الواجهة الرئيسيةشؤون دولية

ماذا تعلم مؤتمر موسكو من ماضي أفغانستان المضطرب؟

كيوبوست- منير بن وبر

لا تزال مسألة تبنِّي السياسات المعتدلة لضمان الأمن والاستقرار والازدهار التي طال انتظارها في أفغانستان مسألة حاسمة؛ ليس بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين فحسب، بل حتى الدول الإقليمية لأفغانستان، هذه الدولة الحبيسة التي تقع على تقاطع دول منطقة آسيا الوسطى، والتي تشكل أيضاً مسرحاً لاستعراض القوة والنفوذ بين الدول الراغبة بشدة في الحصول على مقعد في المسرح الدولي.

في إطار المحادثات الحديثة في موسكو مع “طالبان”، دعت روسيا والصين وإيران إلى العمل مع سلطة الحركة في أفغانستان من أجل ضمان “استقرار” المنطقة المعرضة إلى مخاطر أمنية، وحضَّت الحركة الإسلامية المتشددة على انتهاج “سياسات معتدلة”. كما دعا المجتمعون حركة طالبان إلى تبني “سياسات ودية تجاه الدول المجاورة لأفغانستان، وتحقيق الأهداف المشتركة بإرساء سلام مستدام وأمن وازدهار على المدى الطويل”. بالإضافة إلى المطالبة بضمان حقوق المجموعات الإثنية والنساء والأطفال، والمطالبة بـ”مبادرة جماعية” لتنظيم مؤتمر دولي للدول المانحة لأفغانستان، بالتعاون مع الأمم المتحدة.

اقرأ أيضاً: الأوضاع الاستراتيجية في آسيا الوسطى عقب انسحاب حلف الناتو من أفغانستان

ويأتي المؤتمر بمشاركة عشر دول إقليمية؛ هي روسيا والصين وإيران وباكستان والهند، بالإضافة إلى الجمهوريات السوفييتية السابقة الخمس في آسيا الوسطى. تمت دعوة الولايات المتحدة للمشاركة أيضاً؛ لكنها لم تشارك لأسباب لوجستية، وعبَّرت واشنطن عن استعدادها للمشاركة مستقبلاً. تمتلك كل دولة من الدول المشاركة أهدافها الخاصة؛ لكن الجميع يتفق تقريباً على أن السياسات المعتدلة وفرض الأمن أساسي لأي تقدم مستقبلي في العلاقات مع هذه الجماعة؛ بما في ذلك الاعتراف الدولي والمساهمة في رفع العقوبات وإلغاء حظرها من قِبل بعض الدول.

من بين جميع اللاعبين في الصياغة الجارية لتهيئة الجماعة -وفقاً للأمر الواقع- تبرز كل من الصين وروسيا؛ تتعامل الصين مع أفغانستان من باب إدارة التهديدات أكثر مما هو استغلال الفرص الاقتصادية الواعدة في البلاد، والتي لم تتم الاستفادة منها قط طوال العقود الماضية؛ بسبب الاضطرابات التي لا تهدأ بها.

أحد مناجم الذهب في أفغانستان- “رويترز”

لم تكن الصين مرتاحة للوجود الأمريكي بالقرب منها خلال فترة وجودها في أفغانستان، إلا أن ذلك الوجود كان مفيداً من ناحية احتواء المخاطر المنتشرة على الأراضي الأفغانية، والمخاوف من وصولها إلى الصين. اليوم، وبعد انسحاب الولايات المتحدة، على الصين أن تعمل على إدارة شؤونها الأمنية ومخاوفها من خلال نهج يجمع بين الودية والحوافز والحذر.

تُعد الصين بالفعل أكبر مستثمر خارجي في أفغانستان من خلال مشروع لاستخراج النحاس تبلغ قيمته 3 مليارات دولار، تم توقيع عقد المشروع منذ عام 2008؛ لكن لم يبدأ العمل به بعد لأسباب أمنية. لدى الصين مشروعات عدة أخرى في أفغانستان في قطاعات النفط والغاز والبنية التحتية، وهناك رغبة لضم أفغانستان ضمن مبادرة مشروع الحزام والطريق؛ لكن انطلاق هذه المشروعات مرهون بتحسن الأوضاع الأمنية وتشييد البنية التحتية في البلاد، ورفع العقوبات الغربية، وذلك على الرغم من قدرة الصين على الالتفاف على مسألة العقوبات هذه كما هو الواقع في ما يتعلق بالعقوبات المفروضة على إيران.

الصين هي واحدة من الدول القليلة والقوة الاقتصادية العظمى الوحيدة التي أقامت حتى الآن علاقات ودية مع “طالبان”؛ لذلك من شأن بكين أن تحظى بمنافع المتحرك الأول إذا ما شاءت الأقدار أن تنخرط حركة طالبان في المجتمع الدولي وفقاً للشروط المطروحة؛ وهو ما سيمنح بكين دوراً مهماً في التنمية الاقتصادية للبلاد التي تشتد حاجتها إليها، والتي لطالما عبَّرَ المسؤولون عن الحركة عن رغبتهم في الاستفادة منها من خلال الاستثمارات الصينية؛ حيث تمتلك أفغانستان كميات هائلة من المعادن غير المستغلة، مثل النحاس والحديد والليثيوم، إضافة إلى النفط الخام والغاز الطبيعي.

