الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةمقالات
مثالب الفلاسفة 7: هيجل.. هل كان عميلاً؟

شايع الوقيان♦
كان الفيلسوفُ الألماني هيجل، يعيش في فندق صغير في مدينة يينا (Jena)، عندما اقتحم نابليون وجيوشه المدينة، والتي شهدت معركةً من أشهر المعارك في القرن الثامن عشر (معركة يينا ١٨٠٧). في ذلك الوقت، أطل هيجل من نافذة الفندق ورأى الغازي نابليون على حصانه يتجول في المدينة. فقال هيجل، في رسالة إلى صديق له:
“لقد رأيتُ الإمبراطور، لقد رأيت روحَ العالم، يمتطي صهوة جواده، إنه لإحساس رائع للغاية أن يرى المرء مثل هذا الشخص، وقد تركز هنا في نقطة واحدة، ممتطياً جواده، وتمتد يده لتطور العالم وتسيطر عليه، إننا لا نملك سوى الإعجاب به، إن الجميع هنا يتمنون حظاً طيباً للجيش الفرنسي”!

هكذا كان هيجل يرحب بالغازي الفرنسي، وجيشه، الذي دمَّر ونهب ألمانيا (بروسيا آنذاك). وفي الوقت عينه، كان فخته، زميل هيجل، أصدر خطاباته الشهيرة (خطابات إلى الأمة الألمانية)، وحثَّ الشبابَ على الانخراط في المقاومة ودحر الغازي. فهل كان هيجل عميلاً للفرنسيين؟ أم أن الإعجاب بنابليون أعماه عن رؤية الخراب الذي جرَّه معه؟
كان هيجل يعيش قبل ذلك في مدينة توبنجن، وتركها عام ١٨٠١ باتجاه يينا، عاصمة الفكر والأدب، آنذاك، وكانت تعجّ بكبار مثقفي ألمانيا؛ مثل جوته الذي كان وزيراً للثقافة، وفخته ونوفاليس وهولدرلين وشيلر وشلايرماخر، وشلنج صديق هيجل.
في هذا الجو المزدحم بالعباقرة، شعر هيجل بتحدٍّ كبير، إذ عليه أن يكتب أعظم ما يجود به عقله؛ لكي يصل إلى مستواهم. أصبح هيجل مدرساً في جامعة المدينة دون راتب، واضطر إلى السكن مع صديقه شلنج، ثم انتقل إلى الفندق الرخيص الذي أشرنا إليه. كانت هناك فتاة ريفية تعمل خادمةً في الفندق؛ اسمها كريستينا بركهارت؛ وهي زوجة لخادم عند أحد الأشراف، ويُقال إن الفيلسوف في لحظة سكرٍ عاشرها؛ لكن لسوءِ حظه أنها أنجبت له ولده غير الشرعي (لودفج). وقد جعل أبواه في العماد كلاً من جورج هيجل (أخيه) وفرومان صاحب مكتبة في يينا، “أما الأم فكتب أنها زوجة مهجورة لخادم عند أحد الأشراف”.

قبل المعركة الشهيرة بيومٍ دخل بعض الجنود الفرنسيين الفندق، وعبثوا بكل ما فيه ونهبوا ما نهبوا، ودخلوا إلى غرفة الفيلسوف، وقدم لهم الطعام والشراب فهدأت فورتهم. بعد أن تصاعد العنف والتخريب، خشي هيجل على نفسه فأخذ مخطوطة كتابه الشهير (فينومينولوجيا الروح) معه وترك الباقي، واختبأ عند صديق. لما عاد إلى الفندق وجده محترقاً كله. ومن حسن حظه (وحظنا) أن المخطوطة كانت معه.. فهي العمل الذي نافس به عمالقةَ ألمانيا وجعل له مكاناً رفيعاً في الفكر البشري.
كان الغزو الفرنسي لألمانيا، وفضيحة الابن غير الشرعي، والوضع المادي المزري (لم يكن يتقاضى راتباً) هي الظروف المحيطة بتأليف (فينومينولوجيا الروح) كما يذكر إمام عبدالفتاح إمام، وأنها سببٌ في وعورة الكتاب، واضطراب كثير من أجزائه؛ مما جعله أصعب الكتب الفلسفية قاطبة. ولسوء حظ هيجل أنه تورط في عقد مع ناشر جشع في مدينة بامبرج، قد استغل حاجة هيجل إلى المال فاشترى الكتاب بثمن بخس، وكان قد وضع حداً زمنياً يجب فيه على الفيلسوف تسليم المخطوطة كاملةً أو يدفع غرامة كبيرة. ولم يجد هيجل بداً من التوقيع على العقد… وبالتالي إرسال الكتاب بصورته المضطربة.
المراجع:
هيجل، ظاهريات الروح، مقدمة المترجم إمام عبدالفتاح إمام، دار التنوير، ٢٠٠٩.
ويل ديورانت، قصة الحضارة، عصر نابليون، ترجمة زكي نجيب محمود وآخرين، دار الجيل، ١٩٨٨.
عبدالرحمن بدوي، حياة هيجل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ١٩٨٠.
♦ كاتب سعودي
لقراءة الحلقات السابقة
مثالب الفلاسفة 5 : ألتوسير.. الفيلسوف القاتل!
مثالب الفلاسفة 6: نيتشه.. فيلسوف القسوة