الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية
ماكرون.. الرئيس في مواجهة الجمهور
منذ وقتٍ ليس ببعيد، كان ماكرون يأمل في أن يكون زعيماً ليس فقط لفرنسا ولكن لـ"أوروبا ما بعد ميركل". لكنه أصبح ضحية لا مبالاته تجاه الأعمال القذرة للسياسة الداخلية

كيوبوست- ترجمات
نشرت مجلة “ذا سبيكتاتور” مقالاً حول الأزمة المشتعلة في فرنسا، على خلفية محاولة الرئيس ماكرون تمرير إصلاحاتٍ تتعلق برفع سن التقاعد، متجاوزاً الجمعية الوطنية. يسلّط الكاتب جوناثان ميلر، الضوء على شخصية ماكرون، التي تتسم بالعناد والغطرسة من ناحية؛ وطبيعة الشعب الفرنسي الذي تجري الثورة في عروقه مجرى الدم من ناحيةٍ أخرى. ويخلص إلى أن الأوضاع المالية والسياسية أصبحت صعبة لدرجة أضحى معها التغيير ضرورة، إن عاجلاً أو آجلاً، إن بيد ماكرون أو بغيره.
بداية، يؤكد الكاتب أن مصير السياسة الفرنسية عادة ما يحدده الشارع. ففي مايو 1968، امتدت الاضطرابات التي اندلعت في باريس إلى جميع أنحاء العالم؛ وانتهت أجندة جاك شيراك لإصلاح الرعاية الاجتماعية باضطرابات عام 1995. روح الثورة حيّة في المجتمع الفرنسي لدرجة أن هناك قوة شرطة خاصة لمثل هذه الأحداث، متخصصة في السيطرة على الحشود. والآن يواجه الرئيس إيمانويل ماكرون تمرداً آخر ما يزال مستمراً. بعد ثمانية أسابيع من معركة حول إصلاحات المعاشات التقاعدية، ليس من الواضح على الإطلاق من سيفوز.
اقرأ أيضاً: فرنسا في قبضة الغضب
والواقع أن الإصلاح الذي اقترحه ماكرون برفع سن التقاعد الحكومي من 62 عاماً، وهو أحد أدنى المعدلات في أوروبا، إلى 64 عاماً، وهو ما يزال منخفضاً للغاية وعقلانياً تماماً. الملاءة المالية لفرنسا الآن على المحك. عندما أنشئ نظام المعاشات التقاعدية السخي في سنوات ما بعد الحرب، كان متوسط العمر المتوقع 66 عاماً، الآن 83 عاماً. دفعت تكلفة المعاشات التقاعدية الإنفاق الحكومي في فرنسا إلى 59% من الناتج المحلي الإجمالي. ويبلغ الإنفاق على المعاشات التقاعدية 14%. هذه بعض من أعلى الأرقام ليس فقط في أوروبا، ولكن في العالم المتقدم، وسوف تزداد سوءاً من دون إدخال إصلاحات.
ماكرون على حق؛ ثمّة تنازلات يجب أن تحدث. وفي حين أن التقارير التي تشير إلى أن فرنسا دولة فاشلة أو على وشك الانهيار الدستوري مُبالغ فيها، فإنه من الصعب أن يكون المرء متفائلاً بشأن مستقبل ماكرون. بعد مرور عام واحد فقط على ولايته الرئاسية الثانية التي تستمر خمس سنوات، لا يمكنه الترشح مرة أخرى. هذا هو وقت إجراء التغييرات التي تهرّب منها أسلافه، لوضع بلاده على مسار الانتعاش. ولكن باختياره هذه المعركة الآن، واعتبارها اختباراً للقوة مع المتظاهرين، ربما يكون قد أخطأ في حساباته بشكلٍ سيئ.

منذ وقتٍ ليس ببعيد، كان ماكرون يأمل في أن يكون زعيماً ليس فقط لفرنسا ولكن لـ”أوروبا ما بعد ميركل”. لكنه أصبح ضحية لا مبالاته تجاه الأعمال القذرة للسياسة الداخلية. يبدو أنه مهتمٌ بأن يكون رجل دولة على الصعيد الدولي أكثر من اهتمامه بالعمل، الذي لا يجلب الشكر، في حكم بلاده.
وفي ظلِّ استمرار الاضطرابات الهائلة، يبدو أن ماكرون في حالة إنكار؛ فخطاب تلفزيوني غاضب الأسبوع الماضي لم يزد الطين إلا بلة. إذا أراد مواجهة شعبه، فسيجد شعبه مصمماً بالقدر نفسه. وقد أظهر استطلاع للرأي أن 62% يؤيدون تكثيف الإضرابات، ويقولون إنهم يلومون ماكرون لا المتظاهرين على أي عنف.
ماكرون لديه عدد قليل من الأصدقاء المتبقين. نصف حكومته تسعى وراء منصبه، بما في ذلك وزير الداخلية، جيرالد دارمانين. إنه يرأس قوة شرطة يقول الكثيرون (كما تشير الكثير من أدلة الفيديو) إنها ليست مسيطرة إلى حدٍّ كبير، لذا فهي تستجيب بالطريقة الوحيدة التي تُعرف بها، التلويح بالهراوات خلف سُحب الغاز. وكان دارمانين يُحذِّر من أن “عناصر متطرفة من اليسار، واليسار المتطرف” تختطف تظاهرات اتحادات العمال، وتدفع فرنسا إلى “النار والدم”.
اقرأ أيضاً: فاينانشيال تايمز تتساءل: هل فرنسا في طريقها إلى الجمهورية السادسة؟
قد يقول قائل إن كون الفرنسيين عُرضة لانفجارات الغضب الدورية ليس خبراً جديداً. إنه جزء أصيل من شخصيتهم الوطنية وتاريخهم. فما الاختلاف هذه المرة؟
بدايةً، ما يحدث في فرنسا لا يبقى في فرنسا، خاصةً في ظل أن اقتصادات الاتحاد الأوروبي في حالة اضطراب، ووجود حرب مستعرة على حدود الاتحاد. (ألغى ريشي سوناك بالفعل خططاً في المملكة المتحدة لتأخير سن التقاعد، بتكلفة 50 مليار جنيه إسترليني).
إن ضعف فرنسا وماكرون يغيّر “الهندسة السياسية” في أوروبا وخارجها. فقد تفوقت على السويد الاشتراكية في فرض الضرائب والإنفاق، ويقال إن جيشها ينفد من الذخيرة، والدين الوطني الهائل البالغ 3 تريليونات يورو يتجاوز 113% من الناتج المحلي الإجمالي، ولا يزال يرتفع بسرعة. فرنسا تعيش بشكلٍ مريح بما يتجاوز إمكانياتها؛ تسرف في الإنفاق، ولا تدفع الفاتورة أبداً. وتتمرد بعنفٍ شديدٍ بمجرد أن تشعر بلسعة الواقع.

