الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة
ماسينيون الفرنسي.. قرينُ الحلاج الصوفي والمعرفي!

إيهاب الملاح
لأكثر من مائة وخمسين عامًا مارست فيها حركة الاستشراق الغربي للشرق أعمالها بجناحيها العلمي الأكاديمي الحضاري، والاستعماري المتصل اتصالا مباشرا بأهداف الدول الاستعمارية وأطماعها في الشرق. وكثيرًا ما كان يختلط الجناحان؛ ويتداخل العلمي بالسياسي، والعكس، لكن وبعد مرور ما يقرب على نصف القرن من الدراسة الواعية المحيطة المستوعبة لهذه الحركة (وخصوصًا بعد أن نقدها منهجيا إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق») بات من الثابت أن ما خلفته هذه الحركة الواسعة من أعمال علمية وفكرية وثقافية أكبر من أن تتهم في جملتها، وأبرز من أن يتم التشكيك في كامل ما أنتجته من آثار (خاصة من جانب المحافظين المتشددين).
من بين أبرز أعلام حركة الاستشراق، ولن نجاوز الحقيقة لو قلنا إنه واحد من العشرة الكبار في تاريخ حركة الاستشراق كلها، هو الفرنسي لويس ماسينيون (1883-1962) الذي يكاد يمثل بسيرة حياته، وقائمة أعماله ومؤلفاته، وما مارسه من جلائل الأعمال العلمية (اكتشافات أثرية، وتحقيقات تراثية، ودراسات علمية، وترجمات رصينة.. إلخ) فضلا على ممارسته التدريس والمحاضرة في كبريات الجامعات والكليات الأوروبية والأمريكية والعربية، يماثل مؤسسة ضخمة هائلة، متكاملة الأركان، منظمة الفروع والأقسام يمكن أن تستغرق حيوات وأعمارا بأكملها لدراستها واستقصاء تفاصيلها.
اقرأ أيضًا: أرض تنبت الأولياء
على مدار سنوات عمره الحافلة بالتنقل والسفر والمغامرة والتدريس والاكتشاف، خاض ماسينيون رحلة إنسانية وروحية وعلمية قلّما تتوافر لأحد عبر كل العصور، ساعده في ذلك إجادته الممتازة لعددٍ من اللغات الشرقية والأوروبية (كان يجيد بالإضافة إلى لغته الفرنسية، الألمانية، والإسبانية، والإنجليزية، ومن اللغات الشرقية العربية والفارسية والتركية). تنقل بين فرنسا وبريطانيا وألمانيا وسافر إلى العراق ومصر والجزائر وتركيا وإيران، واستقر سنواتٍ ليست بالقليلة في كل منها، وفي كل فترة من هذه الفترات، كان ينجز أعمالا مرجعية ما زالت إلى الآن تحظى بالاحترام والتقدير.
وأتاحت له دراسته المبكرة في فرنسا التعرف على الشرق ومجالاته المعرفية والفكرية والروحية، ما ترك أكبر الأثر في أبحاثه العديدة التي تنوعت وتعددت، وإن كانت تضمها المجالات التالية: الفلسفة الإسلامية والتصوف الإسلامي والفكر الإسلامي (بالجملة تراث الحياة الروحية والعقلية في الإسلام)، الآثار والتاريخ والحضارة، وأخيرا اللغة العربية التي ساهم فيها دراستها بقدر وافر من الأبحاث والدراسات الممتازة. يقول ماسينيون:
“جذبني الشرق إليه بماضيه الحافل بالديانات، فإذا أنا غارق فيه إلى قمة رأسي، وإذا فلاسفة الإسلام ومتصوفوه يحظون جميعاً بالقسط الأكبر من تفكيري، وإذا أنا بعد دراستي إياهم أنجذب نحو المنبع الأول الذي استقى منه هؤلاء الفلاسفة تصوفهم وفلسفتهم”.
اقرأ أيضًا:بروفايل: السوري طيب تيزيني يرحل مغادرًا “الساحة المبتذلة”
ولعل من أخصب سنوات ماسينيون، وأكثرها ثراء وتأثيرا، بعد مرحلته البغدادية، هي السنوات التي عاش فيها في مصر ودرّس في جامعتها الناشئة، وتعرف فيها على من سيقدر لهم أن يقودوا الحياة الفكرية والثقافية ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي كله في القرن العشرين.
