الواجهة الرئيسيةشؤون دولية

ليبيا.. طريق تركيا للسيطرة على منطقة البحر المتوسط

كيوبوست – ترجمات

صرَّحت أنقرة بنجاحها في توقيع اتفاق جديد مع ليبيا يتمتع بمزايا عديدة ويلتزم بالقانون الدولي؛ لكن الأمر لم يخلُ من إشارات عن مطامعها المستقبلية في المنطقة. وكانت إحدى الحكومات التي تتقاسم الحكم في ليبيا قد وقَّعت مؤخرًا اتفاقًا غريب الشأن مع أنقرة؛ فالحكومة التي لا يتجاوز نفوذها نسبة ضئيلة من مساحة ليبيا وتتمركز في العاصمة طرابلس يبدو أنها كانت في حاجة ملحة إلى الدعم التركي، وهو ما قد يفسر ما تضمنه الاتفاق من تحديد للأطراف التي من حقها السيطرة على منطقة المتوسط الليبي.

 وبالنسبة إلى الجانب اليوناني، فقد عبر عن استيائه من مضمون الاتفاق؛ حيث هددت أثينا بإدخال أطراف دولية كحلف الناتو للفصل في تلك القضية، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل يجر هذا الاتفاق تداعيات أعظم شأنًا على كلٍّ من مصر وقبرص وإسرائيل، وذلك لسبب بسيط هو رغبة تركيا في السيطرة على نطاق واسع من المتوسط بغرض تحويله إلى منطقة اقتصادية.

اقرأ أيضًا: اتفاق ترسيم الحدود البحرية التركي- الليبي يهدد شرعية حكومة السراج

كان فايز السراج، رئيس حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، قد عقد اجتماعًا مع الجانب التركي خلال زيارة رسمية إلى إسطنبول استمرت لمدة أسبوع، ويبدو للعيان أن تلك الزيارة تضمنت محادثات ثنائية حول الاتفاق المشار إليه، وهو الذي سيمنح تركيا نفوذًا غير مسبوق في المتوسط بغرض تحويلها إلى منطقة اقتصادية، بينما أشارت جريدة “الصباح الجديد” التركية، إلى المنافع المشتركة التي سيحققها الاتفاق لكلا البلدَين.

الوطن الأزرق

وعلى ما يبدو فقد تجاهل التقرير الإشارة إلى النيَّات الحقيقية التي تقف خلف الاتفاق؛ حيث تسعى تركيا لتجد موضع قدم جديدًا لها هذه المرة في ليبيا بالضبط كما فعلت في العراق وسوريا؛ وهو ما يعني سيطرة أنقرة على مساحة شاسعة في المنطقة وتحقيق نفوذ قوي لم يسبق لها الحصول على مثله منذ انهيار الخلافة العثمانية قبل نحو 100 عام.

الرئيس التركي أردوغان و فايز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني في ليبيا- خلال توقيع الاتفاق مطلع الشهر الجاري

وأشار التقرير، الذي أعدته “الصباح”، إلى أن تركيا تتعامل مع فكرة السيطرة على منطقة المتوسط بخطة مكتملة الأركان؛ فالحدود البحرية التركية سوف تتوسع بدءًا من هذا الاتفاق، كما سيظهر بعض المدن الحدودية الساحلية؛ مثل مارماريس وكاش، كجارات مباشرة للأقاليم الليبية؛ مثل درنة وطبرق وبردية.

اقرأ أيضًا: إدانة أممية لخرق تركيا قرارات الأمم المتحدة بشأن ليبيا

وكانت الحكومة التركية قد أطلقت اسم مشروع “الوطن الأزرق” على المنطقة محل الاتفاق، كما حرصت على أداء تدريبات عسكرية بحرية واسعة النطاق خلال العام الماضي؛ لاستعراض قوتها العسكرية، بينما حدد وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، تلك المنطقة بمساحة تبلغ 462000 كيلومتر مربع تمتد من البحر الأسود إلى منطقة بحر إيجة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد شنت القنوات التركية الموالية لحكومة أردوغان حملة إعلامية غرضها الترويج بشكل صريح للاتفاق المثير للخلاف؛ حيث أشارت إلى أن البحرية التركية تواصل نشر قواتها لإظهار قوتها للدول الأخرى. أي أنه باختصار، لن تتوقف تركيا عن مواصلة توسيع حدودها البحرية؛ ما يبشر بظهور اتفاقات جديدة في المستقبل القريب.

