الواجهة الرئيسيةشؤون دولية
لماذا نجحت الولايات المتحدة في إعادة إعمار ألمانيا واليابان وفشلت في العراق وأفغانستان؟ (2-3)

كيوبوست
“لماذا فشلت الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق ونجحت في اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا؟” السؤال قد يبدو بسيطاً؛ فألمانيا وكوريا الجنوبية واليابان أصبحت دولاً قوية ومتقدمة وناجحة، في حين أصبح العراق وأفغانستان ساحتَين للفقر والبؤس والحروب الأهلية والمواجهات الطائفية، وتكاد فكرة الدولة نفسها تتهاوى وتغيب.
غير أن الأمر ليس بهذه البساطة، والمقارنة نفسها قد لا تصح من وجهة نظر كثيرين؛ فالسياقات السياسية التاريخية والاجتماعية والثقافية التي جرى فيها التدخل في الدول الثلاث “الناجحة” مختلف تمام الاختلاف عن نظيراتها في العراق وأفغانستان، وطبيعة النظام الدولي مختلفة تماماً، ففي حين كان “نجاح” الدول الثلاث يشكل مصلحة أمريكية كبرى في حربها ضد الشيوعية والاتحاد السوفييتي، فإن التدخل الأمريكي في العراق وأفغانستان كان ينطلق من نزعةٍ انتقامية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
اقرأ أيضًا: لماذا نجحت الولايات المتحدة في إعادة إعمار ألمانيا واليابان وفشلت في العراق وأفغانستان؟ (1- 3)
وحتى أهداف التدخل الأمريكي في العراق وأفغانستان كانت مختلفة عنها في حالات الدول “الناجحة”، بافتراض أن الأهداف المعلنة هي الأهداف الحقيقية، وأنه لم تكن هناك دائماً أجندة خفية وأهداف غير ظاهرة.
لكن ذلك كله لا ينفي أهمية السؤال، وضرورة طرحه، ومن ثمَّ قام موقع “كيوبوست” بطرح السؤال على عددٍ من الخبراء والباحثين للإسهام في تقديم إجاباتٍ، أو مراجعة السؤال ذاته، والاختلاف أو الاتفاق مع الطريقة التي طُرح بها.
السفير رون بروسور -رئيس مؤسسة أبا إيبان للدبلوماسية الدولية في جامعة ريتشمان- هرتزيليا- إسرائيل

إن إعادة الإعمار وبناء الدولة هي مسائل معقدة للغاية حتى بالنسبة إلى القوى العظمى، ويمكن أن يكون تحقيق النجاح على المدى البعيد أمراً في غاية الصعوبة.
ولذلك فإن أية مقارنة بين نجاح الولايات المتحدة في ألمانيا الغربية، واليابان وكوريا الجنوبية في القرن العشرين، وفشلها في العراق وأفغانستان في هذا القرن، تخاطر بأن تقع في الإفراط في تبسيط مجموعة واسعة من العوامل المؤثرة. ومع ذلك يمكن أن نشير إلى مجموعةٍ من الاختلافات بين هذه الحالات -عوامل خارجية (القوى الجيوسياسية) وعوامل داخلية (العوامل ضمن الدولة نفسها)- وأن نحاول أن نتوصل إلى بعض الاستنتاجات من ذلك.
اقرأ أيضًا: مقالة نشرت عام 1989 للرئيس الأفغاني أشرف غني بعد الانسحاب السوفييتي
في عام 1945 احتلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون ألمانيا الغربية المهزومة والمنهكة بعد ست سنوات من الحرب الشاملة التي أطلق شرارتها النظام النازي. ومع ذلك، كانت ألمانيا دولة قومية منذ القرن التاسع عشر، تتمتع بمؤسساتها الحكومية المحلية والفيدرالية. ولم تكن تعاني توتراتٍ دينية ذات بال مع أن سكانها منقسمون بين المذهبَين الكاثوليكي والبروتستانتي
أما اليابان، فكانت دولة تتمتع بشعبٍ متجانس من الناحية العرقية وبقيادة موحدة، وإن كانت هذه القيادة قد جلبت على شعبها دماراً لم يسبق له مثيل؛ القنابل الذرية التي أُلقيت على هيروشيما وناغازاكي. واستسلمت كل من اليابان وألمانيا ووافقتا على خطط إعادة الإعمار الأمريكية، وقبلتا أنظمة ديمقراطية ليبرالية.