ماسينيون.. التصوف.. والحلاج
لا يكاد يذكر اسم ماسينيون إلا مقرونًا بالتصوف الإسلامي، وبِعلم من أكبر أعلامه هو أبو منصور الحلاج، لقد عُني ماسينيون بالحلّاج عناية كبرى، وحصل على الدكتوراه من السربون (1922) عن رسالته الفريدة «آلام الحلاج ـ شهيد التصوف الإسلامي» التي تقع في أكثر من ألف صفحة، في أصلها الفرنسي (ترجمتها العربية في 720 صفحة من القطع الكبير)، وهي الرسالة التي أثبت فيها أصالة التصوف في الإسلام، واستكمل بحثه تاليا في نشأة المصطلحات الفنية في التصوف الإسلامي.. لكن لماذا الحلاج من بين شخصيات التصوف الإسلامي؟
يجيب المرحوم الدكتور إبراهيم مدكور في بحثه عنه “لأنه صادف هوى من نفسه، أعجب بشجاعته وتضحيته، ورأى في حياته تجربة إنسانية تبعث على الطهر والصفاء، وسيبقى الحلاج وماسينيون مقترنين على مر الزمن”.
وثمة إجماع بين المتخصصين والدارسين أنه لولا ماسينيون، وما قام به من دراسة الحلاج، وإخراج مخطوطاته، ونشر تراثه ما كان لنا أن نعيد اكتشاف هذه الشخصية التي ظلمت ظلما بينا من الفقهاء ورجال الدين الذين كانوا أبعد ما يكونون عن الفكر والثقافة والانفتاح على التجارب الإنسانية والروحية.
ولعل أول تعريف علمي منضبط كتب عن “التصوف” الإسلامي، ونشر بدائرة المعارف الإسلامية الشهيرة، هو مادة تصوف التي حررها ماسينيون ومعه الشيخ مصطفى عبد الرازق أستاذ الفلسفة الإسلامية وشيخ الأزهر؛ بالإضافة إلى مواد أخرى؛ مثل: “الزهد”، و”التفكير الإسلامي”، والكندي”، و”المحاسبي”، و”الشستري”.. إلخ
ثم كانت نصوص الحلاج، ورسائله، وشعره، وسيرته وما يتعلق به من نصوص تراثية، التي نشرها ماسينيون وأخرجها في طبعات مدققة، والدراسات التي حررها عنه، بمثابة فتوحات علمية كبرى.
ويصف أستاذُ الفلسفة الإسلامية، ووزير الأوقاف المصري الأسبق، الدكتور حمدي زقزوق، العمل العلمي الفذ الذي قام به ماسينيون في مضمار التصوف الإسلامي، ودراسات الحلاج، بأنه “يعد إسهامًا بارزًا في الحوار الحضاري بين الثقافتين الإسلامية والغربية، وأن هذا العمل سيظل يمثل جسرًا للتواصل بين هاتين الثقافتين ونموذجا يحتذى به للأجيال القادمة”.
أما ما يمايز جهد ماسينيون الضخم في درس التصوف الإسلامي، عن غيره من المستشرقين/ فهو إثباته لأصالة التصوف في الإسلام، ونشأته، وما قدمه من تفسير علمي حول نشأة التصوف الإسلامي ونموه وتطوره خلال القرون الثلاثة الأولى، تفسيرا مستمدا من أصول إسلامية خالصة لا تتعدى القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة.
أجمع دارسو الرجل، والمهتمون بأعماله، عربًا وأجانب، على موفور نشاطه وجهده طوال حياته، وأنه تحت تأثير دراساته العميقة، وغير المسبوقة للتصوف الإسلامي، وجوانب مختلفة أخرى من الثقافة الإسلامية، قد اكتسب رؤية صوفية نافذة، شاعرًا بأن له دورًا ورسالة روحية عليه إنجازهما، وعليه التحرك صوبهما، ويحدد المرحوم إبراهيم بيومي مدكور رئيس أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس مجمع اللغة العربية ملامح روحانية ماسينيون بدقة؛ “لم يدرس ماسينيون التصوف نظرًا فحسب، بل أحس به وعاش فيه، وبدت آثاره في قوله وعمله، واتسم به وجهه، ونعم بلذة الكشف والفيض، والتصوف عنده تجربة في الألم تحمل من مر بها على أن يتسامح مع الناس جميعا على اختلاف الأجناس والأديان، وقد يصبح طبيبا روحانيا يعالج آلام الآخرين، يكشف عن الداء ويصف له الدواء. ومهمة المتصوف لا تقتصر على الخلوة والوحدة، ولا بد أن يتأهب دائما للتضحية في سبيل الآخرين، وقد كان ماسينيون متصوفا حقا بهذا المعنى”.
اقرأ أيضًا: زيد الشمري.. بين أسد الصحراء ومحمد أسد
ويذكر غير واحدٍ ممن أرخوا له أنه عندما حضرته الوفاة، كان يردد الآيتين الكريمتين اللتين كانتا يرددهما باستمرار طوال حياته، متأثرًا في هذا بصديق حياته الروحية الحلاج: {لن يجيرني من الله أحد}(سورة الجن، آية 22)، و{يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها، والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق}(سورة الشورى، آية 18).