وبينما تسعى تركيا لتعظيم الضغط على قبرص من جهة وتنفيذ أجندتها الخاصة مع حكومة طرابلس من جهة أخرى، نشر فخر الدين ألتون، المسؤول الإعلامي بالرئاسة التركية، تغريدة على حسابه الخاص مفادها أن توفير التعاون الأمني والعسكري هو أحد المفاتيح الرئيسية لدعم واحدة من الحكومات المسيطرة في ليبيا.

كان المشير خليفة حفتر قد تمكن من تطويق حكومة السراج بمساعدة الجانبين المصري والإماراتي بعد سنوات من اندلاع الحرب الأهلية الليبية، غير أن ما يدعو إلى الدهشة هو أن هذا الاتفاق الثنائي تضمن منح تركيا النفوذ على مناطق ساحلية لا تملك حكومة السراج أي نفوذ فيها؛ لكن على ما يبدو أن حكومة السراج استغلت دعم الأمم المتحدة لها، وعلى الرغم من سيطرتها على المساحة الأقل من الأراضي الليبية؛ فإنها الحكومة الوحيدة التي تمتعت بالتعاون مع المنظمات الدولية، كما أنها تبدي استعدادها لإجراء المحادثات مع القوى الدولية الغربية.

غنيمة

ومن الواضح أن تركيا لم تتأخر عن منح الدعم الكافي لحكومة طرابلس؛ حيث زودتها بالطائرات من دون طيار والمركبات العسكرية، ما جعل ليبيا تتحول إلى منطقة حرب بالوكالة بين تركيا من جانب، ومصر ودول الخليج العربي على الجانب الآخر، ولا يغيب عن الذاكرة معارضة تركيا للنظام المصري المتمثل في عبد الفتاح السيسي منذ الإطاحة بالرئيس القادم من صفوف جماعة الإخوان المسلمين محمد مرسي، عام 2013؛ وهي الجماعة المدعومة من قِبَل الحكومة التركية، ما تسبب في تحويل ليبيا إلى مكان مثالي تمارس فيه الأطراف المختلفة حربها باستخدام الطائرات من دون طيار والمعدات العسكرية الأخرى.

اقرأ أيضًا: تركيا تعبث بالقانون الدولي في غاز المتوسط

تبدو الصورة أوضح الآن؛ فالطائرات من دون طيار ووسائل الدعم العسكرية الأخرى لم تكن سوى الخطوة الأولى في الخطة التركية؛ فتركيا تسعى لإرساء نفوذها الاقتصادي والحصول على سياج استراتيجي يصل بينها وبين الأراضي الليبية، وهي الغنيمة التي لا يمكن اعتبارها أمرًا يسيرًا على الإطلاق؛ حيث تبلغ المساحة البحرية التي ترغب تركيا في اقتناصها نحو 800 كم من منطقة البحار العليا، وهي المسافة التي تمر بكلٍّ من قبرص واليونان وتصل حتى المنطقة الحدودية من ليبيا؛ أي تلك التي يسيطر عليها خليفة حفتر. وعلى كلٍّ، لم يغب عن أنقرة أن حكومة طرابلس ستوافق على التوقيع على أراضٍ ليست تحت إمرتها؛ وذلك لما تعانيه الحكومة في طرابلس من ضعف، كما لم يغب عنها كذلك أن حفتر لن يعجبه الأمر على الإطلاق، ولذلك نجحت في ليّ ذراع الطرف الضعيف.

