الواجهة الرئيسيةترجماتثقافة ومعرفةمجتمع

لماذا نبكي؟ اكتشافات علم النفس بشأن الدموع العاطفية

ما هي دوافع البشر للبكاء؟ "التنفيس" و "تفريغ العواطف"؟

ترجمة كيو بوست –  

بقلم أستاذ الطب النفسي في جامعة كاليفورنيا، د. جوزيف بيير

استندت غالبية المقالات الأكاديمية حول البكاء على كتابين جديرين بالملاحظة، تحدثا بالتفصيل حول هذه الفطرة الإنسانية. الكتاب الأول حمل عنوان “لماذا يحب البشر أن يبكوا: المأساة والتطور والدماغ”، من تأليف طبيب النفس العصبي، البريطاني مايكل تريمبل. والكتاب الثاني حمل عنوان “لماذا البشر وحدهم يبكون: الكشف عن ألغاز الدموع”، من تأليف عالم النفس الهولندي آد فينغرهوتز.

يبدو أن البكاء العاطفي سلوكٌ إنساني فريد. يمكن للحيوانات البكاء كجزء من الأداء الطبيعي للعين، لكن البشر هم من يبكون بشكل منتظم نتيجة للحزن والعواطف المعقدة الأخرى. البشر يبكون في سياق مشاعر نمطية معينة. على سبيل المثال، قد نبكِ على وفاة أحد الأحباء بموجب مشاعر الحزن، ولكننا نبكي أيضًا عند ولادة طفل لنا، انطلاقًا من المشاعر النبيلة. وقد نبكِ عند انتهاء علاقة رومانسية، وربما نبكِ كذلك في حفل زفافنا وتكوين رابطة زوجية جديدة.

من الصعب وصف العواطف التي نمر بها خلال هذه المواقف بالكلمات، وغالبًا ما تتجاوز كلمتي “سعيد” أو “حزين”، إلا أن البكاء يساعدنا في إيصال ما نشعر به بطريقة لا تستطيع اللغة إيصالها.

ركز الباحثون مثل د. فينغرهوتز على وظائف البكاء الداخلية (آثار البكاء على الفرد)، وأيضًا على وظائفها الخارجية (آثار البكاء على أشخاص آخرين). وقد أوضحوا أن الجوانب الشخصية للبكاء تفسر بشكل خاص استثنائية وانحصار البكاء في البشر، بحكم تطوره في إطار مجموعة من السلوكيات الاجتماعية، التي جعلتنا مخلوقات ناجحة. ووفقًا لهذا الرأي، فإن البكاء هو في الأساس شكل من أشكال التواصل الاجتماعي غير اللفظي، يهدف إلى الحصول على المساعدة والراحة والدعم الاجتماعي من الآخرين.

وقد أظهرت الأبحاث الحديثة أن رؤية بكاء الآخرين بمثابة إشارة موثوقة للحزن أو المحنة، بطريقة أكثر إقناعًا من الكلمات، والتي عادةً ما تؤدي إلى الشعور بالترابط والتعاطف والرغبة في المساعدة.

لكن الأمور تصبح معقدة لأن ردود الفعل على البكاء تختلف باختلاف عوامل كثيرة، مثل الجنس والسياق الاجتماعي. على سبيل المثال، من المرجح أن نتعاطف مع البكاء في بيئة حميمية أكثر من تعاطفنا مع البكاء مع من في بيئة العمل، مما يؤدي إلى استجابات سلبية. وليس من المستغرب أن النساء يملن إلى التعاطف أكثر تجاه البكاء من الرجال. يُنظر إلى الرجال الذين يذرفون دموعًا -دون صوت- على أنهم حساسون، وفي الوقت ذاته قادرون على السيطرة، بينما يُنظر إلى بكاء الرجل المسموع على أنه علامة على الضعف.

قام د. فينغرهوتز و د. غرازينين و د. بيلسما بوضع البكاء في قالب السلوك المهدئ ذاتيًا. بعبارة أخرى، نحن نبكي في حالات الحزن والمشاعر السلبية الأخرى لأن البكاء يساعدنا على الشعور بتحسن. يحظى هذا الاعتقاد بدعم استطلاعات “بكاء الأثر الرجعي”، وكذلك باستطلاعات د. غويندا سايمونز في جامعة أوكسفورد، التي تؤكد أن الناس يسمحون أو يشجعون أنفسهم على البكاء خدمة لـ”التنفيس” أو “تطهير العواطف”.

ولكن ما يعقد الأمور، هو أن دراسات استقصائية أخرى أكدت أن بعض البكاء يجعل الناس يشعرون بالأسى، خصوصًا عند مشاهدة أفلام حزينة. ولتوضيح هذا التناقض، أجرى د. غرازينان وزملاؤه دراسة عام 2014، أوضحوا فيها أن التناقض الواضح بين تأثيرات المزاج عند البكاء أثناء مشاهدة الأفلام تخضع لـ”تحيزات الذاكرة”، فإذا كانت ذكرياتنا المشابهة لأحداث الفيلم جميلة، فسنشعر بالتحسن، وإذا كانت الذكريات سلبية، فسنشعر بالأسى.

هنالك أيضًا ما يسمى “بكاء ما بعد الصدمة”، إذ يساعد البكاء على إعادة تأطير المحنة النفسية أو الجسدية، سواء كانت سلبية أم إيجابية، بعد مرورها بسنوات. على سبيل المثال، قد تبكي المرأة بعد سنوات من ولادة جنينها، عندما تستذكر تفاصيل الولادة نفسيًا وجسديًا. ويمكن تفسير هذا الأمر وفقًا لإحدى النظريات الشائعة، التي تؤكد أن اضطراب ما بعد الصدمة بحاجة إلى “إعادة إدماج” الذاكرة من أجل الانتعاش والشفاء.

وفي بحث آخر أجري عام 2015 من قِبل د. غراسينين و د. فينغرهوتز، تبين أن البكاء حين يتذكر الفرد الماضي السلبيّ يضعه في مزاج سيء أول (20) دقيقة، وبعدها يبدأ بالتحسن التدريجي، وبعد (90) دقيقة، تصبح حالته المزاجية أفضل بكثير من الوقت الذي سبق عملية التذكر. وبالتالي، يمكن الاستنتاج أن البكاء بسبب ماضٍ سلبي سيحسن من حالتك المزاجية، برغم دخولك في حالة سيئة أول (20) دقيقة. وعلى ضوء هذا، يمكن الجزم بأن البكاء يخدمنا حقًا في التنفيس، وفي تطهير المشاعر السلبية التي لن ترحل من أنفسنا لولا هذه الفطرة الإنسانية.

لقد مضى أكثر من ألف سنة منذ أن فكّر أبقراط في وظيفة البكاء في إطلاق “الدعابة السيئة” من الدماغ، ومنذ أن كتب أرسطو أن البكاء “يطهر العقل”. وبالنسبة للإغريق القدماء، البكاء عملية تعويضية تساعدنا على التركيز نفسيًا وعاطفيًا. ومن الناحية الفلسفية، نحن بحاجة إلى تجربة الحزن كي نعرف السعادة.

 

المصدر: “سايكولوجي توديه

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة