الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةمقالات
لماذا يتعاطف الأفراد مع الجناة؟

كيوبوست
هالة الحفناوي♦

في عام 1973، اقتحم شخصان بنك “كريديت بانكن” الواقع في العاصمة السويدية، ستوكهولم، واحتجزوا أربعة موظفين في قبو البنك لمدة ستة أيام، وبينما كانت الشرطة تحاول التفاوض مع الجناة للحفاظ على حياة الرهائن، فوجئ رجال الأمن بمحاولات الرهائن الدفاع عن الجناة بل ومحاولة حمايتهم، والتفاوض مع المسؤولين للوصول إلى اتفاق يضمن سلامة الطرفَين؛ المتهمين والمحتجزين. وتذكر سجلات الواقعة مكالمة تليفونية بين رئيس الوزراء وسيدة من الرهائن ترجو منه السماح لهم جميعاً بالخروج من البنك دون التعرض للمتهمين، وتخبره بأن المختطفين لم يسيئوا إليهم، وأنها تثق فيهم، وأن ما يخيفها حقاً احتمالية التعرض إلى الأذى على يد رجال الشرطة إذا اقتحموا البنك.
وعندما داهمت الشرطة البنك لتحرير الرهائن، رفض الرهائن الخروج من قبو البنك تضامناً مع مختطفيهم، ولم تستطع الشرطة إخراجهم إلا بعد إطلاق الغاز المسيل للدموع. ليس هذا فحسب؛ بل كان من اللافت امتناع الرهائن عن الشهادة ضد الجناة بعد القبض عليهم، وأنهم دفعوا أتعاب محامي الدفاع عن الخاطفين.
اقرأ أيضًا: من منظور الفلسفة وعلم النفس، ما الفرق بين التسامح والتناسي؟
استوقفت هذه الواقعة الصادمة علماء النفس، وأثارت جدلاً واسعاً حينها، وتساؤلات عن أسباب تعاطف المجني عليه مع الجاني. ومن جانبه، أطلق عالم النفس نيلز بيجيروت، على هذه الظاهرة متلازمة ستوكهولم، محاولاً تفسير مواقف الرهائن وسلوكهم غير المنطقي تجاه محتجزيهم.
ولم تكن واقعة ستوكهولم الحالة الوحيدة التي تعبر عن تلك الظاهرة؛ بل إن هناك العديد من الوقائع المشابهة التي تمتد أيضاً لأسرى الحروب، بل وأسرى الجماعات المتطرفة!
وتحدد متلازمة ستوكهولم أسباب تعاطف الرهائن أو الذين تعرضوا إلى الأذى مع الجناة بأنه نوع من الاستجابة للصدمة؛ حيث يشعر المجني عليه بالامتنان للجاني، الذي كان بمقدوره إنهاء حياته أو إلحاق الأذى به؛ لكنه لم يفعل.

وإذا كانت متلازمة ستوكهولم تفسر لنا أسباب تعاطف المجني عليهم مع الجناة؛ لكنها لا تفسر تعاطف الأفراد العاديين مع الجناة على الرغم من ثبوت التهم عليهم؟ فمنذ أكثر من عامَين، عرضت منصة “نتفليكس” حلقات وثائقية حول القاتل المتسلسل الأمريكي، تيد بوندي، الذي أُعدم عام 1989 لقتله سيدات وفتيات في عدة ولايات أمريكية. ورغم اعترافه بقتل 30 سيدة، كان هناك عدد غير قليل من المتعاطفين مع بوندي، وتلقى الدعم من كثيرين، ووصف بأنه صاحب كاريزما جاذبة، والأكثر غرابة من ذلك أنه تزوج أثناء محاكمته من إحدى معجباته وأنجب منها طفلة.
أعادت حلقات “نتفليكس” النقاش حول حالات التعاطف مع الجناة؛ بمَن فيهم الأكثر شرّاً وعنفاً. فلم يكن بوندي الحالة الوحيدة التي تعاطف معها جمهور من العامة؛ إذ أشار بعض العاملين في السجون الأمريكية إلى تلقي القتلة خطابات دعم وإعجاب من البعض، بل إن هناك العديد من المدونات التي تساند الجناة وتتعاطف معهم.
ولا تبعد هذه الظواهر عن منطقتنا العربية؛ ففي كثير من الحوادث نجد تلك الحالة من التعاطف مع الجاني، مع اختلاف في الدوافع واختلاف في سياقات الوقائع والجرائم.
شاهد : دقيقتان لصحتك: ما هي أعراض الاضطرابات النفسية؟
الإنسانية المرتبكة:
في ضوء ما سبق، لم يكن من الغريب وجود حالات من التعاطف مع الجناة في جرائم القتل أو الاغتصاب وغيرها. وهو ما لمسناه مؤخراً مع الحكم بالإعدام على الجاني في قضية نيرة أشرف، فتاة المنصورة، في مصر؛ فقد عبرت بعض الأمهات عن حزنهن على القاتل، واعتبرنه هو الآخر مجنيّاً عليه، فالشباب في هذه السن، وفقاً لهن، مندفعون ومتهورون، وقد يصل بهم الإفراط في انفعالاتهم إلى سلوكيات متطرفة ما لم يجدوا مَن يحتويهم.
في عام 2014، تداولت الصحف الدولية واقعة إعدام شاب إيراني لارتكابه جريمة اغتصاب، وتعاطف الجماهير التي شهدت تنفيذ الحكم، مع استعطافه الجهات المسؤولة للسماح له برؤية والدته مرة أخيرة، وأطلقوا صيحات تشجعه على الهرب وأخرى تطلب مسامحته.