نموذج طائرة من دون طيار خاصة بالجيش التركي

إذن ليس في الأمر من جديد؛ فتركيا لم تفعل شيئًا سوى ممارسة استراتيجيتها المعتادة بأن تضع العالم أمام الأمر الواقع، وقد مارست الفعل نفسه عندما أشعلت فتيل الأزمة في شمال العراق وقامت بغزو ليبيا وأرسلت كتائبها العسكرية إلى قطر عام 2017، والنتيجة بطبيعة الحال هي نجاح تركيا في توسيع حدودها يومًا بعد يوم، ومن ثَمَّ تهديد البلدان الأخرى، وأنقرة لم تتأخر عن توجيه الإهانات إلى فرنسا، أو تشبيه إسرائيل بالنازي الألماني، كما فعلت في إحدى جلسات الأمم المتحدة، يحدث كل ذلك في الوقت الذي تنفي فيه تركيا أيًّا من تلك النيَّات، بينما تقوم بتحضير مخططاتها على نار هادئة، وهو ما حدث بالضبط في اتفاق البحر المتوسط.

اختراق القوانين الدولية

ولا شك في أن هذا الاتفاق سوف يجر كثيرًا من التداعيات على عدة بلدان؛ منها قبرص وإسرائيل واليونان وإيطاليا، وعلى وجه الخصوص ستشغل خطوط الغاز بمنطقة شرق المتوسط جانبًا لا بأس به من المحادثات المشتركة، وكما هو واضح، لم تتأخر تركيا عن خرق المبادئ التي تنظم التعامل مع هذا الأمر؛ فنجحت بذلك في إيصال رسالة استفزازية مفادها: نحن نسيطر الآن على المنطقة الواقعة بين ليبيا وتركيا، ونجحنا في تقسم البحر المتوسط إلى نصفَين.

اقرأ أيضًا: تركيا تبحث عن 18 مليار دولار في ليبيا

ومن المتوقع أن تطلب اليونان من حلف الناتو بشكل رسمي دعم أثينا، وهو ما دعا رئيس الوزراء اليوناني كرياكوس متسوتاكيس، إلى مطالبة الحلف بأن يتوقف عن إبداء التجاهل حيال اختراق تركيا للقوانين الدولية. بينما أشار وزير الخارجية نيكوس دندياس، إلى أن القوانين البحرية التي سبق أن وقعت عليها تركيا لا تتضمن أمورًا كالتي تسعى لها الآن، وأن الاختراق الذي تقوم به تركيا سيثير حفيظة الدول الأخرى الموقعة على تلك القوانين، وبالنسبة إلى قبرص فقد تكون المشكلة التي تتعلق بحدودها البحرية أعظم شأنًا. على الجانب الآخر، تعلق الحكومة اليونانية بعض الآمال على رفض البرلمان الليبي ذلك الاتفاق، كما أنها هددت بطرد السفير التركي لديها في حالة عدم استجابة أنقرة لتسليم أوراق الاتفاقية كاملة إلى الجانب اليوناني.

وزير الدفاع القبرصي سافاس أنجيليدس (يمين) مع نظيره المصري الفريق محمد أحمد زكي بعد محادثات في نيقوسيا- سبتمبر الماضي

ولم تكتفِ اليونان بتلك الإجراءات؛ فهي علاوة على ما سبق تعمل مع الجانب المصري على تحديد المناطق الاقتصادية الخاصة بكلتا الدولتَين، بينما تنظر إيطاليا بعين الشك إلى الاتفاق التركي- الليبي، وعلينا أن لا ننسى تاريخ إيطاليا الاستعماري لليبيا، ذلك الذي بدأ بعد الحرب مع الإمبراطورية العثمانية عام 1911. أما بالنسبة إلى حكومة حفتر القائمة في شرق ليبيا، فقد رفضت الاتفاق جملةً وتفصيلًا. وعلينا أن لا ننسى بعض الأطراف الأخرى؛ كالولايات المتحدة على سبيل المثال، تلك التي تسعى لتحقيق اتفاق سلام هادئ في ليبيا، إضافة إلى تورط الروس في الشأن الليبي.