وأخيراً، هنالك كوريا الجنوبية، الدولة المتجانسة عرقياً وذات القيادة الموحدة التي قاتلت فيها قوات الأمم المتحدة بقيادة أمريكية لمدة ثلاث سنوات؛ لضمان عدم احتلالها مرة ثانية من قِبل القوات الكورية الشمالية التي تدعمها الصين. من نواحٍ عديدة كان خيار الكوريين الجنوبيين محصوراً بين وجود أمريكي دائم، وخطط إعادة الإعمار، أو القبول بالشيوعية. أخذ الكوريون الجنوبيون الخيار الأول، وانضموا إلى الكتلة الغربية.
ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه بين عامَي 1948 و1987 كافحت كوريا الجنوبية في سبيل الديمقراطية، وشهدت فتراتٍ طويلة من الحكم الاستبدادي. واستغرق الأمر 40 سنة وعدداً من التغييرات في نظام الحكم قبل أن تصبح الجمهورية الديمقراطية التي نعرفها اليوم.
اقرأ أيضاً: حروب أمريكا الأبدية.. إلى أين؟
من المنظور الجيوسياسي، كانت الدول الثلاث جزءاً من المنافسة في حقبة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. أطلقتِ الولايات المتحدة خطة مارشال في عام 1974، لتمنع أوروبا من السقوط في أيدٍ شيوعية، ووقفت الولايات المتحدة بحزم على خط العرض 38 للأسباب نفسها. كما كان ينظر إلى القضاء على نظام الحكم العسكري في اليابان على أنه وسيلة لمنع جنوب شرق آسيا من الوقوع في أيدٍ شيوعية أيضاً.
تتناقض أفغانستان والعراق مع هذه الدول الثلاث من نواحٍ متعددة؛ أولاً كلا البلدين لم يكن يمتلك هياكل الدولة القومية التقليدية. فالعراق، كما جيرانه، ولد من رحم الاتفاقيات البريطانية الفرنسية التي قسمت الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى وفقاً لمصالح هاتين الدولتين. وقد رسمت حدود العراق بغض النظر عن التركيبة العرقية والطائفية لسكانه. وأفغانستان اليوم هي أبعد ما تكون عن مفهوم الدولة القومية الحديثة؛ وهي دولة قبلية عانت منذ الحقبة الشيوعية تغير الحكام والأنظمة بطرقٍ وحشية في معظم الأحيان.

