدنية التي يقوم بها الرجال، وربما يرجع ذلك إلى تكوينهن البدني، والأعراف الاجتماعية ومواقف القراء وغير ذلك.
اقرأ أيضاً: مرايا الشعر مع سهام الشعشاع.. جرير بن عطية
ويتطرق المؤلف إلى «سيرة ذات الهمة» التي يقول إنها واحدة من الملاحم الشعبية التي لا تزال تحتفظ بسحرها حتى يومنا هذا؛ حيث تلعب الفتاة المحاربة فيها دور البطولة. تقول الأميرة فاطمة ذات الهمة: “الحجاب الوحيد الذي أحتاجه هو الخوذة”، ويعكس هذا التصريح شخصية ذات الهمة التي تمتد قصتها على آلاف الصفحات. وقد وجدت هذه القصة المحببة طريقها إلى اللغة الإنجليزية من خلال ترجمة ميلاني ماغيدو، التي نشرتها دار “بنغوان كلاسيكس” بعنوان “حكاية الأميرة فاطمة، المرأة المحاربة. ملحمة ذات الهمة العربية”.

ومن خلال دزينة أو نحو ذلك من الفصول المختارة بعناية، وفي اللغة المرتبكة للملحمة الشفوية، تنقل ترجمة ماغدو صورة مفصلة عن حياة فاطمة ورفاقها المخلصين الذين تدور كثير من مغامراتهم على النزاعات الدائرة بين القبائل العربية؛ ولكن التحدي الأكبر الذي يلوح في الأفق كان إمبراطورية البيزنطيين الذين كانوا يلقبون أنفسهم بالرومان، ويزعمون أنهم ورثة الإمبراطورية الرومانية.
ومن هنا جاءت تسمية “رُم” في حكايات فاطمة. اقتحم البيزنطيون الأراضي الإسلامية، وحاصرت الأميرة ملاتيا، ابنة الإمبراطور ليو، المتشددة، مدينة أميدا المسلمة، بينما أقنع الجنرال الدموي هيرميس، حاكم المدينة، بأن لا يتمسك بالهدنة المنهارة ليفسح المجال أمام جنوده ليمزقوا المدينة، وينهبوها ويقتلوا أهلها.
ولكنّ البيزنطيين والمسلمين يتفقون ويتآمرون بقدر ما يتقاتلون، وقد استعان الإمبراطور ليو، الممتعض من قوة فاطمة، بمواهبها العسكرية ضد ملك البرتغال. وتروي الملحمة كيف بدَّل عمُّ فاطمة المتواطئ، ظالم، ولاءَه وتحالف مع البيزنطيين، وكيف عبَّر عن ذلك بشرب الخمر، وتناول لحم الخنزير. وفي المغامرة الأخيرة، توفي الخليفة المعتصم، وحلّ محله ابنه الواثق الذي كان ابن جارية بيزنطية.
اقرأ أيضاً: مرايا الشعر مع سهام الشعشاع.. قيس بن الملوَّح
ثم يرجع بنا مؤلف المقال إلى طفولة فاطمة التي تنحدر من سلالة نبيلة من قبيلة بني كلاب العربية، والتي تعرضت إلى إهمالٍ كبير من قِبل والدها مظلوم، الذي عهد بها إلى مرضعة. ونتيجة لذلك انضمت إلى قبيلة بني طي المعادية لقبيلتها، وأقسمت على الانتقام، مستحضرةً تعطش الشاعر الجاهلي الشنفرى للعدالة. كان الشنفرى قد انقلب على قبيلة أزد التي ولد فيها، وأقسم على أن يقتل 100 رجل منهم؛ لأنهم رفضوا الانتقام لمقتل أبيه؛ لكنه مات بعد أن قتل 99 رجلاً، وبعد موته مرَّ أحد رجال بني أزد بالقرب من عظامه وركل جمجمته، فجرحت قدمه، وأصابته العدوى فقتلته.