سياسة الأمر الواقع

لم تنتهِ القصة بعد، فدائمًا ما يكون لدى تركيا ما تهدد به، وكلما هم حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي بممارسة الضغوط على تركيا، فإنها تهدد بفتح أبواب أوروبا على ملايين اللاجئين والمهاجرين، وقد سبق أن مارست التهديدات نفسها بعد انتقاد أوروبا للغزو التركي لسوريا في أكتوبر الماضي؛ ما دفع الدول الأوروبية إلى التراجع، أضف إلى ذلك تهديدها باستخدام حق الفيتو لإحباط مخططات الناتو في البلطيق؛ وذلك بهدف الحصول على دعم الناتو لعملياتها العسكرية في سوريا.

اقرأ أيضًا: أوروبا تحذِّر أردوغان من التنقيب في البحر المتوسط

لقد سبق أن أثنى رئيس حلف الناتو جينس ستولتينبيرج، على التمويلات التركية للحلف، كما ظهر بمظهر الداعم لأنقرة في دورها بسوريا؛ وهو ما يعني أن اليونان عليها أن تكافح للحصول على دعم الناتو. ومن الجدير بالذكر أن اليونان تخشى تدفق اللاجئين إليها عبر تركيا؛ خصوصًا مع وجودها على الحدود المباشرة معها، وهو ما دفعها إلى تعظيم القيود على استقبال اللاجئين، وفي مثل هذا الوضع الذي تحياه أثينا سيكون آخر ما تتمناه هو اجتياح مليون لاجئ إضافي لأراضيها.

جنود البحرية التركية خلال عرض عسكري في البحر المتوسط

تعلمت تركيا من خلال تعاملاتها السابقة مع الولايات المتحدة وأوروبا وحلف الناتو درسًا مهمًّا مفاده أنه عليك أن تبدأ بالفعل ومن ثَمَّ ستتمكن من جلب الدعم والاحترام في وقتٍ لاحق، وهو ما يبدو جليًّا في بعض الأحداث؛ فقد سبق أن وجدت الأمم المتحدة نفسها مضطرة إلى زيارة تركيا ودراسة خطتها لاستعمار شمال سوريا، كما تدرس الولايات المتحدة الآن قرار أنقرة بشراء صواريخ “إس- 400” من الجانب الروسي.

لدينا كذلك محاولات تركيا لممارسة أعمال التنقيب على حساب قبرص، وذلك على أمل أن تسمح منطقة شمال قبرص التي سبق أن احتلها الأتراك عام 1970 بذلك، وهو الأمر الذي رفضته قبرص بالطبع؛ لكن أنقرة لم تضع هذا الرفض في الحسبان، وقررت المضي قدمًا والبدء في التنقيب في أكتوبر الماضي. وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهتها الولايات المتحدة إلى أنقرة في ذلك الوقت؛ فإن تركيا قد تعلمت أن المجتمع الدولي لا تحكمه الكلمات بل الأفعال، لذلك قررت أن تبدأ بالحفر ومن ثَمَّ تحصل على الأرض بعد ذلك، ويذكرنا ذلك بما فعلته الصين في بحر الصين الجنوبي؛ حيث اتبعت الخطة ذاتها ونجحت أخيرًا في تحقيق أهدافها.

اقرأ أيضًا: هل تستطيع ألمانيا منع تحوُّل ليبيا إلى سوريا جديدة؟

وتعكس الطريقة التي اتبعتها تركيا في اتفاق البحر المتوسط استراتيجيتها الأخرى؛ لا سيما وهي تقوم باستغلال البلدان الضعيفة، مثل ليبيا، أو حتى تلك الدول غير المعترف بها مثل قبرص الشمالية، وهو الأمر نفسه الذي حدث مع العراق وسوريا من قبل، ومع حصولها على منظومة الصواريخ “إس- 400” فقد تتمكن من التوصل إلى اتفاق ما مع روسيا بخصوص ليبيا؛ وهو ما يجعل دولًا أخرى مثل اليونان والولايات المتحدة في موقفٍ حرج، فإذا أرادت تلك الدول التصدي لما يحدث؛ سيكون عليها أن تتخذ إجراءً فعليًّا على أرض الواقع.

المصدر: جيروزاليم بوست

اتبعنا على تويتر من هنا

 

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة