الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةمقالات
مثالب الفلاسفة 10: توما الأكويني.. الفيلسوف الساذج

شايع الوقيان♦
كان رفاقه يسخرون منه ويسمونه الثورَ الأبكم، فيرد عليهم الفيلسوف ألبرتو الكبير غاضباً: “إن هذا الثور الأبكم سوف يملأ الدنيا بخواره يوماً ما”.
ولِد توما الأكويني في روكاسيكا قرب نابولي عام 1225 في أسرة مرموقة ورفيعة الشأن. التحق بجامعة نابولي. كان أبوه يريد منه أن يلتحق بخدمة جيش الإمبراطور؛ إذ كان جسم توما قوياً وضخماً، فظن أبوه أنه يصلح للقتال وليس للعلم. لكن الشاب الصغير أبى إلا دراسة اللاهوت. وكان يرغب في أن يكون راهباً بسيطاً، حسب تعبيره.
في سن الرابعة عشرة اعتنق المذهب الدومينيكاني، فغضب عليه أهله؛ خصوصاً والده الكونت دي أكوينو. فحاولوا أن يثنوه؛ ولكنه رفض وصار محط سخرية في البيت. خاف رؤساء توما أن يجبره أهله على الارتداد عن الرهبنة الجديدة، فطلبوا منه الذهاب إلى باريس والالتحاق بجامعتها. في الطريق، قام إخوته باختطافه وحبسه في قصرٍ لأبيه خارج البلدة، ومكث في الحبس نحو سنتين. وأثناء ذلك حاول أهله بكل الطرق أن يردوه عن إيمانه فرفض، وجلب له إخوانه مومساً كي تغويه، فطردها.
بعدما يئِس أهله منه أطلقوا سراحه، ولا سيما أن إحدى أخواته بدأت تتأثر بمعتقده. فذهب إلى جامعة باريس، وهناك قابل ألبير الكبير، وكان معنياً بتدريس أرسطو والتوفيق بينه وبين الكاثوليكية. فاستلم توما المهمة بعده فقيل: إذا كان القديس أوغسطين “نصَّر” أفلاطون، فإن القديس توما “نصَّر” أرسطو. وقد تأثر أيضاً بابن سينا وموسى بن ميمون؛ ولكنه كان يُعادي ابن رشد وجماعته؛ ممن يسمون بالرشديين اللاتين الذين كانت جامعة باريس معقلاً لهم.
كان توما متأثراً بالقديس فرانسيس الملقب بـ”الأبله الحبيب عند الله”، وبـ”مهرج السماء”، وكان يرغب في أن يتشبه به. عندما وصل توما إلى جامعة باريس، كان الشباب في الرهبنة يسخرون منه، ويسمونه الثورَ الأبكم، وثقيل الفهم، ومتلعثم اللسان.
ذات مرة، وبينما كان يذاكر في مكتبه، أتى بعض زملائه يصرخون: “تعالَ يا أخ توما وانظر.. هناك ثور يطير!” فأتاهم مسرعاً ونظر إلى السماء.. وهم يتضاحكون عليه: “لقد صدَّق هذا المجنون أن هناك ثوراً يطير!”. فقال توما: “إنه لخير عندي أن أصدق أن ثوراً يطير من أن راهباً يكذب”.
كان الفيلسوف الشهير ألبير الكبير، يسمَّى بـ”المعلم الذي يحمل الكونَ في رأسه”؛ لغزارة علمه وعمق فكره وسعة أفقه. وقد تأثر به توما. وكان ألبير مؤمناً بتوما، وأن وراء هذه السذاجة عقلاً جباراً، وبالفعل فقد أصبح توما أعظم فلاسفة الغرب في القرون الوسطى.
لكن هناك آراء لتوما هي فعلاً مضحكة وساذجة. يقدم مثلاً حجة غريبة، كما يصفها راسل، لتحريم زواج الأخ بأخته؛ وهي أنه لو أضيف حب الزوج لزوجه، إلى حب الأخ لأخته، فإن الجاذبية سوف تشتد بينهما، وسوف يكثر الاتصال الجنسي بغير مبرر ولا موجب!
وعلى أية حال، فإن هذا العالِم الملائكي، كما يُلقب، لم يكن في مجمل تعاليمه ساذجاً بل فيلسوفاً نابها لا يزال أثره يتردد حتى اليوم. فهناك مدرسة كبيرة ظهرت في القرن الماضي باسم التوماوية الجديدة، ومن أبرز فلاسفتها إتيان جلسون، وجاك ماريتان، وجوزيف أوينز.. وغيرهم. وفي أقسام الفلسفة في أغلب الجامعات المرموقة، في أوروبا وأمريكا، تعتبر الفلسفة التوماوية إلى اليوم موضوعاً جاذباً لكثيرٍ من الطلاب.
توفي توما في سن التاسعة والأربعين، وهو لا يزال في قمة عطائه. وأهم كتبه “الخلاصة اللاهوتية”، و”وحدة العقل في الرد على الرشديين”، و”الخلاصة ضد الكفار”، و”الرد على أخطاء اليونان”.
المراجع:
هنري توماس، «عظماء الفلاسفة في الشرق والغرب»، ترجمة متري أمين.
فريدرك كوبلتسون، «تاريخ الفلسفة: من أوغسطين إلى دانز سكوت»، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام وإسحاق عبيد.
برتراند راسل، «تاريخ الفلسفة الغربية: الفلسفة الكاثوليكية»، ترجمة زكي نجيب محمود.
Eleonore Stump, Aquinas, Arguments of the Philosophers
♦ كاتب سعودي
لقراءة الحلقات السابقة
مثالب الفلاسفة 7: هيجل.. هل كان عميلاً؟
مثالب الفلاسفة 8: ابن سينا.. الفيلسوف السكّير
مثالب الفلاسفة 9: ميشيل فوكو.. ومغامراته الجنسية