لكن الأمور سارت بشكلٍ أفضل مع فاطمة؛ فهي تصالحت مع والدها بعد أن أخضعته وأدخلته السجن. ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي تغلبت بها فاطمة على رجلٍ شديد البأس. فلطالما دفع القادة إليها بالجنود ليسقطوا بضربات سيفها. كما طعنت برمحها شاباً من بني طي كان يستمر في مضايقتها على الرغم من تهديدها المستمر له.
بعد ذلك ينقلنا الكاتب كيفين بلانكينزشيب، إلى الجانب الآخر من شخصية فاطمة؛ الأم التي تربت على شعر ابنها عبدالوهاب، وتداعبه برقة بالغة. وعبدالوهاب هو ثمرة علاقة كانت أشبه بمعضلة تلخص كل التناقضات والألم الأخلاقي والمرارة المحمومة التي جعلت فاطمة ما هي عليه. وقع وليد ابن ظالم الخائن في حب ابنة عمه المقاتلة، وحاول استمالتها بكل الوسائل؛ ولكنها رفضته. وأخيراً برد قلبه عندما تمكن من تخديرها بمساعدة ابن عمه المخادع عقبة، وكان عبدالوهاب، ثمرة هذا اللقاء، بطلاً عظيماً أدخل الفرح إلى قلب أمه.
والراوي هنا لا يبرر ما لا يمكن تبريره؛ فوليد ووالده ظالم فاسدان مقرفان وحثالة شريرة، ويتضح ذلك في أن الخليفة قد حطّ من قدرهما إلى درجة مستوى عبيد عند فاطمة، وفي النهاية يقتلهما عبدالوهاب. وكذلك يعدم عقبة المخادع. ويتضح أيضاً في محاولة مظلوم الجبان تبرير ما حصل لابنته، فيقول لها: “حدث هذا للعديد من الفتيات العربيات بسبب شغف الرجال. لم يكن لك خيار في ذلك”، والمثير للسخرية أنه رغم تبريره المضلل للاغتصاب، فهو يواسي ابنته التي تعرضت إلى العنف واللوم. وهذا يسبق العديد من الروايات الذكورية اليوم بسنواتٍ ضوئية؛ ولكن المفارقة المزعجة لا تزال قائمة، حيث كان الفعل التأسيسي للمشهد هو فعل اغتصاب. يقول الراوي إنه لولا هذا الفعل الرهيب لما كان لهذا “الأسد العظيم والبطل عبدالوهاب أن يولد”.
اقرأ أيضاً: مرايا الشعر مع سهام الشعشاع.. كثير عزة
وتمضي سيرة ذات الهمة مع شخصية فاطمة، المقاتلة النبيلة التي توزع الحب القاسي لعبدالوهاب، وترى الهزيمة على وجه ظالم عندما يحكم الخليفة المنصور ضده في محكمة علنية، بعد أن ساقته إلى المحكمة مع ابنه وليد، لتقاضيه على الاعتداء البغيض على شرفها. وبناء على شهادة خبراء الفراسة، قرر الخليفة أن عبدالوهاب هو بالفعل ابن وليد؛ مما أكد اتهامها له بالاغتصاب.
وفي النهاية، يختم الكاتب مقاله بقوله إن حكايات مثل حكاية فاطمة وغيرها من الملاحم الشعبية العربية تدفعنا إلى النظر إلى النساء كمقاتلاتٍ باسلات إلى جانب كونهن زوجات وأمهات، دون أن تُستبعد أي من النظرتين الأخريين. وكذلك تعلمنا هذه الملاحم أن لا نخشى من التحيز والعنف والخداع والكراهية التي غالباً ما تحيط بنا، وأن نقف في وجه كل هذا القبح “رائعين كالبدر”، كما كانت الأميرة فاطمة.
إن الوقوف في وجه الموت مع ابتسامة هو ما يمنح هذه السيَر حيويتها وحدتها وألفتها، على الرغم من مرور مئات السنين.
♦أستاذ مساعد للغة العربية في جامعة بريغم يونغ.