تلخص المشاهد السابقة جانباً من أسباب التعاطف مع الجناة؛ فعادة ما تحظى القضايا المشابهة بمتابعة من الرأي العام الذين يُصاب بنوع من الصدمة، يعود إلى كون الجاني في نهاية المطاف فرداً عاديّاً وليس من أرباب السوابق؛ ما يشعرهم بالقلق والخوف، وتركهم نهباً للفضول بشأن فهم الجانب المظلم من حياة الجاني، والدوافع التي صنعت منه مجرماً يقترف جريمة بشعة. بمعنى آخر، هي محاولة للبحث عن الجانب الإنساني في الجاني. ولا يعني ذلك بالضرورة أن يبرر الجمهور للجاني جريمته؛ لكن ما يفصل بين التعاطف مع الجاني كإنسان ومحاولة البحث عن مبرر لجريمته شعرة رفيعة في حقيقة الأمر؛ وهي الشعرة التي ترتبك عندها مشاعر الجماهير.
على الجانب الآخر، قد يحاول الجمهور التماس فرصة ثانية للجاني، ليس من أجله بالضرورة؛ ولكن كرد فعل لا إرادي على قلقهم من أن تؤدي بهم ضغوط الحياة أو بأبنائهم إلى ارتكاب سلوكيات غير متوقعة؛ حيث يعيش نسبة كبيرة من الأشخاص في المجتمعات العربية في ظل أزمات وضغوط كثيفة وغير مسبوقة. والتعاطف والدفاع عن الجاني، وفقاً لذلك، هو في جزء منه تعاطفٌ مع الذات أيضاً، واستياء مما آلت إليه حال المجتمع بصورته العامة.
في كل الأحوال، يعتبر المتخصصون في علم النفس هذه النوعية من المشاعر في أغلبها تعبيراً عن تعاطف لحظي وانفعالي، ولا تعبر عن قناعات حقيقية، ولا تنذر باحتمال ارتكاب المتعاطفين جرائم مشابهة لتلك التي اقترفها الجناة.
اقرأ أيضًا: مطاردة “الساحرات”… لماذا تتوحش جرائم العنف في المجتمع المصري؟
العدالة الرمادية:
لا تقف أسباب التعاطف مع الجناة عند الفكرة الإنسانية المطلقة؛ ولكن تمتد أيضاً لتشمل تصورات الأفراد عن العدالة وآلية تحقيقها، فالمعضلة الأخلاقية التي جسدتها رواية “الجريمة والعقاب” لدوستويفسكي ما زالت قائمة؛ فكثير من القضايا والوقائع من منظور الجمهور تقع في المنطقة الرمادية التي يختلط فيها الجاني بالمجني عليه، حيث يتحمل المجتمع ومؤسسات الدولة جزءاً من المسؤولية أيضاً. ويعتبر الجمهور تحميل “المجني عليه” المسؤولية الكاملة وحده دون معاقبة الأطراف الأخرى انحرافاً عن العدالة. وتزداد هذه المشاعر كلما اشترك الجمهور مع الجناة في ظروف معيشية مشابهة. فعلى سبيل المثال؛ حاولت دراسة تحليل علاقة التعاطف مع الجناة على زيادة معدلات السرقة والسطو، وكان من بين النتائج التي خلصت إليها أن الفقراء أكثر تعاطفاً مع الجناة، على اعتبار أن ظروف الفقر المدقع هي التي دفعت بهم لارتكاب مثل هذه الجرائم، وليس من العدل معاقبة الفقير الذي ضاقت به السبل واضطرته الظروف إلى السرقة.
ووَفق المنطق نفسه، تأتي قضايا الانتقام وغيرها التي يبدو فيها الجاني ضحية لما تعرض له من أذى على يد آخرين، وهذه السرديات وغيرها تجعل الأفراد في حالة تشكك إزاء الحكم على الجاني وحده، والخوف من أن يفلت آخرون تسببوا بشكل أو بآخر في إقدام الجاني على جريمته.

