الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةمقالات
مثالب الفلاسفة 5 : ألتوسير.. الفيلسوف القاتل!

شايع الوقيان♦
المشهد الأول: مرحباً يا صغيرتي، دعيني في هذه اللحظة أقبلك.. أحضنك بحب جارف وحنان قوي.. (رسالة عام 1950).
المشهد الثاني: لقد قتلت زوجتي.. لقد خنقت هيلين حتى الموت (يركض صارخاً في أروقة مدرسة المعلمين العليا، 1980).

ولد الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير، عام 1918، في الجزائر. وانخرط في الدفاع عن بلده إبان الحرب العالمية الثانية، وأسره الألمان عام 1940، ولم يخرج حتى نهاية الحرب عام 1945. خمس سنوات في معسكر ألماني كانت كافية بتدمير روحه، حسب السيكولوجية إليزابيث رودنسكو. بعدها بسنة التقى عالمة الاجتماع هيلين ريتمان، التي ستصبح زوجته.
منذ ما قبل الأسر وألتوسير يعاني نوبات اكتئاب؛ ولكنها زادت في الأسر حتى استفحل المرض فصار يعاني طوال حياته الفصام، واضطرابًا ثنائي القطب.
هذا الفيلسوف كان نابهاً وذكياً، وقد اجتاز امتحان الأجريجاسيون Agrégation من أول مرة، وهو امتحان صعب؛ بحيث إن عبقرياً مثل سارتر لم يجتزه في المرة الأولى.
لوي ألتوسير – موسوعة ستانفورد للفلسفة / ترجمة: مروان محمود، محمد رضا
في الأسر، بدأ يقرأ في الفكر الماركسي، فتأثر به، فأعجب اليساريون بهذا الرجل المنحدر من عائلة برجوازية كيف قرر ترك الرفاهية ومساندة العمال والمضطهدين. وقد أصبح ألتوسير، لاحقاً، من أعظم المفكرين الماركسيين في القرن العشرين.
لم تستقر حياته منذ نهاية الحرب حتى وفاته، وكان يعاني الاكتئاب؛ بل ينسى كثيراً أسماء زملائه وطلابه، وأحياناً ينسى من هو وأين هو؛ ولذا أشار عليه صديقه الطبيب إيتيان، أن يدخل مستشفى الأمراض العقلية والنفسية (سانت آن)، ولكن هيلين، زوجة ألتوسير، رفضت ذلك، ووهبت حياتها لرعايته والعناية به.

كان ألتوسير يحب زوجته، وهما معاً مثقفان من الطراز الرفيع، وكانا يتجادلان ويصل بهما الأمر إلى خصومة كتلك التي تحدث بين الأزواج، ثم لا تلبث أن تعود المياه إلى مجاريها. وكانا يقيمان في المعهد نفسه الذي يدرسان فيه.
في صبيحة السادس عشر من نوفمبر 1980، نهض ألتوسير من سريره وخرج إلى الردهة، ثم عاد بعد برهة إلى غرفة النوم، وجد هيلين نائمة، وكان ألتوسير قد تعود على أن يدلكها.. فمد يديه كالعادة إلى عنقها؛ لكي يدلكه.
لقد استطردت أصابعه وتغلغلت بعمقٍ في لحمها الطري.. أخذ يضغط بإصبعه على العنق، ثم ازداد الضغط.. وازداد.. وازداد، حتى انتبه إلى هدوء زوجته المرعب وعينيها المتجمدتين ولسانها المتدلي بين أسنانها (كما سيصف في سيرته: المستقبل يدوم للأبد).
كانت هيلين تصرخ بين يديه؛ ولكنه لم يسمعها إلا بعد أن استغرقت في صمت أبدي.
انتبه فأصيب بالصدمة.. وخرج بملابسه الداخلية يصيح في الناس: لقد قتلت زوجتي! جاء صديقه الطبيب وجاء بقية الأساتذة؛ ومن ضمنهم مدير المعهد. بعد مداولات استقر رأيهم على نقله إلى مستشفى الأمراض العقلية قبل وصول الشرطة. وبالفعل، وصلت الشرطة فلم تجد إلا الجثة التي تنام بهدوء عميق؛ فحصت العنق ولم تجد شيئاً، فظنت أن الفيلسوف يتوهم؛ لكن في اليوم الثاني وجد الطبيب الشرعي أن القصبة الهوائية مكسورة وآثار الخنق واضحة.
طلب القاضي التحقيقَ معه في المستشفى؛ لكن الأطباء رفضوا بحجة انهياره العقلي والنفسي. فأمر بتشكيل لجنة من ثلاثة محللين نفسيين، وقدموا تقريرهم؛ فأعلن القاضي أنه غير مؤهل للعقوبة، وتم إغلاق القضية نهائياً. أُصيب الكثيرون بالصدمة من إطلاق سراحه.

ظل الفيلسوف في المستشفى ثلاث سنوات؛ بعدها خرج ورحل إلى شمال فرنسا، وسكن في شقة هادئة يزوره فيها بعض أصدقائه؛ مثل ريجيس دوبريه.
كان قليلَ الخروج من شقته؛ ولكنه إذا خرج يكون رث الهيأة محنيَ الظهر، أشبه بعجوز مشرد.. وكان المارة يرمقونه بارتياب وخوف؛ فيصرخ فيهم: أنا ألتوسير.. أنا ألتوسير العظيم.
في أواخر أكتوبر 1990، سقط على أرض شقته، ولم ينهض إلى الأبد.
لقد مات بأزمة قلبية.
المراجع:
1- أحمد أبو زيد، الطريق إلى المعرفة، كتاب العربي، ك46، 2001.
2- العبقرية والهذيان، رسائل ألتوسير إلى إيلين، موقع حكمة الإلكتروني.
3- Louis Althusser, The Future Lasts Forever: A Memoir , trans. Richard Veasey, The New Press, 1993.
4- Wikipedia (Entry: Althusser).
♦ كاتب سعودي
لقراءة الحلقات السابقة
مثالب الفلاسفة 3: فرانسيس بيكون.. الخائن!
مثالب الفلاسفة 4: هايدجر.. الفيلسوف النازي