اقرأ أيضاً: الحرب الأبديةلباكستان التي دامت خمسين عاماً في أفغانستان والسياسة الأمريكية بعد 11 سبتمبر

لا تمتلك موسكو حوافز اقتصادية مماثلة للصين حتى في حالة استقرار البلاد؛ بل لديها حوافز أمنية أكثر وجيوسياسية أكبر. لدى موسكو تجربة سابقة مكلفة مع أفغانستان، ومخاوف أمنية جادة، وهي تسعى لإعادة استراتيجية تعاملها مع كابول بعد اقتناعها بفشل القوة العسكرية. لعقد كامل من الزمان، من عام 1979 حتى 1989، خاض الاتحاد السوفييتي حرباً مع الأفغان الذين رأوا أن إصلاحات حكومتهم التي تميل إلى الشيوعية تهدد بتقويض الأنماط الثقافية الأفغانية الأساسية. تلقت المعارضة التي عُرفت بـ”المجاهدين” دعماً من عدة دول؛ منها الولايات المتحدة، وكان أحد أسباب الانخراط السوفييتي هو الحفاظ على الحكم الشيوعي في إطار الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.

أثناء الحرب الأفغانية- السوفييتية، اعتبر الحلفاء الغربيون المقاومة الأفغانية فرصة لإبقاء موسكو في مستنقع ونزيف اقتصادي؛ لذلك، تُدرك موسكو اليوم أهمية اتباع نهج مختلف للتعامل مع الوضع الحالي في أفغانستان، وفي نفس الوقت انتهاز الفرصة لإثبات دور روسيا في أحقيتها لعب دور عالمي والقضاء على الهيمنة الغربية بقيادة واشنطن وعالم القطب الواحد.

الحرب السوفييتية- الأفغانية- أرشيف

تواجه أفغانستان في الوقت الحالي أوضاعاً محفوفة بالمخاطر؛ ليس لشعبها فقط بل حتى بالنسبة إلى الدول المجاورة؛ حيث وصل تهريب المخدرات إلى مستويات قياسية، وهناك مخاوف من تزايد وجود ونشاط المجموعات الإرهابية؛ مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، كما يوجد شح شديد في السيولة النقدية، وأزمة إنسانية. تشغل هذه التهديدات صناع القرار في دول آسيا الوسطى والصين وروسيا والدول المشاركة في المؤتمر عموماً، والذين جاء في البيان المشترك الصادر عنهم أن “عبء” إنعاش الاقتصاد والنمو في أفغانستان يجب أن يتحمله “الأطراف (في النزاع) الذين كانوا حاضرين في البلاد خلال السنوات العشرين الماضية”.

إن خليطاً من الدوافع الأمنية والاقتصادية والجيوسياسية هو ما يقود الدول المحيطة -وحتى البعيدة كالولايات المتحدة- إلى التدخل في أفغانستان منذ عقود، وفي المقابل، يتسبب الوضع الثقافي والديني والعرقي في وجود مصالح متضاربة تسبب الصراع. خلال الخمسينيات وبداية الستينيات -مثلاً- كان السوفييت الشريك الرئيس في المعونة والتجارة لأفغانستان؛ لكن بحلول بداية السبعينيات تأثر الإسلاميون في أفغانستان بشدة بالأيديولوجية المسلحة لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وكانوا يعارضون بشدة قوة العناصر اليسارية والعلمانية في أفغانستان.

اقرأ أيضاً: هل هناك طالبانجديدةفي أفغانستان؟

لم تنجح محاولات الحكومة حينها في الابتعاد عن الاعتماد السوفييتي والأمريكي، وأدت الاضطرابات في النهاية إلى ولادة جمهورية أفغانستان الديمقراطية والدخول في مرحلة الشيوعية، كانت هناك تأكيدات حكومية وأخرى سوفييتية على القومية الأفغانية، والمبادئ الإسلامية، والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، واحترام جميع الاتفاقيات والمعاهدات؛ لكن كل ذلك لم يمنع انزلاق البلاد في الحرب الأهلية. وبحلول أواخر الثمانينيات بلغ عدد اللاجئين الأفغان في باكستان وإيران أكثر من خمسة ملايين.

وعلى الرغم من انسحاب السوفييت من أفغانستان في عام 1989م، ثم تفكك الاتحاد السوفييتي أخيراً وانتهاء الحرب الباردة؛ فإن الاضطرابات استمرت في أفغانستان من أجل احتكار السلطة والنفوذ، وظهور حركة طالبان في عام 1994، والتي نجحت حينها في بسط سيطرتها على البلاد. حظيت “طالبان” بدعم باكستان التي كانت تطمح في تأمين طريق عبر أفغانستان إلى الأسواق في آسيا الوسطى، وتطوير خطوط أنابيب الغاز والنفط المربحة من حقول آسيا الوسطى إلى المحطة الباكستانية. وقد رأى الباكستانيون حينها أن قضاء “طالبان” على الجماعات الأخرى واحتكار القوية سوف يساعدهم على تحقيق مصالحهم. وفي المقابل، وعدت “طالبان” بنهج أكثر ودية مع باكستان على عكس الحكومات السابقة التي كانت أكثر انفتاحاً على الهند.

اقرأ أيضاً: لماذا نجحت الولايات المتحدة في إعادة إعمار ألمانيا واليابان وفشلت في العراق وأفغانستان؟ (2-3)

إن الرغبة الإقليمية والدولية اليوم تركز على الاعتدال وفرض الاستقرار؛ لكن، في المقابل، لا يمكن المراهنة على تحقيق هذا النهج من قِبل “طالبان”؛ لذلك من غير المرجح أن تؤدي المؤتمرات والمشاورات الحالية إلى أكثر من التأكيدات والتعهدات والدعوات، والكثير جداً من الحذر والبحث عن استراتيجيات تستفيد من أخطاء الماضي؛ فذلك سيكون أفضل من عزل البلاد أو تركها تغرق في أزمتها اللا نهائية.

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

منير بن وبر

باحث في العلاقات الدولية وشؤون اليمن والخليج

مقالات ذات صلة