الواجهة الرئيسيةتكنولوجياثقافة ومعرفةشؤون دولية
لماذا تعمل الصين جادة لتحقيق “الاكتفاء التكنولوجي”؟

كيوبوست- منير بن وبر
أكد الرئيس الصيني، في يناير الماضي، أهمية أن تسعى الصين جاهدةً للريادة العالمية في المجالات العلمية والتكنولوجية، وأن على الأمة الإسراع في بناء “نمط تنمية جديد”، وإلا فإنها تخاطر باحتوائها من قِبل الدول الأجنبية. ووفقاً لصحيفة “ساوث تشاينا مورنينج بوست” فإن تعليقات الرئيس الصيني، شي جين بينغ، تسلِّط الضوء على الشعور بالحاجة التكنولوجية المُلحة في بكين وسط جهود واشنطن لتقويضها.
لا شك أن الصين هي المنافس الحقيقي للولايات المتحدة. وعندما تصل دولة ما إلى هذا المستوى من القوة، فإن القلق من أن يلحق بها الآخرون أو يحلون مكانها يصبح تهديداً جاداً. هذا هو السبب في التنافس المحموم بين واشنطن وبكين حالياً، لكن الصين تخشى صعود القوى الأخرى أيضاً، كالهند، واللحاق بها. عندما يكون أولئك الآخرون شركاء أو حلفاء، كما هو الحال بين الولايات المتحدة والهند، فإن المخاوف بالنسبة للصين تصبح أكثر جدية.
اقرأ أيضاً: مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة والصين: تعاونية أم تصادمية؟
تعمل الدول التي تسعى لمزيدٍ من النفوذ العالمي على تحقيق القوة الوطنية الشاملة باستمرار، ذلك يعني تطوير قطاعاتٍ متنوعة، من الاقتصاد إلى القوة العسكرية إلى التعليم والتكنولوجيا، وغيرها من المجالات. اليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى، يوجد شعور بأن التكنولوجيا يمكنها أن تسرّع نمو الدول بوتيرةٍ أعلى؛ مما يوجه العالم -على ما يبدو- نحو عالم متعدد الأقطاب، حيث لا تفرض دولة أو اثنتان نفوذها على البقية. في هذا السباق العالمي المحموم، ستصبح الدول التي تتقاعس عن تحقيق الريادة العلمية والتكنولوجية متخلفة عن الركب.
الاكتفاء التكنولوجي
تسعى الصين لتسريع تطوير العلوم والتكنولوجيا لضمان قدرٍ أكبر من الاعتماد على الذات في هذا القطاع الحيوي؛ حيث أصبحت بكين أكثر عزلة نتيجة العقوبات والمخاوف التجارية والمنافسة العالمية. تأمل الصين بأن يكون الابتكار العلمي والتكنولوجي استراتيجيتها الناجحة لمواجهة المنافسة الدولية الشرسة.
من جانبها، ولأسبابٍ تتعلق بالأمن القومي الأمريكي، تشعر الولايات المتحدة بالقلق من وصول الصين إلى أشباه الموصلات الأمريكية، وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. تُعد هذه أحد أسباب التوتر بين الدولتين العُظميين، حيث تعمل الولايات المتحدة على تشديدِ القيود على الصادرات التكنولوجية الأمريكية، مثل أشباه الموصلات، إلى الصين. لمواجهةِ تلك التحركات، يؤكد الرئيس الصيني على ضرورة تسريع وتيرة الاعتماد على الذات في مجال التكنولوجيا، وأن تصبح مركزاً علمياً رئيساً ومركزاً للابتكار في العالم.