ولا يتوقع أن ينتهي هذا الجدال الممتد منذ مقولات أفلاطون عن المدينة الفاضلة وحتى يومنا هذا، فعلى الرغم من منطقية هذا الطرح، فإن التسليم به ينطوي على عواقب سلبية تمس استقرار المجتمع وأمنه، ولذا فإن الامتثال للقانون -على الرغم من ثغراته- لا يزال الحل الأسلم؛ لكن سرديات المظلومية تُستغل في كثير من الأحيان للتأثير على الرأي العام ودفعه نحو التعاطف مع الجاني.
على الجانب الآخر، فإن محاولات التشكيك وزعزعة الثقة في المؤسسات القائمة على تطبيق القانون تؤثر في مواقف البعض من الجناة، وتطرح تساؤلات من قبيل: على مَن يُطبق القانون؟ وهل الجميع سواسية أمامه؟ وبالتالي فإن تصورات الرأي العام عن إجابة هذه الأسئلة يمكن أن تشكل مواقفهم من الجناة.
القيم المشتركة:
وفقاً لبعض الأفراد والثقافات الفرعية، فإن هناك نوعاً من الجرائم مبرراً تماماً؛ فجرائم الشرف على سبيل المثال غير مستهجنة لدى قطاع عريض في بعض المجتمعات العربية، وبالطبع يحظى مرتكبوها بقدر كبير من التعاطف. وفي بعض الجرائم ذات العلاقة بالتعدي على المرأة مثل جرائم التحرش، عادة ما يتم الضغط على المجني عليها للتنازل عن حقها في رفع دعاوى قضائية ضد المعتدي، تحت شعار أنها سوف تدمر مستقبله؛ بل إن كثيرين يعتبرون الضحية هي الطرف الملوم في هذه النوعية من الجرائم، فهي من خرجت من بيتها أو ارتدت ملابس غير محتشمة، وغير ذلك من الاتهامات التي توجه إلى النساء في هذه الحالة.
اقرأ أيضًا: كيف يمكن لعلم النفس أن يساعدنا على العيش بطريقة أفضل؟
كذلك تشهد جرائم الثأر تعاطفاً من الجمهور مع مبررات الجاني. ولا تحاط هذه الوقائع بالتعاطف مع الجناة فحسب؛ بل يجدون الحماية التي تحول دون مثولهم أمام القضاء الرسمي، وإذا وصلت القضية إلى الأجهزة الأمنية، يمتنع المحيطون عن التعاون مع الشرطة، وتكون إدانة الجناة أمراً عسيراً.
ختاماً؛ تعبر ظاهرة التعاطف مع الجناة مثل غيرها من الظواهر، عن مدى صعوبة استيعاب وتفسير النفس البشرية والظواهر الإنسانية المرتبطة بها، فبين الأبيض والأسود عشرات الدرجات من الرمادي. وعلى الرغم من ارتكاب الجناة جرائمهم على مرأى ومسمع من الجميع؛ فإننا نجد من يتعاطف معهم ويبرر أفعالهم تحت دوافع مختلفة، وما زالت هناك بعض المحاولات في مجال علم اجتماع الجريمة لدراسة تأثير التعاطف على ارتفاع معدل بعض أنماط الجرائم في بعض المجتمعات.
♦باحثة في علم الاجتماع السياسي