وتكمن المشكلة الثانية في أن الولايات المتحدة وحلفاءها لم يفهموا الشرق الأوسط بشكل صحيح؛ فأحضروا معهم نفس الأدوات والطرق التي استخدموها لإعادة إعمار دول في مناطق غير كابول وبغداد، معتقدين أن نفس الصيغة يمكن أن تنجح في منطقة منقسمة على أُسس عرقية وطائفية ودينية وعشائرية. ومن غير المستغرب أن تفشل محاولات إقامة مؤسسات ديمقراطية غربية في دول مجزأة ذات خبرات محدودة أو معدومة في الديمقراطية. وفي كلا البلدَين عندما تحولت مقاومة الوجود الأجنبي إلى مستوى التمرد المسلح شنَّت الولايات المتحدة حملاتٍ لمكافحة التمرد أدَّت إلى المزيد من الموت والدمار، والمزيد من النفور بين سكان الدولتَين، ولم تحقق إنجازاً يُذكر.
الفرق الآخر بين العراق وأفغانستان من جهة، وألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية من جهة أخرى، هو السياق الجيوسياسي؛ فأثناء الحرب الباردة غالباً ما كان هنالك خياران أمام الدول التي تسعى إلى رعاية خارجية، إما الوقوف إلى جانب الغرب، وإما إلى جانب الكتلة السوفييتية.
اقرأ أيضاً: الجليد يتكدس بين بايدن وبوتين.. هل تعود الحرب الباردة مجدداً؟
وفي العراق وأفغانستان سارعت العديد من القوى الأجنبية للتدخل وإعاقة الجهود الغربية؛ ففي أفغانستان كانت باكستان -الدولة الراعية لـ”طالبان”- بينما رسمياً هي حليف للولايات المتحدة، وفي العراق كانت الجارة إيران سريعة في بسط نفوذها مع الحكومات الشيعية الجديدة في بغداد. وفي نهاية المطاف، عجزت الولايات المتحدة عن تقويض تدفق التأثيرات الجانبية.
يمكننا استخلاص ثلاثة استنتاجات رئيسية من هذا التحليل:
الاستنتاج الأول، هو أن دول الجوار كلها تراقب؛ فالصينيون والروس والإيرانيون ينظرون إلى الولايات المتحدة، وهي تلعق جراحها ويبحثون عن طرق لتحدي أمريكا وحلفائها. وهذا أمر له تداعيات استراتيجية مقلقة بالنسبة إلى أصدقاء واشنطن في الشرق الأوسط الذين لم يعودوا قادرين على الاعتماد حقاً على دعمها، ويبحثون عن بدائل لهذا الدعم.
الاستنتاج الثاني، هو أن أيام بناء الدول في الغرب قد ولَّت؛ فبعد عشرين عاماً وبعد خسارة الآلاف من أرواح الغربيين، وإنفاق تريليونات الدولارات من أموال دافعي الضرائب، أصبح التناقض بين الاستثمار وعائداته واضحاً أكثر من أي وقت مضى. فبدلاً من دولةٍ ديمقراطية خالية من الإرهاب تتحول أفغانستان إلى دولة مخدرات وملاذٍ آمن للمتطرفين، دون خوف من أي تدخل عسكري أجنبي. لن يؤدي هذا التطور الخطير في الأحداث إلى تقويض استقرار الدول المجاورة فحسب؛ بل سوف يهدد، وخلال وقتٍ قصير، القيم والأمن الغربيين مرة أخرى. وكذلك الأمر في العراق، فمن المرجح أن يسرع الأمريكيون الجدول الزمني المقرر لرحيلهم؛ مما سيسعد إيران ووكلاءها في العراق، وفي المنطقة بشكلٍ عام.

الاستنتاج الثالث، هو أن النهج الغربي في التعامل مع منظمات مثل “طالبان” و”حزب الله” و”حماس” خاطئ في جوهره؛ فالدول الغربية تتمسك بتمييزٍ مزيف بين الجناحَين “السياسي” و”العسكري” لهذه المنظمات، وكأنها مؤسسات عصرية تتمتع بفصلٍ قوي بين السلطات. وقد سمحت هذه الفكرة لبعض الدول الغربية بالمحافظة على قنوات اتصال مع “حزب الله”، المنظمة الشيعية المتطرفة وذراع إيران، التي تدير شبكة إرهابية عالمية وتخنق ببطء بلداً جميلاً مثل لبنان.
وقد تجلت عبثية هذا النهج بأوضح صورها في أفغانستان في الأيام الأخيرة؛ فبينما كان ممثلو “طالبان” (السياسيون) يجلسون في الدوحة، و”يتفاوضون” مع الغرب، كان رفاقهم في الوطن يضعون اللمسات الأخيرة على خططهم للسيطرة على البلاد. إن الاعتقاد بأن القادة العسكريين كانوا ينتظرون إشارة من زملائهم “السياسيين” في الدوحة، أو أن خططهم لم تكن منسقة بالكامل مسبقاً، لهو نوع من الانخراط في خداع الذات.
اقرأ أيضًا: د.فضل الله ممتاز: الحكومة الأفغانية لم تتهيأ لتبعات انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان
خلاصة القول، إن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان سيعزِّز من تصور العناصر المتطرفة في المنطقة بأن المقاومة ضد الولايات المتحدة واستنزافها يمكن أن يحققا نتائج بمرور الوقت. و”حماس” و”حزب الله” وغيرهما من المنظمات تصور هذه التطورات على أنها انتصار جهادي على قوى الاستعمار والكفر.
وبمعنى أوسع، يعزز الانسحاب التصورَ بأن الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط سيغير موازين القوى في المنطقة، وسيعزز الهيمنة الإيرانية. وهذا تطور لا يمكن للقوى الليبرالية في المنطقة أن ترحب به.