من مفارقات الأحداث الحالية أن النقابات التي تنزل إلى الشوارع بمشاعلها الحمراء وقبضاتها المشدودة تمثل بعضاً من العمال الأكثر امتيازاً في أوروبا. إنهم يدافعون عما لا يمكن الدفاع عنه؛ هناك 42 نظاماً للمعاشات التقاعدية، والعديد منها سخي بشكلٍ سخيف. ولا يبدو أن طلاب الليسيه الذين يتظاهرون يدركون أنهم سيكونون هم الذين يدفعون ثمن ما يفعلون طيلة حياتهم العملية.
حاول ماكرون أن يفهمهم بأن رفع سن التقاعد هو السبيل الوحيد للحفاظ على سخاء النظام دون زيادة الضرائب أكثر من ذلك. لقد حذّر من أنه “لم يعد هناك المزيد من عوائد السلام نتيجة للعدوان الروسي على أوكرانيا”، لكن الحقيقة هي أنه حتى التغييرات التي اقترحها لن تبقي النظام واقفاً على قدميه لفترة طويلة. إذا ما نجح في تمرير تشريعه، فلن يوفر سوى فترة من الإعفاء المالي قبل أن يعود النظام إلى الإعسار بعد عام 2030.

ولعل هذا هو ما يؤجّج الغضب في الشوارع؛ الشعور بين الفرنسيين بأنهم يعيشون في الأيام الأخيرة من “الفقاعة” وأنهم إذا ما عادوا إلى صوابهم فسيدركون أن إصلاح نظام التقاعد سيكون مجرد بداية. وأنه إذا نجح الرئيس في هذا الإصلاح، فسيكون أمامه أربع سنوات أخرى في السلطة لمواصلة سياسة “شد الحزام” الاقتصادي.
من ناحيةٍ أخرى، المؤسسات السياسية التقليدية في فرنسا، الحزب الاشتراكي والجمهوريين الوسطيين، لم تعد قابلة للاستمرار. وتبدو مارين لوبان على نحو متزايدٍ كما لو أنها قادرة على الفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة. إنها تعيش في دنيا الأحلام الاقتصادية، حيث وعدت بإعادة سن التقاعد إلى 60 عاماً بالنسبة للبعض (كما فعل فرانسوا ميتران للجميع عندما كان رئيساً، وأنشأ وزارة لوقت الفراغ). هذه هي سياسة الوهم. ولكن يبدو أن هناك سوقاً رائجة لذلك في شوارع باريس.
اقرأ أيضاً: فرنسا.. ديمقراطية معطلة وأمة منقسمة
وعلى الرغم من غطرسته وافتقاره إلى التعاطف مع الناخبين وازدرائه الواضح لأولئك الذين يعتبرهم أقل شأنا من الناحية الفكرية، كان ماكرون محقاً في كثيرٍ من الأحيان بشأن ما تعانيه فرنسا، وما يجب إصلاحه. لكن إنجاز أي شيء يثبت أنه مرهق ومُثبط للهمم. يمكنه الاستمرار في تجاهل المظاهرات، على الأقل لفترة من الوقت. الشرطة لديها الكثير من قنابل الغاز المسيل للدموع. ولكن إذا أعلن المجلس الدستوري بطلان مرسومه الإصلاحي، فقد يؤدِّي ذلك إلى إجراء انتخابات جديدة للجمعية الوطنية، التي قد تشهد على الأرجح المزيد من المكاسب للوبان.
وختاماً، يبدو أن الأمر سيتطلب معجزة لإنقاذ ما يبدو وكأنه فترة ولاية ثانية فاشلة. ماكرون محقٌ تماماً في قوله إن فرنسا تحتاج إلى إصلاحٍ جذري. لكن أبرز إنجازاته حتى الآن كان توحيد البلد ضده.
المصدر: ذا سبيكتاتور