في تصريح حديث، قالت وزيرة التجارة الأمريكية، جينا ريموندو، أن بلادها لا تسعى إلى فك الارتباط التكنولوجي بالصين. ومع ذلك، تتجه واشنطن لأن تكون الهند، خصمُ الصين، مورداً رئيساً للأجزاء والأجهزة الإلكترونية للولايات المتحدة. وقالت وزيرة الخارجية في حديث لها مع الصحفيين بعد اجتماع مع وزير التجارة الهندي، شري بيوش جوبال، إن الهند شريك تقني موثوق به يمكن أن يصبح مورداً في “سلسلة توريد الإلكترونيات بأكملها، وليس فقط أشباه الموصلات”.
وعلى عكس تصريح ريموندو، فإن بكين تنظر إلى مثل تلك السياسات على أنها تأتي ضمن جهود تقويض نموها، وهو ما يحتم عليها تطوير قدراتها في التقنيات الأساسية مثل الرقائق والذكاء الاصطناعي لتحقيق مزيد من التنمية الاقتصادية للصين، وتعزيز الأمن والاستقرار، وتعزيز القدرة على البقاء والتنافسية.
مخاوف أمنية
من جانب آخر قالت ريموندو، خلال زيارة لها إلى الهند، أن الصين تحاول الوصول إلى التكنولوجيا الأمريكية لاستخدامها في جيشها، مضيفة أن واشنطن بحاجة إلى حماية نفسها وحلفائها وشركائها من إمكانية حدوث ذلك. وأشارت ريموندو إلى أن طموحات الهند لتوسيع قطاع التكنولوجيا لديها تتماشى مع رغبة الولايات المتحدة وهدفها في جعل سلسلة التوريد الخاصة بها أكثر مرونة.
اقرأ أيضاً: أمريكا قد تخسر سباق التكنولوجيا مع الصين
حققت الصين خلال العقود القليلة الماضية نجاحات اقتصادية ضخمة؛ مما يجعلها، من بين عوامل أخرى، تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة كقوة عالمية. تمتلك القوى العظمى القدرة على التأثير في الأحداث واستعراض القوة في جميع أنحاء العالم بفضل نفوذها الاقتصادي والعسكري والسياسي. عند النظر في ملامح تلك القوة، سنجد أن أبرزها الاقتصاد الكبير والجيش المحترف والأسلحة النووية والتقدم التكنولوجي.
لا تنشر الصين معلومات مفصلّة حول قدراتها العسكرية؛ مما يجعل من الصعب معرفة مدى تقدم قواتها حقاً. ومع ذلك، لا يوجد شك في تفوق الولايات المتحدة على الصين من الناحية التكنولوجية العسكرية والقدرات القتالية. وتنفق الولايات المتحدة على الدفاع أكثر من أي دولة أخرى في العالم، وجيشها مجهز بأحدث التقنيات. يمتلك الجيش الأمريكي أفضل الأسلحة والمعدات المتوفرة، من أحدث الطائرات المقاتلة إلى الغواصات النووية. تؤدي التكنولوجيا دوراً مهماً للغاية لكسب مزايا تنافسية عسكرية فريدة. تستثمر الولايات المتحدة بكثافة في البحث والتطوير من أجل الحفاظ على تفوقها في هذا المجال.

وبالرغم من تأخر الصين تكنولوجيا عن الولايات المتحدة، فإنها أحرزت تقدماً لا يمكن إنكاره في السنوات الأخيرة. يعتقد بعض الخبراء أن الصين تغلق بسرعة الفجوة مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بالتكنولوجيا الدفاعية والعسكرية؛ بفضل الاقتصاد القوي الذي يوفر الموارد اللازمة لتمويل القوة العسكرية والتكنولوجيا. إذا استمر هذا الاتجاه، كما يجادل البعض، فقد نشهد عودة إلى عالم متعدد الأقطاب تمارس فيه عدة دول قوة كبيرة على المسرح العالمي؛ نتيجة تعاظم منافع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وقدرتهما على خفض التكاليف وزيادة الجودة.
استراتيجية بناء القوة الوطنية الشاملة
تتصدر أقوى دول العالم عناوين الأخبار دائماً بسبب تأثيرها على السياسات والاقتصاد العالمي. تتم مراقبة السياسات الخارجية لتلك الدول ودراسة ميزانياتها العسكرية بدقة. ويعتقد بعض الخبراء أن الصين تبرز الآن كقوة عظمى مُحتملة، بينما يجادل آخرون بأن النظام الدولي الحالي معقد للغاية لدرجة أنه يصعب على أي دولة الهيمنة بمفردها. بغض النظر عن الجدل، فإن فكرة القوة ببساطة تعني القدرة على التأثير على المسرح العالمي.
لبناء قوة وطنية شاملة تمكّن الدولة من تحقيق أهدافها الاستراتيجية على المسرح الدولي تحتاج الدولة – بلا ريب – إلى قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية كبيرة، لكنها تحتاج أيضاً إلى قوة تكنولوجية وعلمية ومستوى متقدم من الرقمنة، إضافة إلى النظام السياسي الداخلي المستقر والدبلوماسية المؤثرة والتأثير الثقافي العالمي.
اليوم، بخطى سريعة، تتقدم دول مثل الهند وروسيا وكندا وكوريا الجنوبية في طريق بناء قوة وطنية شاملة تمكنها من أداء دور عالمي ملموس ومؤثر. لم يعد السباق محصوراً على دول الشرق والغرب فقط، بل انضمت إلى السباق دول من أمريكا اللاتينية مثل البرازيل، والشرق الأوسط مثل الإمارات العربية المتحدة والسعودية وتركيا وإيران. تساهم التكنولوجيا في تسهيل الوصول إلى أفضل المعارف والعلوم وإبقاء الشعوب مطلعة، متصلة، مستنيرة وأكثر قدرة على اتخاذ أفضل القرارات وإعطاء أفضل ما لديها؛ الأمر الذي ينعكس إيجاباً على الدول.
يمكن للتسابق التكنولوجي والتنافس العالمي من أجل بناء القوة الوطنية الشاملة أن يوحّد عدد من الدول ضد أخرى، أو ضد مجموعة أخرى، إما للحفاظ على الريادة أو منع الآخرين من اللحاق بهم. لتجنّب تجرِبة سيئة لمثل هذا السيناريو على الصين؛ تسعى بكين لزيادة قدراتها واعتمادها على الذات في مختلف المجالات، مع إبقاء العين مفتوحة على التكنولوجيا والعلوم التي يبدو أنها تحدد الكثير من مستقبل عالمنا خلال السنوات القليلة التالية.